أحيانا نستخدم تعبيرات سياسية كثيرة لكننا غالبا لا نتمعن في معناها رغم أنها تؤثر في حياتنا تأثيرا كبيرا؛ فنحن نتحدث عن الديمقراطية والليبرالية والحداثة والمحافظة والواقعية ولكنها بعد ذلك تتحول إلي شعارات ووسيلة للمقارعة السياسية دون معني حقيقي يمكن الإمساك به والتداول حوله . وربما لم يوجد مفهوم له علاقة بالحياة الاجتماعية والواقع السياسي قدر "الإسلام السياسي" الذي بات جزءا هاما من الفضاء العام دون تدبر حقيقي لما يحتويه من أبعاد، رغم أنه يشمل كل الأعمال والأنشطة التي يقوم بها أعضاء من "الكتلة" الإسلامية في مجلس الشعب أو البرلمان في عدد من الدول العربية، ويضم بين ثناياه كتابات وأعمالا يقوم بها كتاب ومعلقون إسلاميون، ومع هؤلاء توجد اتجاهات الإخوان المسلمين، وجماعات سياسية أخري أكثر اعتدالا، أو أكثر تطرفا من أول الجماعات الإسلامية والجهادية وما بينهما وما بعدهما أيضا. ولا يبتعد عن هؤلاء جميعا المؤسسة الدينية حينما تترك مقعدها الخاص بالتعليم والإفتاء لكي تبدي رأيا مؤثرا في المسائل العامة استنادا إلي قواعد دينية سواء كان ذلك تطوعا أو استدعاء من قبل جماعة أو أخري. ومن الناحية الفلسفية فإن الأصل في المفهوم يعود إلي الفيلسوف اليوناني أفلاطون الذي اشتهر من خلال كتابه "الجمهورية" الذي وصف فيه كيانا سياسيا مثاليا أو "طوباويا" كما ذاع في الكتابات المختلفة. ولكن الكتاب السياسي الحقيقي لأفلاطون فقد كان كتابه "القوانين" الذي أسس فيه لأمرين: الأول أن الدولة المتحضرة أو المتمدينة هي تلك الدولة التي يحكمها القانون أي تلك القواعد المنظمة للعلاقات الموجودة في مجتمع ما بين الحكام والمحكومين أو بين أفراد المجتمع ذاته؛ وسواء كانت هذه العلاقات اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية. هنا فإن الدولة المتحضرة تجعل القانون مستقلا عن العرف والجماعة والحكام أي أنه بعد وضعه يصبح له استقلاليته الخاصة؛ أما إذا لم يحدث هذا الاستقلال فإن الجماعة السياسية تكون لا تزال واقعة في الحالة البربرية أو غير المتمدينة. والثاني الكيفية التي يتم بها إصدار القوانين وتغييرها في الجماعة السياسية حيث تكون الموازنة واجبة بين الحاجات المتجددة للجماعة وهذه تستوجب تغيير أو تعديل القوانين، وما بين العمل علي استقرار الجماعة وهذه تستوجب الحفاظ علي القوانين والقواعد القائمة. ولكن ما يهمنا في هذا الموضوع هو أن الكتاب الذي أخذ شكل أسئلة وأجوبة يطرحها دارس- الأرجح أنه أفلاطون نفسه- علي "الأثيني الغريب" _ والمرجح أنه سقراط، بدأ بالتساؤل عن ماهية مصدر القوانين وعما إذا كان المصدر هو الإنسان أو الآلهة. والمعني هنا هو أن التساؤل هو عما إذا كان القانون أو السياسة يعود إلي جهد وتداول إنساني أم أنه موجود سابق علي الإنسان وناتج عن حكمة عليا تنظم الأكوان والعلاقات معا. وبشكل ما فإن هذا التساؤل كان في حقيقته يفرق بين "القانون الوضعي" الذي يقيمه الإنسان ويعدله و"القانون الديني" الذي كان تجسيده عصريا في الدول العربية والإسلامية هو "الإسلام السياسي" أي التطبيق الديني للقانون. ولكن ذلك يخلق بدوره مجموعة أخري من الإشكاليات والأسئلة التي لا بد من بحث عن إجابة لها. فلو كان مصدر القانون هو الآلهة فإن الإيمان بالتوحيد للواحد القهار يجعل مصدر القانون واحدا لكل البشر، فإذا ما تعددت الديانات كما هو حادث في العالم فإن معني ذلك أن مصدر القانون ليس واحدا وإنما متعدد بالضرورة. ولما كان الأصل في القانون أنه عامل موحد للجماعات الإنسانية فإن النتيجة العملية لتعدد القوانين مع تعدد الآلهة أو الديانات فإنه يخلق عاملا مفرقا ومقسما للبشر يدفعهم إلي التنازع والشقاق مع أن مهمة القانون هي في الأساس التوحيد والجمع علي قواعد مشتركة للمعاملات والمداولات والتفاعلات بصفة عامة. ففي العادة فإنه يستحيل القطع بمن من البشر بات حاملا للرسالة المقدسة ومن لم يحملها، والفارق بين الدين الزائف والدين الحقيقي، وكان ذلك سببا في حروب ومنازعات شتي بين بني الإنسان عرفتها الشعوب والأمم وعرفت بالحروب الدينية أحيانا وحروب البشر حول الدين في كل الأحيان. وليس ذلك هو الإشكالية الوحيدة في العمل السياسي أو في عملية إصدار القوانين حيث إن الطبيعة المقدسة للقانون حينما يكون المصدر إلهيا تجعل فكرة التعديل والتبديل غير عملية وتتعارض مع الحكمة المطلقة. وبهذه الطريقة فإن المصدر الأعلي يكون قد أصدر القانون مرة واحدة تعبيرا عن الأمر الواقع مما يجعله في معظم الأحوال محافظا ومبررا لما هو كائن علي حساب ما هو متغير. صحيح أن "الاجتهاد" كثيرا ما يكون إحدي الأدوات للتعامل مع وقائع متغيرة، ولكن التجربة التاريخية قطعت بأن القانون في هذه الحالة بعد أن جددته "الفتوي" يبقي معبرا عن المصالح القائمة. هنا فإن القانون يصبح مخالفا لواحد من أهم وظائفه وهي تحرير البشر من أوضاع قائمة باتت غير مناسبة لتغير الظروف والأزمان والتكنولوجيات المتاحة. وعلي الأغلب فإنه يضع البشر بين شقي الرحي حيث تتنازع عملية "الاجتهاد" توجهات تكون ذات طبيعة متطرفة انقلابية علي الأوضاع القائمة، أو اتجاهات "معتدلة" تميل إلي التدرج واتباع الوسائل السلمية. المشكلة هنا أن "التطرف" و"الاعتدال" لا يكون عاكسا لاعتبارات عملية وإنما إلي عمليات تفسير للنصوص تختفي منها المصالح العامة والمرسلة. وما لا يقل أهمية عن ذلك أن مصدر القانون لا يتعامل فقط مع عملية تنظيم المجتمع، وإنما يتمدد إلي رؤية المجتمع لذاته وتاريخه؛ فهو لا يكون لمراقبة التطور الاقتصادي والاجتماعي والمعرفي وإنما لتتبع علاقات الصراع والشقاق مع المصادر الإلهية الأخري للقانون. فالنظرة الإسلامية، أو نظرة الإسلام السياسي للتاريخ لا تكون عن مدي التقدم الذي جري في البلدان العربية والإسلامية، وإنما حول حدث الانتقال من الديانات المتعددة للعصور القديمة إلي الديانات التوحيدية ومنها الواحدة تلو الأخري حتي نصل إلي الدين الإسلامي حيث نهاية الأديان والقوانين أيضا. ومع هذا يكون الصراع الذي يدور ليس حول كفاءة القوانين ومدي قدرتها علي تلبية نزعات العصر، وإنما ما هو حق فيه وما هو باطل. وبشكل من الأشكال فإن التاريخ الإسلامي أو تاريخ المسلمين بالأحري فقد تم تجريده من كل أبعاده الإنسانية والتاريخية في الحقيقة لكي يكون تاريخ حروب صليبية وصراعات مع المسيحيين ثم اليهود لأسباب دينية. وهنا يكون الباب مفتوحا تماما لأشكال من الصراع تعرف في العصر الحديث بصراع الحضارات التي تتناقض جوهريا مع النظرة " الإنسانية" للأديان والتي تجعلها ذات طبيعة عالمية. وهكذا تخرج المسألة من صورتها الأولي حول القوانين وإصدارها لكي يصير الإسلام السياسي ليس نظرية فقط لإدارة المجتمعات وإنما أيضا لإدارة العالم. وليس صدفة أبدا أن جماعات الإسلام السياسي تتداخل عندها السياسات المحلية مع السياسات الدولية في ترابط واحد ووحدة واحدة.