في الوقت الذى تتصاعد فيه الضغوط والانتقادات داخليا وخارجيا بالنسبة لإسرائيل فيما يتعلق بعدوان غزة الجارى، تبدو الإدارة الأمريكية وكأنها بدأت لتوها فى رسم مسار وتكوين رؤية (من الأساس) لغزة فى يومها التالي، غير متقيدة بوجهات النظر اليمينية التى تمليها قوى اليمين المنفلت على الحكومة الإسرائيلية الإرهابية فيما يتعلق بغزة. وفي هذا التقرير، تبدو وجهات نظر عديدة تشرح الصدام الحالي بين الإدارة الأمريكية وإسرائيل وفرصه بالنسبة لإنقاذ القطاع المنكوب. وقال تحليل لصحيفة هاآرتس العبرية إن المسئولين الأمريكيين يدركون أن نتنياهو ضعيف، ومعرّض للابتزاز السياسى. فهو يتراجع باستمرار فى استطلاعات الرأى، ويماطل دون نهاية، وفى بعض الحالات يخدعهم ويضللهم. كما يعلمون أن هناك بدائل سياسية فى إسرائيل أكثر قابلية للتفاهم والتعاون، ومن المرجح أن يتخذوا خطوات لدعم هذه البدائل وتعزيزها. وترامب يرى نتنياهو شخصا «عالى التكلفة» خاصة بعد أن حصلت إسرائيل على ما يقارب 18 مليار دولار من المساعدات العسكرية الأمريكية خلال العام السابق. وصرّح ترامب علنًا بأنه لا يرغب فى إنفاق أموال الأمريكيين لا فى أوكرانيا ولا فى إسرائيل. فمواصلة دعم الاضطرابات فى الشرق الأوسط ليست ضمن أولوياته. ◄ لعبة المصالح وعلى عكس ما هو شائع، فإن نتنياهو يشكّل عائقًا أمام ترامب. فمصالح ترامب تتماشى مع مصالح دولة إسرائيل نفسها، لكن ليس مع مصالح نتنياهو، الذى يُعد عقبة فى طريق تحقيق أهدافه. أما ترامب، باعتباره شخصية متقلبة وغير متوقعة، فلا يمكن التنبؤ بتوقيت قراراته، ومن هنا فإن الحديث عن إزاحة نتنياهو ليس تنبوءا زمنيًا بقدر ما هو تحليل لموقف ترامب، حيث تتصدر الاعتبارات الاقتصادية أولوياته. والأحداث والتطورات الأخيرة خلال الأسابيع والأيام الماضية تقرّب نتنياهو من «جولة الإقصاء»، إذ بات ترامب وفريقه يدركون أنهم لا يحرزون أى تقدم مع نتنياهو، وأن استبداله بات أمرًا واردًا تمامًا. ويرغب ترامب فى دفع مسار السلام فى المنطقة لتحقيق أهداف اقتصادية. ولا يهتم بالحروب التى قد تتطلب تدخلًا أمريكيًا مباشرًا. وفى المقابل، يواصل نتنياهو تأجيج الوضع فى الشرق الأوسط، مهددًا بضرب المنشآت النووية الإيرانية وتدمير غزة. كما تدرك الإدارة الأمريكية أن نتنياهو دعّم حماس لسنوات، ولا يزال يعارض أى بديل واقعى لحكمها فى غزة. ترامب لا يريد الانجرار إلى متاهات عسكرية، ولا يرغب فى الاستمرار فى ضخ المليارات لتمويل حروب نتنياهو، أو المخاطرة باتفاقاته الاقتصادية الجديدة فى شبه الجزيرة العربية. وهو ينصت جيدًا لمحمد بن سلمان، أكثر بكثير مما يصغى لدوائر نتنياهو. وعلى الساحة الدولية، لم يعد لنتنياهو أى حلفاء، لا بين حلفاء أمريكا الغربيين التقليديين، ولا حتى بين قادة مثل فلاديمير بوتين ورجب طيب أردوغان، الذين يكنّ لهم ترامب قدرًا من الاحترام. وهناك مذكرة توقيف صادرة بحقه عن المحكمة الجنائية الدولية فى معظم الدول الأوروبية. ◄ خيارات واشنطن وأضاف تحليل هاآرتس أنهم أيضا يدركون أن هناك بدائل سياسية أكثر مرونة فى إسرائيل، ومن المرجح أن يتخذوا خطوات لدعمها. ومن بين هذه البدائل، تبرز إمكانية تولّى نفتالى بينيت منصب رئيس الوزراء، وجدعون إيزنكوت منصب وزير الدفاع. من المحتمل أن تنضم قوى غربية أخرى مثل كندا، فرنسا، المملكة المتحدة، وربما ألمانيا، إلى هذا المسعى. فالمجتمع الإسرائيلى ممزق، والحرب المستمرة خلّفت انقسامات عميقة وتشريدًا واسعًا. ومن ثم فالتغيير هو المسار المعقول والمدعوم من غالبية الجمهور فى إسرائيل. وستؤدى الإشارات التى يرسلها ترامب بشأن خطورة نتنياهو وطبيعة تحالفه مع اليمين المتطرف إلى تعزيز هذا الاتجاه السائد فى استطلاعات الرأى. وأشار التحليل إلى ملاحظتين: أولًا، تملك الإدارة الأمريكية نفوذًا كبيرًا على الأحزاب الدينية اليهودية المتشددة (الحريديم) فى إسرائيل. وإذا كانت هذه الأحزاب لا تريد أن تفوّت القطار، فعليها أن تتعاون بسرعة لحماية مصالحها فى الحكومة المقبلة. لكنها يتوقع أن تخسر نظرًا لافتقار قيادتها إلى البصيرة. وثانيًا، تدرك الإدارة أيضًا محدودية القوة السياسية لشركاء نتنياهو من أقصى اليمين. على سبيل المثال، من غير المرجح أن يتمكن المتطرف القومى بتسلئيل سموتريتش من اجتياز نسبة الحسم الانتخابية. وقد يكون خروج نتنياهو من المشهد مصحوبًا بترتيب قانونى وانتقاله للعيش فى الولاياتالمتحدة، خاصة مع تصاعد مشكلاته القانونية فى ضوء قضية «قطر جيت» وتشكيل لجنة تحقيق رسمية فى أحداث السابع من أكتوبر والحرب الجارية. ومثل هذه الترتيبات سبق أن طُبّقت فى أمريكا اللاتينية مع عدد من القادة الفاسدين عند تقاعدهم. وشدد التحليل على أن صبر ترامب بدأ ينفد. فهو لا يرغب فى أن يسمح لنتنياهو «الخاسر» كما يراه بتقويض إنجازاته الأخيرة فى المنطقة. أما الخيار الآخر لترامب فقد كشف عنه الدبلوماسى المخضرم دينيس روس فى مقال نشره بالصحيفة ذاتها. وكتب فيه إنه عندما تم انتخاب ترامب، عمّت النشوة أوساط اليمين الإسرائيلى. ولقد تحققت صلواتهم، فقد بدا أن ترامب سيمنح إسرائيل شيكًا على بياض لتفعل ما تشاء، بسط السيادة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وهزيمة أعدائها دون أى قيود. لكن فى الأشهر الأربعة التى تلت توليه منصبه، لم تتصرف إدارة ترامب بأى شكل من الأشكال بما يتوافق مع توقعاتهم. ◄ رغبات ترامب وللإنصاف، فإن تلك التوقعات كانت دومًا مفصولة عن الواقع. فالرغبة التى أبداها ترامب فى توسيع «اتفاقيات إبراهيم» كانت تتناقض بطبيعتها مع رغبة إسرائيل فى ضم الضفة الغربية. وبالمثل، فإن رغبة ترامب فى إبرام اتفاق نووى مع طهران تعنى أيضًا أنه لن يكون هناك دعم تلقائى لاستخدام إسرائيل القوة ضد البرنامج النووى الإيرانى. وكل ذلك يعنى أن الاعتقاد بأن ترامب سيدعم ببساطة كل ما تريده الحكومة الإسرائيلية اليمينية، كان دائمًا مجرد وهم. فقد أجرى فريقه تفاوضا مباشرة مع حماس بشأن إطلاق سراح أسرى ووقف محتمل لإطلاق النار، وهو أمر لم تفعله أى إدارة أمريكية من قبل، ودون إبلاغ إسرائيل. كما أن موافقته على وقف إطلاق النار مع الحوثيين دون إشراك إسرائيل، بعد يومين فقط من سقوط صاروخ حوثى قرب مطار بن جوريون، وعدم إبلاغ إسرائيل بهذا الوقف إلا بعد حدوثه، قد أثار غضباً كبيراً لدى حكومة اليمين فى تل أبيب. وأخيرا فقد جاء قرار رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا، أيضًا دون علم إسرائيل، رغم أن لإسرائيل مخاوف أمنية كبيرة فى هذا الصدد. وأخيرًا، لم تشمل زيارة ترامب للمنطقة محطة فى إسرائيل، بل تضمنت صفقات تسليح ضخمة قد تثير تساؤلات بشأن الحفاظ على «التفوق العسكرى النوعي» لإسرائيل، وهو التزام مُكرّس فعليًا فى التشريع الأمريكى. وكان غياب أى رد من البيت الأبيض على البيان المشترك الصادر عن فرنساوكندا وبريطانيا، الذى أدان إسرائيل بسبب عملياتها فى غزة وهدد باتخاذ «إجراءات ملموسة إضافية» إن لم تتوقف العملية العسكرية ويتم السماح بإدخال المساعدات، قد أثار أيضًا الكثير من التساؤلات. ◄ تجديد الاتفاق ومن كل ما سبق يوجد استنتاج هام، وفقا لروس، وهو أن الرئيس ترامب يتخذ قراراته بناءً على ما يراه يخدم «المصالح الأمريكية». وبشكل عام، يركّز ترامب على الولاياتالمتحدة، وليس على مصالح أو مخاوف حلفائها، التى يعتبرها أمورًا ثانوية. التحدث مع حماس أو الإيرانيين أو القبول بوقف إطلاق النار مع الحوثيين أو إبرام صفقة سلاح بقيمة 142 مليار دولار مع السعوديين، كلها قرارات تخدم المصالح الأمريكية، وهذا ما اعتبره ترامب، وليس ما يهم الإسرائيليين أو البريطانيين، الذين فوجئوا أيضًا بقرار وقف إطلاق النار رغم أنهم يشاركون عسكريًا فى مواجهة الحوثيين. قد لا يكون هذا الاستنتاج مريحًا للإسرائيليين، لكنه ينبغى أن يدفعهم لفهم أن ترامب يريد انتهاء الحرب، لإنهاء القتل أولاً، ولإتاحة إمكانية تحقيق تطبيع فى المنطقة ثانيًا. لكن افتقار حكومة نتنياهو لخطة ذات مصداقية لإنهاء الحرب وما بعد الحرب أى توفير بديل لحماس يمثل مشكلة كبيرة. ومن المعروف أن الصبر ليس من صفات ترامب. ولدى ترامب قنوات أخرى لإنفاذ رغبته فى تل أبيب. فمذكرة التفاهم التى وقعتها إدارة أوباما لمدة عشر سنوات، التى تضمن دعمًا عسكريًا سنويًا لإسرائيل بقيمة 4 مليارات دولار، ستنتهى خلال فترة إدارة ترامب الحالية. فهل سيتم التفاوض على اتفاق جديد لعشر سنوات أخرى؟ ◄ غزة المنكوبة أما كل أهمية ذلك بالنسبة للعدوان الإسرائيلى الطاحن والإرهابى فى القطاع، فهو أن الرئيس الأمريكى بات يتحدث صراحة عن «إنهاء الحرب» وليس عمل صفقات لهدنة. ولا يزال المبعوث الأمريكى إلى الشرق الأوسط، ستيف ويتكوف، يخوض جهوده مع الوسطاء لإيجاد وقف لإطلاق النار فى قطاع غزة بين إسرائيل وحماس. وبين وقت وآخر، يعبر ويتكوف عن «شعور إيجابى جدا بالتوصل إلى حل طويل الأمد، ووقف مؤقت لإطلاق النار، وحل سلمى طويل الأمد لهذا الصراع». وبين تصريحات وبيانات تراوح مكانها، تتجاهل إسرائيل المسار التفاوضى، الذى لا شك أنها تقوم به لتقليل الضغوط الدولية فى الظاهر وشراء الوقت فى الحقيقة.. وأصدر الاحتلال أوامره بالاستمرار فى عمليته البرية من ناحية واستهداف العزل متلقى المساعدات من ناحية أخرى. وقال المرصد الأورومتوسطى لحقوق الإنسان إن الاحتلال ارتكب مذابح دموية بحق الجوعى بينهم مجزرة فى الأول من يونيو الجارى أدت لاستشهاد وإصابة أكثر من 220 منهم برصاص الجيش الإسرائيلي قرب إحدى نقاط المساعدات المدعومة أمريكيًّا جنوبى رفح. وقال المرصد الأورومتوسطى فى بيان إنّ فريقه الميدانى وثّق إطلاق جيش الاحتلال النار تجاه آلاف المدنيين الذين تجمعوا فجر الأحد 1 يونيو، فى حى تل السلطان فى رفح جنوبى قطاع غزة، قرب نقطة مساعدات أقامها الجيش الإسرائيلى.