مرت بهدوء مع مطلع الشهر الذكري السنوية لوفاة الدكتور عبد الوهاب المسيري. ثم فقدنا خلال الأيام الماضية ثلاثة من رجال الأمة علي تنوع مواقعهم وتنازع الناس علي مكانهم ومكانتهم، هم السيد محمد حسين فضل الله في لبنان، والدكتور نصر حامد أبو زيد والدكتور أحمد العسال في مصر. كان كل من هؤلاء يبحث عن روح الإنسان في مسيرته رغم اختلاف الطرق، السيد فضل الله أعاد الاعتبار للتفكير في التعامل مع الموروث الشيعي، والدكتور نصر حامد أبو زيد أراد أن يعيد الاعتبار للتفكير في التعامل مع التراث حتي وإن اختلفنا معه في منطلقه ومنهجه يظل له أجر المجتهد ومن اللافت أن تنبري بعض الأقلام لوصفه بالهالك بعد أن سعت لتكفيره حياً، والدكتور أحمد العسال الذي كان من رواد نشر الثقافة الإسلامية وانتقل من الدراسة بالخارج إلي المشاركة في تأسيس الجامعة الإسلامية في باكستان وتعرفه دوائر الصحوة الإسلامية داعية ونموذجاً أخلاقياً وكان من جيل الدكتور القرضاوي . الخيط الناظم بين هؤلاء هو بعده الإنساني سواء في تفكيره وحركته أو في طبيعته الشخصية التي كانت حاضنة للآخرين متواصلة معهم، وتركوا ميراثاً في هذا المجال يستحق الاحترام. ليس عندي ما أكتبه عن الدكتور العسال فقد عرفته داعية وعلامة عن بعد ولقيته في عمري مرة أو مرتين، ولم التق نصر حامد أبو زيد إلا من خلال كتاباته لكنني سمعت الكثير عن صولاته وجولاته دفاعاً عن الإسلام في مواجهة المستشرقين والمارقين في المؤتمرات الدولية في مهجره في السنوات الماضية كما كان له موقفه المعروف والمشرف من المقاومة رغم حساسية مكانته الجامعية في هولندا، والسيد فضل الله كتبت عنه الأسبوع الماضي، واليوم أكتب عن المسيري في ذكراه. تعلمت من المسيري كيف نبحث عن الإنسان في المنظومة الفكرية والمعرفية، وكيف نقرأ الفكر والتراث الإسلامي باعتباره مسيرة دفاع عن الإنسان. ويمكن اعتبار الخيط الناظم في فكر المسيري هو تقديم الرؤية الإنسانية التي تميز المنظور التوحيدي الإسلامي حتي وإن لم يستخدم المفاهيم المألوفة أو يفرط في الاستشهاد بالآيات والأحاديث، فقد نفذ المسيري إلي قلب المنظومة المقاصدية للرؤية الإسلامية وفهم أن المقصد الأعلي هو تأكيد إنسانية الإنسان من خلال تأكيد تنزه الله الذي ليس كمثله شيء، والتمييز بين الإنساني والطبيعي والغيبي وإدراك الفارق بين هذه المستويات التي حاولت المنظومة العلمانية اختزالها في مركزية الإنسان ومساواته بالطبيعة، وإقصاء سؤال الألوهية والربوبية من التفكير. لذا فقد صاغ المسيري هذه الفكرة بلغة يفهمها السياق الثقافي وأسهم في جدل نقد الحداثة الذي مر في فترة الثمانينيات بجدل الدولة الدينية في مواجهة العلمانية وشهد مناظرات بين العلماء ورموز العلمانية الثقافية والفلسفية لم تثمر عن الشيء الكثير، ولا بد من الاعتراف بأن المسيري قد نقل هذا الجدل نقلة نوعية بتحليل العلمانية في منظورها الفلسفي وتقديم خطاب إسلامي جديد يعيد الاعتبار للإنسان ودوره سيرًا علي نهج مفكرين من أمثال مالك بن نبي وعلي شريعتي . لقد أكد المسيري في كتابيه "العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة" و "دفاعاً عن الإنسان" ثمة أسبقية الإنساني علي العالم الطبيعي، لأن الإنسان قادر علي تجاوز النظام الطبيعي المادي وعلي تجاوز ذاته الطبيعية المادية، ولأن فيه بعدًا غيبيًا يستعصي علي الاختزال والتشييء. إذا مُحيَ هذا الفارق حينئذ تسري علي الإنسان القوانين المادية الحتمية التي تسري علي الطبيعة والمادة، مما يعني تقويض الإنسان وتفكيكه ورده إلي ما هو دونه، أي المادة، فمع غياب الله أو تهميشه يتحرك الإنسان داخل السقف المادي وحده، لا يمكنه الفكاك منه ويتحول إلي كائن طبيعي (مادي) فيفقد ما يميزه كإنسان (حرية الاختيار- المقدرة علي التجاوز...إلخ). وقد ربط المسيري بين الفلسفي الفكري والتحليل السياسي، فقد رأي كيف ساعد علي هيمنة هذا النموذج الفكري علي العالم تزايد نفوذ الدولة القومية ذات السلطة المطلقة كما صورها هيجل، وانتشار النظريات السياسية التي ظهرت لتبرير هذا الوضع، واتساع نطاق القطاع الاقتصادي التجاري، وشيوع النظريات العقلانية المتطرفة والنفعية. وجوهر كل هذه النظريات مادي آلي، فهي تجعل هدف الوجود غاية مجردة إنسانية مثل الدولة (في المجال السياسي) أو القانون العام (في المجال العلمي والتحليلي بشكل عام) أو الربح ومراكمة الثروة (في المجال الاقتصادي) والمنفعة الشخصية (في المجال الأخلاقي). وقد تابع االمسيري التيارات الإنسانية في الغرب التي تراجع مسلمات الحداثة وتبحث عن استعادة إنسانية الإنسان واعتبرها جزءًا من جبهة الدفاع عن الإنسان وجزءًا من هذا التوجه الذي يحتل فيه الإسلام موقعاً فريدًا، وبذا منح الرؤية الإسلامية أفقاً جديداً يستعيد فكرة حلف الفضول تاريخيًا، وبحثاً عن المعمورة الفاضلة التي تحدث عنها الفارابي وغيره من فلاسفة التاريخ الإسلامي. إن الخطاب الإسلامي عند المسيري كان لابد أن يكون إنسانياً، والمسلم المرتبط بالفطرة يجب أن يكون ربانياً وعالمياً، ذلك هو المنطلق الذي آمن به الدكتور المسيري، حينما أكد إنسانية الإسلام وعالميته، ورحلته الفكرية والمعرفية كانت محاولة للبحث عن الإنسان، من هنا كان نضاله ضد الصهيونية، وحفاوته بالمقاومة التي تتحدي حسابات الهيمنة والقوة الغاشمة، وسيره في مظاهرات كفاية يواجه خوذات الأمن وهراوات الشرطة دفاعاً عن الديمقراطية حياة ثرية لكل هؤلاء ودروس كبري وعالم من المفاهيم والقضايا يحتاج إمعان نظر وميراث من الحكمة يحتاج ورثة يبنون علي ما قدم، وشخصيات فريدة تعلمنا منها التواضع والصبر والتسليم للقدر والعزة بالله والشموخ في أزمنة الانكسار، رغم كل الاختلاف المذهبي والفكري والسياسي الذي يقف عند لحظة الموت، ولن يفصل فيه سوي الله يوم القيامة. يرحمهم الله.