الصراع بين العلم والدين أمر تاريخى دائم ومستمر فمنذ جاء الدين كان هناك المتفقون معه المعترضون عليه، لأن الصراع بينهما هو صراع العقل فى مواجهة النقل، وكتب صلاح سالم فى صحيفة الحياة تحت عنوان "بين العقلنة والعلمنة.. مآلات الدين فى العالم الحديث" يقول كان الدين، لزمن طويل مضى، تمكن من شغل الناس وحفز حركة التاريخ وصوغ المعنى النهائى للوجود الإنسانى، وذلك بالإجابة عن السؤالين الخالدين: من أين أتينا؟ وإلى أين نصير؟ وهو المعنى الذى كفل للإنسان الصمود فى مواجهة ما يعانيه من ضغوط وتحديات طالما عصفت بوجوده كالموت، أو شوهت حضوره كالألم والفشل والظلم... إلخ، فقدم له السند والعون فى مواجهتها. وأضاف "صلاح سالم" انطلقت سيرورة عقلنة للوجود التى فرضها نضوج التاريخ البشرى، على نحو منح العقل الإنسانى حرية التجول فى مناحى الوجود، مقدماً إسهاماته وتصوراته، لقد كان ممكناً، بل ومطلوباً، تحت ضغط الحداثة، أن ينزاح الدين من المجال العام إلى ضمير الفرد المؤمن، وأن يتنازل عن ادعاءاته بالقدرة على تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على المعارف والعلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحى والضبط الأخلاقى. ورأى صلاح سالم أن العقلانية تفضى إلى علمنة السياسة، كظاهرة تتجذر فى الإصلاح البروتستانتى، وتستدعى المثل التنويرية إلى قلب النظم السياسية، ضمن عمليات البحث عن أفضل الآليات (العقلانية) لإدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها، ولكنها لا تقود حتماً إلى علمنة الوجود، إذ لم يكن مطلوباً ولا مرغوباً فيه أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته بفعل نمو العقلانية كما بشرت فلسفة الدين الوضعية، لأن حضور العقل لا يفترض بالضرورة غياب الإيمان. وأضاف صلاح سالم، العقلانية الحديثة نفسها هى التى منحت الإيمان سيفاً جديداً يحارب به منطقها المادى الخالص ونزعتها الوضعية المتطرفة، ويكتسب من خلاله أهمية مضاعفة، كونه، أى الإيمان، هو الوحيد القادر على انتزاع بذرة الخوف والقلق التى نبتت فى قلب العالم الحديث (العقلانى)، والتى انعكست فى شعور عميق لدى الإنسان بالنسبية وعدم اليقين، على رغم كل الممكنات والأبنية التى وفرته الحداثة جعلت حياته أكثر راحة، وأكثر أمناً فى ما يتعلق بجسده. وأكد صلاح سالم، أما إذا انطلقنا من العبارة الأساسية، فنحن أمام سيرورة علمنة وجودية، تتنامى فى مجتمعات الما بعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة... الخ)، بفعل الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية والنظم الإدارية التى تنتهجها تلك المجتمعات فى إدارة العلاقة بين أطرافها مكوناتها، وهى سيرورة تؤدى تدريجياً، من دون إعلان عن ذلك، وأحياناً من دون وعى به، إلى تفكيك الدين فى الوجدان الفردي، ونفيه عن الوجود الاجتماعي، فلا تنحيه فقط عن السياسة، بل تحرمه أيضاً من دوره فى صوغ نظم القيم السائدة، والتقاليد الاجتماعية التى طالما عبرت عن نفسها فى قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة. وتابع صلاح، هذه السيرورة تبدو منطقية تاريخياً فى السياق الغربي، كتتمة لسيرورة العلمانية السياسية فى دوله، ونتاج موضوعى لتنامى العقلنة فى مجتمعاته. أما المفارقة الكبرى فتكمن فى وجود سيرورة كهذه فى المجتمعات العربية الإسلامية، لا تمثل تتمة لعلمانية سياسية غير قائمة أصلاً فى دولها، بل على العكس ترتبط بنزوع تيارات فيها، إلى استمرار التوظيف السياسى للإسلام، ومحاولة قسر المجتمعات الحاضنة له على العيش ضمن نمط حياة تقليدية يرسم معالمها النص المؤسس له، أو توحى به التجربة التاريخية للرعيل الأول من المؤمنين به، حتى يسهل تطبيق الشريعة / القوانين الدينية عليها. جوهر المفارقة إذاً هو أن العلمنة الوجودية إنما هى نتاج لنقص العقلانية العربية الإسلامية، وليس لتمددها أو تجاوزها، فالجماعات التى ترفض الفصل بين النظام السياسى كمجال عام، والإيمان الدينى كمجال خاص، هى نفسها التى تتجاوز هذا المستوى الضرورى من العلمنة (السياسي)، إلى المستوى الأعلى منها (الوجودي). ففى طريقها إلى مناوئة نظم الحكم القائمة، التى تراها مجرد طواغيت تسعى إلى سرقة الحاكمة الإلهية، وتعطيل الشريعة الإسلامية، تستحل تلك الحركات جماع القيم الأخلاقية التى تصوغ جوهر (الروحانية الدينية)، وتحث المؤمن على محبة الآخرين والتعاون معهم والبر بهم. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يتجاوزون أحكام الشريعة نفسها التى يدعون إلى تطبيقها فى العديد من الأحيان، ليس فقط عبر الإرهاب الذى يقتل أبرياء تنهى جل الأديان عن إراقة دمائهم، حتى أن الإسلام يعتبر قتل نفس واحدة بمثابة قتل للناس جميعاً، أى للإنسانية برمتها، بل وأيضاً فى التشريعات التى تخص حرمة المال والعرض، حيث يتم التساهل فى سرقة غير المنضوين تحت لواء تلك الحركات، بحجة أن مالهم حرام، وأن سرقته تحل ما دامت تصب فى دعم جهودهم لاستعادة الدين وتطبيق الشريعة. كما يتم التساهل فى الممارسات الجنسية تحت لافتات واهية، تسمح بالزواج السريع والطلاق الأسرع، كما تسمح بإعادة تدوير النساء/ الزوجات بين أعضائها ضمن ما يسمونه جهاد النكاح، والذى هو نوع من الزنى الصريح، أى من الكبائر التى ترتكبها الجماعات الأكثر تطرفاً كداعش، ربما عن وعي، كطريقة لجذب الأتباع، وتجنيد المنافقين، خصوصاً فى المجتمعات المحافظة التى تعانى انغلاقات فى العلاقة بين الجنسين أو الفقيرة التى تعانى مشكلات الزواج المتأخر. موضوعات متعلقة .. عبد الواحد النبوى: عودة الثقافة الجماهيرية أول تكليفات الرئاسة