احتلت إشكالية العلاقة بين الإسلام والعلمانية، ولا تزال، حيزاً معتبراً في الفضاء الفكري والابستمولوجي العربي والإسلامي، وفي سبيلها صُرفت، ولا تزال، جهود كثيرة إثباتاً ونفياً وتوفيقاً لهذه العلاقة الديالكتيكية، حتى بات الأمر أشبه ب "عقدة تاريخية" تسم العلاقة بين كلا المتغيرين. ولا أحسب أن هذا المقال يسعى لإضافة المزيد من نقاط التعقيد على هذه المسألة ، بقدر ما هو محاولة "أولية" لفض الاشتباك "الفكري" الناجم عن اختلاف الرؤى والأطروحات المتعلقة بمعالجة هذه الإشكالية والذي فاق حدود المعقول، وأجج حالاً من التناحر الفكري شغلت العقل العربي طيلة نصف قرن، ولم تفض في النهاية إلى حل ناجع للمسألة. وهو ما لا يأتي إلا من خلال إعادة توصيف منبع الديالكتيك، الذي تاه وسط غابة من التحيزات والمواقف المتناقضة يميناً ويساراً. ولعل نقطة البدء في بحث إشكالية العلاقة بين العلمانية والإسلام، تتمثل في ذلك الربط القسري بين العلمانية، كأداة إجرائية، والحداثة كفلسفة ومنهج للحياة والتفكير، ومدى قدرة الأولى على أن تعبّد الطريق أمام نمو وترسيخ الثانية وتجذّرها في الوعي العربي والإسلامي، كما حدث في التجربة الأوروبية منذ عصر التنوير وإلى الآن. بحيث بات الأمر كما لو أنه طريق حتمية ذات مسار واحد، ويصبح على من يريد الحداثة ابتداء، أو بالأحرى الانخراط في موجة من العقلنة والتنوير الفكري، أن يمتطي جواد العلمانية وأن يهتدي بها في ظلمات الغيب والفكر التقليدي، ولا مندوحة أمامه من التخلي عن عقيدته الإيمانية شرطاً لتحرير الذات. ولما كان الإسلام، بوصفه أولا ديانة سماوية تستند في جوهرها على معنى الإيمان والاعتقاد، وثانياً يتجسد في منهج للحياة وفق شريعة محددة، قد جاء كي يخرج الناس من الظلمات إلى النور (لنتوقف ملياً أمام هذا المعنى ونقارنه بالظلمات الأوروبية في القرون الوسطى والنور الحداثي الذي انبثق لاحقا)، وهي الوظيفة التي تكررت مراراً في العديد من آيات القرآن الكريم، يصبح استبدال منهج عقائدي بآخر وضعي، خاصة في ظل مجتمعات تؤمن (فطرة أو يقيناً) بنجاعة المنهج الإسلامي، أمراً غير منطقي ولن يكتب له النجاح ابتداء. ولن يكون غريباً أن تفشل فيما بعد محاولات استبدال أي المنهجين (الاعتقادي والعلماني) أحدهما بالآخر، أو على الأقل التوفيق بينهما من خلال استيلاد مركب جديد للعلاقة (العلمانية الجزئية والشاملة للدكتور عبد الوهاب المسيري نموذجاً). نقول ذلك، استجلاء، وليس تبريراً، لحتمية فشل الحل العلماني في الحال الإسلامية، وهو ما يزداد رسوخه بعدما تحولت العلمانية من مجرد آلية إجرائية أو مبضع قام بعملية جراحية "تاريخية" في الخبرة الأوروبية، وكان بمثابة طوق نجاة من جحيم الاقتتال الأهلي، كي تصبح عقيدة وفلسفة ترتبط بطريقة فهم الوجود الإنساني ذاته. وعليه فقد تحول السؤال المركزي الذي أثار تلك الإشكالية من: هل العلمانية هي الطريق الوحيدة بالاتجاه المؤدي للحداثة؟ وهو السؤال الذي اكتسى منذ طرحه الأول بطابع سياسي أفرزه تردي الأوضاع الشاملة في العالم العربي منذ انتهاء الحقبة العثمانية أوائل القرن العشرين، كي يصبح: هل الإسلام يتوافق مع العلمانية (أو بالعكس) أم أنه يقف عقبة في وجهها؟ وعليه فقد انتقلت الإشكالية من البحث عن طرق مغايرة للنهوض والحداثة، قد لا تكون العلمانية إحداها، كي تصبح ديالكتيكاً جدلياً بين ثنائيات ليست متناظرة أو متقاربة، كشأن الحال في ثنائيات الإسلام / الديمقراطية، الإسلام / الحداثة، وما تفرع عنها من ثنائيات فرعية تتعلق بقضايا الديمقراطية كقضايا حقوق الإنسان والمواطنة والمدنية، وجزئيات الحداثة كالعقلانية والعلمانية والتنوير. في حين لا تصمد العلاقة "الوهمية" بين العلمانية والحداثة (النهوض) كثيراً أمام وقائع التاريخ، فعلى سبيل المثال لم تتحقق النهضة العربية إبان القرون الستة الأولى في ظل وجود علمانية، بل لربما لم يكن لهذا المفهوم أي وجود أو استخدام سياسي من قبل. وبنفس القياس يحق السؤال: لماذا لم تنجح النظم العلمانية التي احتكرت، ولا تزال، السلطة في العالم العربي منذ أكثر من نصف قرن في تحقيق النهضة المرجوة؟، واسترسالا، لماذا تلقى الأيديولوجيا الإسلامية، بشقيها المعتدل والمتطرف، قبولاً واسعاً لدى المجتمعات العربية قياساً بالأيديولوجيات الأخرى؟ وهذا السؤال تحديداً يكشف حجم الديالكتيك محل المقال، ذلك أنه ينخر سلباً في جوف "العقل" العربي والإسلامي الذي يصاب بالفزع لمجرد ذكر مقولات العلمنة والدمقرطة واللبرلة، ليس فقط لتوظيفها المرّ من قبل الداخل والخارج، وإنما أيضا للنزعة الاعتقادية التي تصوغ هويته وتصوره لذاته.