رئيس جامعة كفر الشيخ يستقبل وفد إدارة جائزة التميز الحكومي    طرابلس.. تأسيس الهيئة العليا للرئاسات لتوحيد القرار الوطني الليبي    القناة 14 الإسرائيلية: جلسة الكابينت ناقشت ملف لبنان وتكثيف الضربات    أول رد من الإعلامية ياسمين الخطيب بعد إيقافها عن الظهور الإعلامي 3 أشهر    خبير دولي: قرار الأمم المتحدة انتصار رمزي للقضية الفلسطينية ويعكس الدعم المصري التاريخي    تطورات إصابة حسين الشحات في الأهلي    إحالة 4 أشخاص للمحاكمة بتهمة خطف شاب وابتزازه لسرقته    الهيئة الوطنية للانتخابات تعلن رسميا انطلاق التصويت بالخارج من دولة نيوزيلندا    المصري يبدأ معسكره بالقاهرة استعدادا لمواجهة كايزر شيفز (صور)    احمد بنداري: مؤتمران أيام تصويت المصريين بالخارج ومؤتمر يومي تصويت الداخل    ثلث القيمة يختفى فى أسابيع |انهيار قياسى للعملات المشفرة    حقيقة إلغاء انتخابات مجلس النواب وتأجيلها عام كامل؟.. مصطفى بكري يكشف الحقائق    حنان الصاوي تكتب : دورة عاشرة بروح عالمية.. مهرجان شرم الشيخ الدولي يزهر المسرح في سيناء    هل تؤثر عدم زيارة المدينة على صحة العمرة؟ أمين الفتوى يُجيب(فيديو)    هل يوجد عذاب للقبر؟.. أمين الفتوى يجيب    هل التأمين على الحياة حلال أم حرام؟.. أمين الفتوى يجيب    احتفالية مستشفى الناس بحضور سفراء ونجوم المجتمع.. أول وأكبر مركز مجاني لزراعة الكبد بالشرق الأوسط "صور"    طبقا للطب الصينى.. تمارين ينصح بها للشعور بالدفء    أطعمة تعيد التوازن لأمعائك وتحسن الهضم    مساعد وزير الخارجية يشيد ببرامج الاتحاد الأفريقي لإعادة إعمار الدول الخارجة من النزاعات    أول رد من عائلة محمد فوزي على إدعاء كريم الحو في «The Voice» | شاهد    سانوفي تطلق دواء "ساركليزا" في مصر لتمنح مرضى سرطان المايلوما المتعددة أملًا جديدًا في العلاج    محافظ الفيوم يوجه بسرعة رفع مخلفات الطبقة الأسفلتية القديمة بشارع عدلي يكن لتيسير الحركة المرورية    «سمات روايات الأطفال.. مؤتمر مركز بحوث أدب الطفل تناقش آفاق فهم البنية السردية وصور الفقد والبطل والفتاة في أدب اليافع    أشرف صبحي يلتقي رئيس مكتب دوري كرة السلة الأمريكي NBA بمصر    رئيس كوريا الجنوبية: أحب الحضارة المصرية وشعبنا يحبكم    محافظة الجيزة: غلق كلي بطريق امتداد محور 26 يوليو أمام جامعة النيل غدا الجمعة    الداخلية تضبط صاحب فيديو «عصا البلطجة» بالجيزة    يونيفيل: استقرار هش على طول الخط الأزرق ونسير دوريات مع الجيش اللبناني    مواقيت الصلاه اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    وكالة الطاقة الذرية تدعو إلى مزيد من عمليات التفتيش على المواقع النووية الإيرانية    فقرة بدنية في مران الزمالك قبل مواجهة زيسكو    جينارو جاتوزو: منتخب إيطاليا لا يزال هشا    الوكيل: تركيب وعاء أول مفاعل نووي ينقل مشروع الضبعة من مرحلة الإنشاءات إلى التركيبات    محافظ القليوبية يُهدي ماكينات خياطة ل 15 متدربة من خريجات دورات المهنة    إيقاف بسمة وهبة وياسمين الخطيب.. الأعلى للإعلام يقرر    شركة مياه القليوبية ترفع درجة الاستعداد للمرحلة الثانية من انتخابات النواب    الجبهة الوطنية يكلف عبد الظاهر بتسيير أعمال أمانة الجيزة عقب استقالة الدالي    النائب محمد إبراهيم موسى: تصنيف الإخوان إرهابية وCAIR خطوة حاسمة لمواجهة التطرف    مجلس الوزراء يُوافق على إصدار لائحة تنظيم التصوير الأجنبي داخل مصر    محافظ الأقصر يوجه بتحسين الخدمة بوحدة الغسيل الكلوى بمركزى طب أسرة الدير واصفون    الهلال الأحمر المصري يطلق «زاد العزة» ال77 محمّلة بأكثر من 11 ألف طن مساعدات    التضامن: نخطط لتحويل العاصمة الجديدة إلى مدينة صديقة للأطفال    أسهم الإسكندرية لتداول الحاويات تواصل الصعود وتقفز 7% بعد صفقة موانئ أبوظبي    إيقاف إبراهيم صلاح 8 مباريات    جثة طائرة من السماء.. مصرع شاب عثروا عليه ملقى بشوارع الحلمية    السبت المقبل.. «التضامن» تعلن أسعار برامج حج الجمعيات الأهلية    اسعار الأسمنت اليوم الخميس 20نوفمبر 2025 فى المنيا    والده ل في الجول: أشرف داري لا يفكر في الرحيل عن الأهلي    الرقابة المالية تصدر ضوابط عمل لجنة حماية المتعاملين وتسوية المنازعات في مجال التأمين    تموين القليوبية: جنح ضد سوبر ماركت ومخالفي الأسعار    جامعة بنها تحافظ على مكانتها ضمن أفضل الجامعات عالميًا في تصنيف التايمز للتخصصات البينية 2026    مسؤولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى: سنفرض عقوبات على عدد من الجهات السودانية    نائب وزير الخارجية يجدد دعوة أبناء مصر بالخارج للتوجه إلى صناديق الاقتراع    طقس الإسكندرية اليوم: ارتفاع تدريجي فى درجات الحرارة.. والعظمى 27 درجة مئوية    سبورت بيلد: صلاح هو المشكلة الأكبر أمام تألق فيرتز في ليفربول    أدعية الرزق وأفضل الطرق لطلب البركة والتوفيق من الله    عصام صاصا عن طليقته: مشوفتش منها غير كل خير    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المسيرى ... العقل الموسوعي فى بحثة عن الإنسان
نشر في التغيير يوم 03 - 07 - 2012

يستوقف المتجول في عالم عبد الوهاب المسيري الأوجه المختلفة لهذا المفكر، فمن كتاباته في الأدب الإنجليزي، لسيرته الذاتية التي هي مسيرته الفكرية، إلى نقد ونقض الفكر الصهيوني والتأريخ للجماعات اليهودية، إلى قصص الأطفال التي نال عنها جوائز عديدة، إلى كتاباته الصحفية التي تبسط للقاريء المفاهيم الكبرى وتربطها بالظواهر التي يعيشها في ظل العولمة، لكن يظل هناك منطق متصل وروح متجانسة في كل ما كتب عبد الوهاب المسيري، وهو أنه كان مفكراً إنسانياً.
ويمكن اعتبار الخيط الناظم في فكر المسيري هو تقديم الرؤية الإنسانية التي تميز المنظور التوحيدي الإسلامي حتى وإن لم يستخدم المفاهيم المألوفة أو يفرط في الاستشهاد بالآيات والأحاديث، فقد نفذ المسيري إلى قلب المنظومة المقاصدية وفهم أن المقصد الأعلى هو تأكيد إنسانية الإنسان من خلال تأكيد تنزه الله الذي ليس كمثله شيء، والتمييز بين الإنساني والطبيعي والغيبي وإدراك الفارق بين هذه المستويات التي حاولت المنظومة العلمانية اختزالها في مركزية الإنسان ومساواته بالطبيعة ، وإقصاء سؤال الأوهية والربوبية من التفكير.
لذا فقد صاغ المسيري هذه الفكرة بلغة يفهمها السياق الثقافي وأسهم في جدل نقد الحداثة الذي مر في فترة الثمانينات بجدل الدولة الدينية في مواجهة العلمانية وشهد مناظرات بي العلماء ومزوز العلمانية الثقافية والفلسفية لم تثمر عن الشيء الكثير، ولا بد من الاعتراف أن المسيري قد نقل هذا الجدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية في منظورها الفلسفي وتقديم خطاب إسلامي جديد يعيد الاعتبار للإنسان ودوره سيرا على نهج مفكيرن من أمثال مالك بن نبي وعلي شريعتي.
لقد أكد المسيري في كتابيه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" و "دفاعاً عن الإنسان" ثمة أسبقية الإنساني على الطبيعي، لأن الإنسان قادر على تجاوز النظام الطبيعي المادي وعلى تجاوز ذاته الطبيعية المادية، ولأن فيه بعد غيبي يستعصي على الاختزال والتشييء.
إذا مُحيَ هذا الفارق حينئذ تسري على الإنسان القوانين المادية الحتمية التى تسري على الطبيعة والمادة، مما يعني تقويض الإنسان وتفكيكه ورده إلى ما هو دونه، أي المادة.
فالأساس الفلسفي للإنسانية الإلحادية أساس واه، فمع غياب الله أو تهميشه يتحرك الإنسان داخل السقف المادي وحده، لا يمكنه الفكاك منه ويتحول إلى كائن طبيعي (مادي) فيفقد ما يميزه كإنسان (حرية الاختيار- المقدرة على التجاوز...إلخ).
لا يحفظ للإنسان إنسانيته سوى الإله سبحانه وتعالى، فوجوده هو ضمان إنسانية الإنسان. فالإيمان بإله متجاوز مفارق للمادة يعني أنه يوجد داخل الإنسان ما يميزه عن الكائنات الطبيعية المادية الأخرى.
من هنا فإن سمات الإنسانية الإسلامية هي تأكيد الفارق بين الإنسان والطبيعة ورفض النموذج المادي باعتباره النموذج الذى يودي بالإنسان، فمشروع الحداثة فهو مشروع تأسيسي يعيد تركيب المجتمع على أساس أنه غابة يتصارع فيها الإنسان مع الحيوان، والإنسان مع الإنسان، والإنسان مع الطبيعة، فهى الحرب للجميع ضد الجميع، وهذا ما أفرز فى نهاية ما نسميه الحداثة الداروينية.
وقد ربط المسيري بين الفلسفي الفكري والتحليل السياسي، فقد رأى كيف ساعد على هيمنة هذا النموذج الفكري على العالم تزايد نفوذ الدولة القومية ذات السلطة المطلقة كما صورها هيجل، وانتشار النظريات السياسية التى ظهرت لتبرير هذا الوضع، واتساع نطاق القطاع الاقتصادي التجاري، وشيوع النظريات العقلانية المتطرفة والنفعية. وجوهر كل هذه النظريات مادي آلي، فهى تجعل هدف الوجود غاية مجردة إنسانية مثل الدولة (فى المجال السياسي) أو القانون العام (فى المجال العلمي والتحليلي بشكل عام) أو الربح ومراكمة الثروة (فى المجال الاقتصادي) والمنفعة الشخصية (فى المجال الأخلاقي).
وقد تابع االمسيري التيارات الإنسانية في الغرب التي تراجع مسلمات الحداثة وتبحث عن استعادة إنسانية الإنسان واعتبرها جزء من جبهة الدفاع عن الإنسان وجزء من هذا التوجه الذي يحتل فيه الإسلام موقعاً فريدا، وبذا منح الرؤية الإسلامية وأفقاً جديداً يستعيد فكرة حلف الفضول،فهؤلاء يدركون أن الانتصارت التي تحققها حضارتهم باسم الإنسان الطبيعي/ المادي تؤدي إلى وأد شيء مهم جدا في الإنسان، شيء لصيق بإنسانيته، نسميه "القبس الإلهي"، ولكنهم لا يسمونه.. وإنما يدورون حوله، ويتجلى بشكل خفي في كتاباتهم، ولذا، فإن المسيري قد نعته بأنه "الإله الخفي" في الكتابات النقدية الغربية.
وما الحديث عن "حتمية الميتافيزيقا" إلا حديث عن الإله الخفي. فقد لوحظ أن الإنسان مهما بلغ من مادية فإنه لا يقبل المادة المتغيرة إطارا مرجعيا، وإنما يبحث عن مركز للعالم، وعن إطار، وعن أرض ثابتة يقف عليها وعن كليات تتجاوز الأجزاء. وقد أدرك نيتشه أن هذا تعبير عن الإله الخفي، واختار مصطلح "ظلال الإله" ليشير إليه. وقد أدرك فلاسفة ما بعد الحداثة ذلك، ولذا فإن مشروعهم لا يتلخص في الهجوم على الميتافيزيقا الدينية أو المثالية وحسب، وإنما في تحطيم فكرة الحقيقة نفسها حتى تتم إزالة "ظلال الإله" وتحطيم الميتافيزيقا بلا رجعة. وكان حلمهم المقترح هو التخلص من ثنائية المطلق/ النسبي لصالح مطلق نسبي (ثابت متغير).
فتظل هناك ثنائيات الخير والشر، والمقدس والمدنس، والمطلق والنسبي النابعة من إدراكهم الفطري لثنائية الإنساني والطبيعي/ المادي. ولذ ا تؤكد العلاقات الإنسانية الفطرية نفسها بطريقة تتحدى النموذج المادي الفعال وبطريقة غير مباشرة كان يفترض التخلي عنها بحيث تخضع مثل هذه العلاقات للتفاوض وبحيث يحل محلها علاقات تعاقدية عقلانية صلبة. ولكن العلاقات الإنسانية الفطرية، مع هذا، تستمر وتؤكد نفسها. وهو تأكيد يبين أن العنصر الرباني في الإنسان لا يمكن محوه.
ومن الممكن القول بأن هذا العنصر الرباني اللصيق بإنسانية الإنسان وفطرته، وهو عنصر يأخذ شكل الإله الخفي -هو ما يمنع النموذج الطبيعي/ المادي من التحقق الكامل، ومن الوصول إلى اللحظة النماذجية الكاملة ونقطة الصفر المادية.
كانت الروح الإسلامية إذاً عند المسيري لا تنفصل عن الرؤية الإنسانية وعندما وصل إلى مرحلة تحوله للمنظومة الفكرية الإسلامية كان ذلك على طريق اهتمامه المبكر بالبحث عن كينونة الإنسان في المذاهب والمعارف الفكرية المختلفة ، فصادف الماركسية وأعجبه جنوحها للعدالة والمساواة، لكن شعر بالغربة في ماديتها المفرطة، حتى تمكن من التعرف على المنظور المعرفي التوحيدي الإسلامي، ومن هذا المدخل رفض مادية المعرفة الغربية وأشار إلى ضرورة تأسيس فقه للتحيز، وأسس جهداً بنائياً من خلال نقد ونقض بعض المصطلحات الفكرية والمعرفية والمنهجية والبحثية، ثم دعوته لمراجعة مسلمات العلوم التي انبنت على فلسفة الحداثة..واستعادة الإنسان في رؤيتها.
وقد إستطاع من خلال الناظم الاسلامي الإنساني أن يؤسس لمعالم خطاب إسلامي جديد يتجدد وفق حاجات الأمة وضروراتها وفقه النهوض الذي يتعلق بكيانها. في صراعها الفكري من أحل تحرير الإنسان وليس من أجل تأسيس دولة فقط كما ذهبت تيارات الإسلام السياسية.
ومن هنا فقد تكون لديه معجمه المفاهيمي، وواجه المصطلحات التى تفت فى عضد الأمة وحذر من مصطلحات العدو وتسربها، ونبه إلى وحدات تحليل جديدة، وربط النماذج المعرفية بالتعامل المنهجي، وانتقد ما يمكن تسميته بالسببية الصلبة وتحدث بصفة دائمة عن النسق المفتوح والرؤية الواسعة واستهدف جوهر الإنسان الذي يخرج المعاني التي تتعلق بالثقافة والحضارة على شاكلته (النظام المعرفي، الخرائط الإدراكية، الخرائط المعرفية، المفاهيم التفسيرية،..الخ)، كما قدم المسيري نماذج وأدوات تفسيرية غاية في الأهمية ومقولات لتفسير الواقع وتقويمه بل وتغييره، وكانت له أجندة بحثية شاملة وعامرة فهو دائم الحديث عن مشروعاته العلمية المنفتحة والمفتوحة، وركز على أهمية الخريطة الإدراكية والنماذج الفكرية والمعرفية، مؤكدا أن المعركة الحقيقية الآن هي معركة المعاني؛ حيث يتم تكوين الصورة الإدراكية أو الخريطة المعرفية وعمليات إبقاء بعض عناصر الواقع وتضخيمها ومنحها مركزية واستبعاد أو تهميش البعض الآخر حسب معايير النموذج الداخلية وبعده المعرفي الكلي والنهائي، فصياغة النموذج؛ عملية مركبة وإبداعية؛ تتضمن عمليات عقلية عديدة متنوعة، وظل يكتب حتى فارق الحياة راضيا مرضيا في علمه وفي عمله دون أن يهمل الوظيفة الكفاحية للعالم بنزوله الشارع السياسي ضد الاستبداد بالسلطة ودفاعاً عن المشاركة الشعبية في صنع السياسة.
ولم يكن دورانه مع مقصد الإنسانية يماثل الميل الليبرالي إلى الفردية، فالمجتمع عنده كيان مركب متماسك يتسم بقدر من الوعي وله أسبقية على الفرد مهما بلغت درجة ابداع هذا الفرد، فالفرد ينتمي إلى المجتمع وليس المجتمع هو الذي ينتمي إلى الفرد، إلا إذا كان مجتمعا شموليا، والمنظومة العلمانية الشاملة ليست مقصورة على العالم الغربي فهي رؤية للكون اكتسحت العالم بأسره وحولته إلى مادة استعمالية بحيث تصبح كل الأمور متساوية، كل الأمور نسبية، إلا أن الرؤية للعالم وتميزها هو الذي يخرج المعرفة ويشكل الثقافات ويؤسس الحضارات،ومن هنا اهتم المسيري بالنماذج المعرفية والبناء الحضاري من مثل: المنهج المفاهيم الخرائط ( الإدراكية المعرفية الذهنية الفكرية ).
من هنا فإن الخطاب الإنساني الذي قدمه المسيري هو خطاب إسلامي بامتياز، فقد عرًّف الدكتور المسيري الخطاب الإسلامي بأنه ليس كلام الله الذي يسمو على الزمان والمكان، وإنما هو اجتهادات عقول المسلمين داخل الزمان والمكان. ومن ثم فهو – أيضاً- متعدد ومتنوع، وتاريخ الحضارة التي بناها المسلمين هو تعبير عن هذه الكثرة والتعددية، وتحدث كذلك عن مستويات لهذا الخطاب:
1 - خطاب إسلامي ظهر مع دخول الاستعمار العالم الإسلامي، وحاول أن يقدم استجابة إسلامية لظاهرتي التحديث والاستعمار، وقد ظل هو الخطاب المهيمن حتى منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي القديم، والذي يعادي الغرب دون أن يفهم منطقه الفلسفي، بل يكتفي بمقاومة تجليه الاستعماري.
2 - خطاب آخر كان هامشيًا، لكن معالمه بدأت تتضح تدريجيًا في منتصف الستينيات، وهو ما نشير إليه بالخطاب الإسلامي الجديد. ونقطة الاختلاف بين الخطابين هي الموقف من الحداثة الغربية لا باعتبارها ضد الشعوب المستعمرة بل باعتبارها ضد الإنسان في جوهره (وهو ما يؤدي لحروب الإبادة باشكالها)
كما يصنف الخطاب من حيث الجمهور إلى ثلاثة خطابات:
(1) الخطاب الجماهيري (الاستغاثي أو الشعبي): وهو خطاب القاعدة العريضة من الجماهير الإسلامية التي شعرت بفطرتها أن عمليات التحديث والعلمنة والعولمة لم يكن فيها خير ولا صلاح لها، كما لاحظت أن هذه العمليات هي في جوهرها عمليات تغريب سلبتها موروثها الديني والثقافي، ولم تعطها شيئًا في المقابل، لكنها لا تصوغ رؤى فكرية.
(2) الخطاب السياسي: وهو خطاب بعض أعضاء الطبقة المتوسطة ممن شعروا –أيضًا- بالحاجة إلى عمل إسلامي يحمي هذه الأمة. وقد رأوا أن العمل السياسي هو السبيل إلى هذا، فقاموا بتنظيم أنفسهم على هيئة تنظيمات سياسية لا تلجأ للعنف، تتبعها تنظيمات شبابية ومؤسسات تربوية، واهتمام حملة هذا الخطاب يكاد ينحصر في المجال السياسي والتربوي.
(3) الخطاب الفكري: هو الخطاب الذي يتعامل أساسًا مع الجانب التنظيري الفكري داخل الصحوة الإسلامية.
وتحدث عن استجابات الخطاب الاسلامي لتحدي الحداثة الغربية مفرقا في ذلك بين موقف الخطابين القديم والجديد في ذلك الأمر وأن كلا الجيلين -القديم والجديد- لم يؤسسا منظومتهما الفكرية انطلاقًا من المنظومة الإسلامية فحسب، وإنما نتيجة تفاعلهما مع الحضارة الغربية في الوقت ذاته، وهذا أمر طبيعي ؛ فهي الحضارة التي فرضت سيطرتها على العالم في تلك اللحظة التاريخية، واكتسبت مركزية بحكم الانتصارات العسكرية التي حققتها، وطرحت رؤيتها في كل المجتمعات، وفرضت نفسها باعتبارها مستقبل البشرية جمعاء. وألقت بالتحدي الذي كان على الجميع الاستجابة له ، وباختلاف نوع التحدي وحدَّته اختلفت الاستجابة، وقد وجد المصلحون الأوائل جوانب إيجابية كثيرة في هذه الحضارة الغربية، بل إنهم انبهروا بها، وهذا ما عبر عنه الشيخ رفاعة الطهطاوي والشيخ محمد عبده ولذا كانت استجابة الجيل الأول للتحدي الغربي
هي: كيف يمكن أن نلحق بالغرب؟
لكن ظهر بعد ذلك نقد إسلامي للحداثة، وهذا النقد الإسلامي للحداثة يختلف عن أشكال نقد الحداثة في بقية العالم؛ إذ أنه يدرك مدى ارتباط منظومة الحداثة الغربية بالإمبريالية الغربية، ويدرك صعوبة فصل الواحد عن الآخر (والإمبريالية كانت هي أول تجربة لنا مع الحداثة، والاستعمار الاستيطاني الصهيوني هو آخرها ولا ينفك عنها).
كما أن النقد الإسلامي للحداثة يتسم بأنه متفائل لأنه يطرح حلولاً على عكس النقد الغربي للحداثة فهو متشائم عدمي. يطرح الشروط الأساسية لتطوير المشروع الحداثى الإنسانى العربى ، فضلا عن المنطلقات الأساسية البنائية لهذا المشروع .
و تحدث المسيري عن سمات الخطاب الإسلامي الجديد الذي تحتاجه الأمة اليوم للنهضة، ومعالمه هي:
رفض فكرة المركزية الغربية.
الرؤية المتكاملة والانفتاح النقد.
خطاب جذري توليدي استكشافي.
يصدر عن رؤية معرفية شاملة.
القدرة على الاستفادة من الحداثة الغربية.
القدرة على إدراك أبعاد إنسانية جديدة.
القدرة على اكتشاف الإمكانات الخلاقة للمنظومة الإسلامية.
تأسيس معجم حضاري متكامل ومستقل.
إدراك المكون والبعد الحضاري للظواهر والأشياء المستحدثة.
تأسيس رؤية إسلامية مستقلة في التنمية.
الإيمان بالحركة والتدافع كأساس للحياة.
إدراك مشكلات ما بعد الحداثة.
تجاوز الإطلاقات المتناقضة والسماح بالتعددية.
القدرة على الرؤية المتكاملة للشريعة ومقاصدها وإنزالها على الواقع المعاصر.
القدرة على صياغة نموذج معرفي إسلامي والاحتكام إليه.
الاهتمام بالأمة كياناً يتجاوز الدولة المركزية.
محاولة تطوير رؤية شاملة للفنون الإسلامية.
تجاوز المنظور الغربي في قراءة التاريخ.
وفي مجمل أعماله يدعو المسيري الى إقامة نسق فكري عربي إسلامي يقوم على الثنائية والتجاور والإنسان الروحاني الديني الرباني مقابل الإرث الغربي المادي الطبيعي الجسدي.
إن الخطاب الإسلامى عند المسيري كان لابد أن يكون إنسانياً ، والمسلم المرتبط بالفطرة يجب أن يكون ربانياً وعالمياً ، ذلك هو المنطلق الذي آمن به الدكتور المسيرى ، حينما أكد على إنسانية الإسلام وعالميته ، ورحلته الفكرية والمعرفية كانت محاولة للبحث عن الإنسان ، ذلك أن الوصف الأدق لرحلته هو وصف " رحلة البحث عن الحقيقة " ، فرغم التحولات التى مر بها ، فإن مكونات رؤيته وعناصرها الأساسية لم تتغير ، رغم تغير بعض الأسس الفلسفية ، ورغم تغير المنهج. حتى ذهب البعض إلى العامل الإنسانى أو " المشترك الإنسانى " هو مفتاح العالم النقدى للمسيرى وهو الذي منح رؤيته الإسلامية سمتها الأصيل في نقدها للغرب وكشفها للمشروع الصهيوني واحتفاءها باللغة والمجاز وإعادة صياغتها لرؤى الأطفال في قصصه البسيطة وحفاوته بالمقاومة التي تتحدي حسابات الهيمنة والقوة الغاشمة، وسيره في مظاهرات الديمقراطية يواجه خوذات الأمن وهراوات الشرطة.
حياة ثرية ودروس كبرى وعالم من المفاهيم والقضايا يحتاج إمعان نظروميراث من الحكمة يحتاج ورثة يبنون على ما قدم، وشخصية فريدة تعلمنا منها التواضع والصبر والتسليم للقدر والعزة بالله والشموخ في أزمنة الإنكسار. يرحمه الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.