ربما كان النزوع إلى (أنسنة الدين) سمة أساسية فى الفكر الغربى المعاصر، يجرى تعميمها بدرجات مختلفة من الحدة والنجاح فى باقى المجتمعات التى سارت على طريق الحداثة شوطا أو آخر. وهو أمر يمكن تفسيره بالرغبة المحمومة لدى المجتمعات الغربية فى الهروب من المؤسسة الدينية التى بلغت أعلى درجات تشكلها فى كاثوليكية العصور الوسطى، أو لدى المجتمعات الأخرى فى الخلاص مما يقارب تلك البنية البطريركية، أو يلعب دورها على استحياء تحت مسميات مختلفة. ومن ثم يمكن الإدعاء بأن مؤسسات الهيمنة الدينية، هى التى تفقد أهميتها تدريجيا فى المجتمعات الحديثة، وليس الدين ذاته كعقيدة، حيث أخذت هذه المجتمعات تبدى تململا متزايدا من طرق الدمج القسرى لها، والبحث، فى المقابل، عن مصادر جديدة للإندماج، ولكن على أساس طوعى وحر. غير أن هذا النزوع إلى الأنسنة قاد البشرية فى اتجاهين مختلفين، على صعيد الحضور الإلهى فى عالمنا: الاتجاه الأول يتمثل فى سيرورة عقلنة للوجود، فرضها نضوج التاريخ البشرى، على نحو منح للعقل الإنسانى حرية أن يجول فى مناحى الوجود، مقدما إسهاماته وتصوراته. وبعد أن كان الدين يمتد إلى كل شىء، حتى أن ما كان دينيا كان يترادف دائما مع ماهو اجتماعى، بحسب عالم الاجتماع الأشهر إميل دوركهايم، أخذت الوظائف السياسية، الاقتصادية والعلمية تخرج شيئا فشيئا من إطار الدين، لتأخذ طابعا دنيويا، وهى سيرورة طويلة جدا وعميقة جدا، ترجع إلى زيادة التخصص وتقسيم العمل الإنسانى، تلك التى لم تبدأ فى مكان معين أو لحظة بذاتها، بل تطورت بلا توقف عبر الجغرافيا، وعلى مدى التاريخ، ابتعادا عن الطابع الكلى الذى صبغ المعرفة الإنسانية لزمن طويل، فدمج بين العلوم المختلفة من ناحية، وبينها وبين الفلسفة والحكمة من ناحية أخرى. تفضى العقلانية، بهذا المعنى، إلى علمنة السياسة، كظاهرة تتجذر فى الإصلاح البروتستانتى، وتستدعى المثل التنويرية إلى قلب النظم السياسية، ضمن عمليات البحث عن أفضل الآليات (العقلانية) لإدارة الدولة كمجال محايد لممارسة السلطة وتبادلها. ولكنها لا تقود حتما إلى علمنة الوجود، إذ لم يكن مطلوبا ولا مرغوبا أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته بفعل نمو العقلانية كما بشرت فلسفة الدين الوضعية، لأن حضور العقل لا يفترض بالضرورة غياب الإيمان. أما الاتجاه الثانى، فيتمثل فى سيرورة علمنة للوجود، تتنامى في مجتمعات الما بعد (ما بعد الصناعة، ما بعد الحداثة.. الخ)، بفعل الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية، والنظم الإدارية التى تنتهجها تلك المجتمعات فى إدارة العلاقة بين أطرافها مكوناتها، وهى سيرورة تؤدى تدريجيا، من دون إعلان عن ذلك، وأحيانا من دون وعى به، إلى تفكيك الدين فى الوجدان الفردى، ونفيه عن الوجود الإجتماعى، فلا تنحية فقط عن السياسة، بل تحرمه أيضا من دوره فى صوغ نظم القيم السائدة، والتقاليد الاجتماعية التى طالما عبرت عن نفسها فى قوانين الزواج والطلاق، وأنماط العيش المختلفة. هذه السيرورة تبدو منطقية تاريخيا فى السياق الغربى، كتتمة لسيرورة العلمانية السياسية فى دوله، ونتاج موضوعى لتنامى العقلنة، والتقنية الفائقة فى مجتمعاته. أما فى المجتمعات العربية الإسلامية، فتبدو سيرورة العلمنة الوجودية أقرب إلى المفارقة، حيث العلمانية السياسية غير راسخة فى أنظمة حكمها، ولا تزال تعانى من التوظيف السياسى للإسلام من قبل تيارات دينية تسعى إلى قسرها على العيش ضمن نمط حياة تقليدى يرسم معالمه النص المؤسس للإسلام، أو توحى به التجربة التاريخية للرعيل الأول من المسلمين، حتى يسهل تطبيق الشريعة/ القوانين الدينية عليها. جوهر المفارقة إذن أن العلمنة الوجودية هى نتاج لنقص العقلانية العربية الإسلامية، وليس لتمددها أو تجاوزها، فالجماعات التى ترفض الفصل بين النظام السياسى كمجال عام، والإيمان الدينى كمجال خاص، هى نفسها التى تتجاوز هذا المستوى الضرورى من العلمنة (السياسى)، إلى المستوى الأعلى منها (الوجودى). ففى طريقها إلى مناوأة نظم الحكم القائمة، التى تراها مجرد طواغيت تسعى إلى سرقة الحاكمة الإلهية، وتعطيل الشريعة الإسلامية، تستحل تلك الحركات منظومة القيم الأخلاقية التى تصوغ جوهر (الروحانية الدينية)، وتحث المؤمن على محبة الآخرين والتعاون معهم والبر بهم. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إنهم يتجاوزون أحكام الشريعة نفسها التى يدعون إلى تطبيقها فى العديد من الأحيان، ليس فقط عبر الإرهاب الذى يقتل أبرياء تنهى جل الأديان عن إراقة دمائهم، حتى إن الإسلام يعتبر قتل نفس واحدة بمنزلة قتل للناس جميعا، أى للإنسانية برمتها، بل وأيضا فى التشريعات التى تخص حرمة المال والعرض، حيث يتم التساهل فى سرقة غير المنضوين تحت لواء تلك الحركات، بحجة أن مالهم حرام، وأن سرقته تحل مادامت تصب فى دعم جهودهم لاستعادة الدين وتطبيق الشريعة. كما يتم التساهل فى الممارسات الجنسية تحت لافتات واهية، تسمح بالزواج السريع والطلاق الأسرع، كما تسمح بإعادة تدوير النساء/ الزوجات بين أعضائها ضمن ما يسمونه جهاد النكاح، والذى هو نوع من الزنى الصريح، أى من الكبائر التى ترتكبها الجماعات الأكثر تطرفا كداعش. وهكذا تقود المعركة ضد العلمانية السياسية، كنمط عقلانى لتنظيم المجتمعات، وإقامة حكم رشيد لا ينال من المرجعية الأخلاق للدين فى المجال الخاص للأشخاص، إلى استحضار المستوى الأخطر من العلمنة (الوجودية)، الذى يتصادم حقا مع الحضور الإلهى فى العالم، إذ يهدر المرجعية الأخلاقية ليس فقط التى يجسدها الدين، بل ويلهمها الحس الإنسانى المشترك، الذى تتكاتف فى صوغه الأديان الصحيحة والفلسفات المثالية. لمزيد من مقالات صلاح سالم