كان الدين، لزمن طويل، قد تمكن من شغل الناس وحفّز حركة التاريخ وصوغ المعنى النهائى للوجود الإنسانى، وذلك بالإجابة عن السؤالين الخالدين: مِن أين أتى؟ وإلى أين يصير؟ وهو المعنى الذى كفل له الصمود فى مواجهة ما يعانيه من ضغوط وتحديات ما دام عصفت بوجوده كالموت، أو شوهت حضوره كالألم والفشل والظلم... إلخ، حيث قدم الدين للإنسان السند والعون فى مواجهتها، ومكنه من هزيمة مشاعر الخواء والعدم التى كانت تتسلل إليه منها، بقدرته على استدعاء ذلك الحضور القدسى لموجود أعلى متسامٍ، وعلى تنمية الشعور بالتواصل معه بما يكفله ذلك من طمأنينة للنفس، وشعور بالتناغم مع الغايات الأساسية للوجود. غير أن الله، الذى كان موجودًا فى الكون كله، وفى العلاقات الإنسانية برمتها، حسب عالم الاجتماع الدينى الكبير إميل دوركهايم فى كتابه الأثير تقسيم العمل الاجتماعى ، أخذ ينسحب تدريجيا من العالم ويتركه للبشر وصراعاتهم، لكنه يستدرك استدراكًا لافتا: فإذا كان الله لا يزال يهيمن على البشر، فإن ذلك يتم من أعلى ومن بعيد . وهنا تشق العبارة الأساسية طريقا خاصا بها فى الفكر الغربى والإنسانى، فى ما يخص دور الدين ومستقبله فى الوجود الإنسانى. أما الاستدراك الأخير فيخط طريقا مختلفا لهذا الدور. حيث الاستدراك الأخير هو نقطة الانطلاق، نحن إزاء صيرورة عقلنة للوجود، فرضها نضوج التاريخ البشرى، على نحو منح للعقل الإنسانى حرية التجول فى مناحى الوجود، مقدما إسهاماته وتصوراته. وبعد أن كان الدين يمتد إلى كل شىء، حتى إن ما كان دينيا كان يترادف دائما مع ما هو اجتماعى، أخذت الوظائف السياسية والاقتصادية والعلمية تخرج شيئا فشيئا من إطار الدين، لتأخذ طابعا دنيويا بشكل متزايد، وهى سيرورة طويلة جدا وعميقة جدا، ترجع إلى زيادة التخصص وتقسيم العمل الإنسانى، تلك التى لم تبدأ فى مكان بذاته، بل تتطور بلا توقف عبر الجغرافيا، وعلى مدى التاريخ، ابتعادا عن الطابع الكلى والروح العمومية التى صبغت المعرفة الإنسانية لزمن طويل، إذ دمجت بين عديد من العلوم من ناحية، وبينها وبين الفلسفة من ناحية أخرى، وبين هذه الأخيرة وبين الحكمة والمنطق من ناحية ثالثة. تؤدى العقلانية بهذا المعنى إلى العلمانية السياسية، كظاهرة تتجذر فى الإصلاح البروتستانتى، وتستلهم المثل التنويرية، تنمو فى قلب النظم السياسية بالأساس، وتفرض نفسها عليها، ضمن عمليات البحث عن أفضل الآليات العقلانية لإدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها. أما إذا انطلقنا من العبارة الأساسية فنحن إزاء سيرورة علمنة وجودية، تتنامى فى مجتمعات الما بعد ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة... إلخ ، بفعل الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية، والنظم الإدارية التى تنتهجها تلك المجتمعات فى إدارة العلاقة بين أطرافها ومكوناتها. أما هدفها، من دون إعلان عنه، وأحيانا من دون وعى به، إنما هو تصفية الدين نفسه من الوجدان الفردى والوجود الاجتماعى، فلا تنحيه فقط عن السياسة، بل تحرمه أيضا من دوره فى صوغ نظم القيم السائدة، والتقاليد الاجتماعية التى طالما عبرت عن نفسها فى قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة.