لقد كانت سنة 2010 سنة الخسائر بالنسبة للثقافة العربية ولتيار الفكر العقلاني حيث فقدت الساحة الفكرية عددا من المفكرين العرب، وكان التتابع في الموت في 3 مايو لمحمد عابدالجابري وفي 5 يوليو لنصر حامد أبو زيد ثم في 14 سبتمبر لمحمد أركون، ثلاثتهم كانوا من المفكرين التنويريين الذين عملوا علي قراءة التراث قراءة تحليلية واعادة فهمه بإخضاعه لمنطق العقل والنقد. بدأت محنتهم عندما خرجوا علي سرب التقليد، فأركون غادر بلده لمدة طويلة، وأبو زيد لجأ إلي المنفي بعد أن تم تكفيره وتطليقه من زوجته بحكم قضائي، ومن لم يتعرض للنفي كالجابري لم يسلم من ألسنة المتطاولين. رحل الجابري وبقيت إشكالياته الفكرية! لقد تزامن التألق الفكري لمحمد عابد الجابري (1936- 2010) مع هبوب رياح العولمة وبداية المد الديني الأصولي في المرحلة التي شهدت تراجع الفكر القومي والفكر اليساري وهما منظومتان فكريتان شغلتا المشهد السياسي والفكري العربي في فترة ما بعد الاستقلال. والجابري أثار خلال مسيرته الفكرية كثيرا من الجدل وبقدر ما حظي باحترام وتكريم من اليونسكو، فقد تناولته أقلام متعددة بالنقد والاتهام علي أسس فكرية أو من منطلقات دينية، المنتقدون من التيارات الفكرية منهم حسن حنفي وجورج طرابيشي الذي خصص موسوعته "نقد نقد العقل العربي" للرد علي عقلانية الجابري التي اتهمها بالمنحرفة والمتحيزة وشكك بأصالة منطلقاته في تعريفه وتحليله للعقل، أما المنتقدون من التيارات الدينية فقد ظهروا بعد نشره لكتابه الأخير "التعريف بالقرآن" حيث تطرق لمسألة الزيادة والنقصان في الآيات القرآنية واعتبروا أن الجابري مس الخطوط الحمراء حيث تساءل بناء علي روايات تراثية إن كان القرآن الذي بين أيدينا يحتوي كل الآيات دون نقص ولا زيادة؟. ان الحراك الذي أثاره الجابري ومنتقدوه ومؤيدوه شكل نهضة فكرية هي أقرب للتي أثارها مفكرو عصر النهضة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بتياراتهم الإسلامية والوطنية، فقد اثار الجابري نفس التساؤلات عن التراث والهوية والتعليم والدين مختصرة في سؤال: لماذا تقدم الغرب وتخلف المسلمون؟ وقد جدد التساؤلات ولكن ضمن معطيات جديدة من خلال كتبه، سواء تعلق الأمر بالتربية والتعليم: "أضواء علي مشاكل التعليم بالمغرب"، "من أجل رؤية تقدمية لبعض مشكلاتنا الفكرية والتربوية"، أو تعلق الأمر بالتراث: "نحن والتراث: قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي"، "المثقفون في الحضارة العربية الإسلامية محنة ابن حنبل ونكبة ابن رشد"، أو تعلق الأمر بالعقل: "تكوين العقل العربي"، "بنية العقل العربي"، "العقل السياسي العربي"، "العقل الأخلاقي العربي"، أو تعلق الأمر بالدين فهما وتفسيرا وهو الموضوع الحاضر في كتاباته وخصوصا في كتابه الأخير حول القرآن. رحل المفكر محمد عابد الجابري ولم ترحل إشكالاته وتساؤلاته الفكرية، فما زال الواقع العربي بحاجة لمفكرين عقلانيين ومتنورين يخترقون جدران الجهل والتخلف والظلم والاستبداد. نصر حامد أبو زيد .. التفكير في زمن التكفير! كان نصر حامد أبو زيد (1943- 2010) وجها من وجوه طليعة نقدية حاولت اختراق أسوار الممنوع العقلي والثقافي في حياتنا، إنه مفكر واجه الانغلاق الفكري وسلطة المقدس والموروث منفتحا علي أكثر الأسئلة ارتباطا بالمرحلة التي عرفت انتعاشا غير مسبوق لسطوة التقليد أراد أصحابها إعادة تنشيط عقلية الوصاية والهيمنة علي المجتمع العربي في لحظة عرفت انتكاسا وتراجعا لمشاريع التحديث والتقدم الاجتماعي والسياسي. يمثل مشروع نصر أبو زيد أحد المشاريع الفكرية العربية التي حملت علي عاتقها هم العقلنة كما يمثل مواجهة علمية نقدية للمسكوت عنه في ثقافتنا الموروثة كاشفا عن مأزق الخطاب الديني السائد من خلال كتاب نقد الخطاب الديني وكتب أخري منها: "الاتجاه العقلي في التفسير"، "فلسفة التأويل"، "مفهوم النص دراسة في علوم القرآن"، "اشكاليات القراءة واليات التأويل"، "دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة"، "التفكير في زمن التكفير"، "الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية". كان نصر أبو زيد علي قناعة بأنه لا سبيل لتقدم العرب والمسلمين وإصلاح أوضاعهم إلا بنقد الخطاب الديني وقراءة التراث بمنظار العقل، كما دعي إلي تفسير علمي مدعم بالحجج، ينطلق من النص ليصنفه في سياقه التاريخي فيفرق بين المعاني العقائدية والمعاني التي فرضها السياق التاريخي، وبنفس الوقت كان أبو زيد مدافعا عن حقوق المرأة وعن مفهوم المواطن الفرد وحقه بالمشاركة في تقرير مصيره وعمل في كل أبحاثه وكتاباته لوقف عملية تديين السياسة وتسيس الدين. إن من يزعم امتلاك الحقيقة الدينية واحتكار تفسيرها هو في الواقع يعارض إرادة المفكرين في البحث العلمي، ويعارض حرية الناس في اختيار ما يرونه مناسبا من تفسير يناسب حياتهم الحديثة، ومن الطبيعي أن يتمسك التيار الديني باحتكاره لآلية فهم الحقيقة الدينية، لأن أي تراجع لصالح حرية الاختيار وتعددية الفهم هو بمعني تقديمه تنازلات قد تهدم بنيانه. ان الاتهامات مثل ملحد وزنديق ومرتد وكافر والتي كانت وستظل توجه إلي أبوزيد بسبب اعتباره متعديا علي ثوابت الدين نستنتج منها أن اتهام أبوزيد جاء استنادا إلي الاختلاف معه في فهم الثوابت الدينية وليس الاختلاف علي أصل هذه الثوابت، لذلك فإن فكر أصحاب التيار الديني يعيش أزمة تتمثل في تكفير وإلغاء الآخرين، واعتبار أن فهمهم للقرآن هو فهم نهائي وخاص بهم فقط، كما أنهم لا يحكمون علي التفسير الآخر بأنه خاطئ فحسب وإنما يعتبرونه خارجا عن الدين ولا يعبر عن أي فهم للقرآن. رحيل أركون وبقاء الأركونية! الانتصار المعرفي الذي أحدثه محمد أركون (1928- 2010) ضد الجمود الذي يحيط بالعقل العربي والإسلامي من خلال إدانته للقراءة الدينية التي تتراوح بين التقليد والتحامل، انما هو انتصار لصالح انهدام الأصولية والاستشراق، الأصولية التي تعمل علي رهن الحاضر والمستقبل لمقولات الماضي لتنتهي بتصور مشوه للفكر الديني، والاستشراق الذي يعمل علي منهج ناتج عن تحامل وتعتيم. ومنهج أركون يمر بثلاثة مستويات: الاستخدام المنهجي والتاريخي الوضعي "دراسة عمودية"، ثم المنهجية التاريخية كما هي في مدرسة الحوليات الفرنسية "دراسة أفقية"، ثم مستوي الفلسفة والنقد المعرفي "الأبستمولوجي"، أو التركيب بعد التفكيك، وكان يري أن الفكر الإسلامي يرتكز علي ثلاثة عناصر هي: العقل، والخيال، والثقافة، وقد أصر أركون علي انفتاح إسلامي علي أفكار التنوير والعقلانية وكان يبحث عن طريق للتعايش السلمي بين الأديان والحضارات معارضا بذلك لنظرية صراع الحضارات، كما رأي أن الوهم في الفكر الإسلامي و الفكر الغربي مبني علي أن ثقافة الآخر هي العدو. بدأ أركون مشروعه الفكري كرد علي المعرفة الاتباعية بالتقليد، ونتيجة ذلك واجه التهم التكفيرية لكنه واصل جهوده العلمية منجزا الكثير من المؤلفات منها: "بحث في علم الأخلاق"، "قراءات في القرآن"، "الاسلام الدين والمجتمع"، "الفكر العربي الاسلامي"، "أين هو الفكر الاسلامي المعاصر"، "الاسلام أوروبا والغرب"، "نافذة علي الاسلام"، "من الاجتهاد الي نقد العقل الاسلامي"، "الاستشراق بين دعاته ومعارضيه"، "كيف نفهم الاسلام اليوم"، "قضايا في نقد العقل الديني". لقد ساهم أركون في ضبط آليات التفكير العربي الاسلامي، وفي تقديم صورة مضيئة للاسلام الحقيقي، وهو واحد من المفكرين العقلانيين والتنويريين الذين استوعبوا حقائق عصرنا استيعابا عقليا نقديا، وجعلوا من المناهج التعليمية والتربوية مراكز لتجديد المعارف والابداع والابتكار، وبرحيله تنتهي حياة مفكر نادي بضرورة مواجهة تردي الفكر العربي بتنوير العقل العربي. ان مسيرة التقهقر والتخلف الفكري للمجتمعات العربية قد تخللتها مراحل تنويرية الا أنها قد تم القضاء عليها وعلي أصحابها وذلك منذ استطاع الأصوليون استخدام سلطان الحكم لمصلحتهم وإثارة الناس علي أي مفكر أو فيلسوف حاول إعمال العقل والمنطق للبحث في شؤون الدنيا والدين، فتم علي سبيل المثال قتل ابن المقفع، وجلد بشار بن برد حتي مات، وسجن جابر بن حيان حتي فارق الحياة، وصلب الحلاج، وأعدم السهروردي، ورمي بالكفر أبو بكر الرازي وابن الراوندي والمعري والكندي والفارابي وعمر الخيام، وفي عصرنا يطرد المفكرون والمبدعون العرب من أوطانهم ليعودوا إليها جثثا أو في صراع مع الموت.