1 شهر مضي تقريبا وأنا أقرأ وأقرأ ما يُكتب عن نصر حامد أبوزيد، وينقسم الذين يكتبون ما بين متضامن مع المواقف والآراء التي عبّر عنها أبوزيد، وبين معارض لها. وهذا أمر مفهوم إزاء رجل اتخذ مواقف جريئة هزّت الحياة الثقافية والفكرية في العالم العربي وخارجه. ولكن ما لفتني في هذه المواقف أن كل الذين عرفوا الدكتور نصر قالوا فيه كلاماً واحداً: شخص لطيف، دمث، يتقبّل الرأي المخالف، مدافع عن حريّة الرأي بما في ذلك حريّة خصومه، أُسيء فهمه، يتمتع بروح مرحة، لعب دوراً مهماً في الحركة الفكريّة، واجه التسلّط والجهل بشجاعة... في حين أن أولئك الذين تحدّثوا عنه كشخص خطير وملفّق، وشرير، إضافة إلي الصفات التقليدية التي ترافق ذكره، ككافر وعدوّ للإسلام ومرتدّ.. هم أشخاص لم يعرفوه. وحين أقول "كل أولئك الذين عرفوا أبو زيد"، لا أقتصر في ذلك علي الذين يتخذون مواقفه نفسها علي المستوي الفكري، بل أيضا أولئك الذين عرفوه ويعارضونه الرأي، وعدد كبير من بين هؤلاء كتبوا معبّرين عن مودّتهم وتقديرهم. ومن بينهم طلابه في الدراسات الإسلامية والذين هم، في غالبيتهم، من الذين تخرجوا من الأزهر أو من جامعات إسلامية مشابهة، وقد التقيت عدداً منهم في جامعة لايدن بصحبة أبو زيد، ومثالهم الدال هو الدكتور عمر شوبكي، خريج الأزهر الذي عمل علي شهادة الدكتوراه مع الدكتور نصر، وأصبح من أقرب أصدقائه. ومعظم هؤلاء الطلاب كانوا يجتمعون في بيت أبو زيد في المناسبات التي اعتادوا الاجتماع فيها، مثل الأعياد، أو ليالي رمضان. ولفتني أيضاً، أن أولئك الذين يهاجمونه، وكثيرين أيضاً ممن يمتدحونه، لم يقرأوا أعماله، بل ينصبّ كلامهم علي نصر أبو زيد الرمز المعارض للخطاب الديني السائد، أكثر مما يتناولون أبحاثه العلميّة التي تبنّت أفكار تيار المعتزلة أو التيار العقلي في التفسير مع الاستفادة من عدّة معرفية حديثة في قراءة النص، وقد تطورت هذه الأبحاث ليطرح أمراً جديداً ذا قيمة كبيرة هو قراءة القرآن باعتباره خطاباً أو خطابات، وهذا ما جعله يركز علي الجانب اللغوي والتاريخي، إذ حين نقول خطاباً فهذا الخطاب يعني كلاماً موجهاً للبشر وبالتالي بلغتهم. وقد أوضح مرات أن هذا مستوي من مستويات القراءة لا علاقة له بالتقديس ولا بنزع القداسة ولا الدخول في معارك لا جدوي منها. أما ما دفع ممثلي الخطاب الديني السائد إلي الذعر، وخوض هجومهم العنيف، هو التصدّي لمفهوم الحاكمية، ولفقهاء هذا الخطاب الذين يعتبرون أنفسهم "ممثلي الله" علي الأرض. وكما وقف أبو زيد "الفقير الأرومة والمنبت" ضد تسلّط السلطة السياسية وضد السلطة الدينية، كاشفاً كيف يستخدم هؤلاء كلام الله لمنفعتهم، متناولاً تحالفهم مع السلطة في سبيل الحصول علي المغانم والمراكز, فينعمون هم في مغانم الدنيا ويعِدون المؤمنين بمغانم الآخرة، إنه تحالف لا يخفي ويجمع أصحاب المصلحة: قوّة الدين وقوّة السلطة، السلطة السياسية والسلطة الدينية. وهناك أمر آخر لفتني منذ اللحظات الأولي لإعلان الوفاة، وهو أن معظم وسائل الإعلام راحت تتحدّث عن "الفيروس الأندونيسي الغامض" الذي تسبب بوفاة نصر حامد أبو زيد. وفور الانتهاء من دفن الصديق الرائع، قمنا، زوجته ابتهال ومجموعة من أصدقائه، بكتابة بيان يوضح سبب الوفاة. وفي اليوم التالي كانت المواقع علي الإنترنت التي تنسب لنفسها النطق باسم الإسلام، وبعض المحطّات التلفزيونيّة، تطير فرحاً بهذه العبارة الملتبسة، وتفسّر الأمر علي أنه تدبير إلهي لمعاقبة "المارق" نصر أبو زيد. حتي إن محطة تلفزيون تطلق علي نفسها اسم " الأزهري" راحت، ويساعدها في ذلك بعض الفقهاء من ممثلي الله علي الأرض، تقيم مقارنة بين النمرود الذي أرسل الله له ذبابة (أو بعوضة) دخلت رأسه وكانت سبباً في عذابه وموته، وبين "الفيروس الغامض" الذي أصاب أبو زيد، واندفعوا يبثّون حقداً تفوح منه روائح الكراهية والجهل، وهذا ما طالما حاربه أبو زيد بالحب والمعرفة. وقد قمت مع الصديق الدكتور جابر عصفور بالاتفاق مع العزيزة ابتهال، بكتابة بيان آخر لتوضيح أسباب الوفاة، كما قامت وزارة الصحّة المصرية بإصدار بيان توضيحي. ولكن استمر العزف علي مقولة الفيروس الغامض. ولم يلتفت هؤلاء لهذا الفيض من الحب والدماثة والصداقة التي ميزت شخصية أبو زيد كما ألمح ليس معظم، بل كل، الذين عرفوه. 2 في أوّل زيارة لنصر حامد أبو زيد إلي بيروت، وكانت الدكتورة ابتهال بصحبته، وفي الصباح الباكر، قلت له: ها نحن ذا يا ابن أبي زيد في بيروت فإلي أين تريد أن تقودنا خطواتنا الأولي، فقال فوراً ومن دون تفكير: بعد استئذان السيدتين دلال وابتهال آمل أن تكون زيارتنا الأولي إلي سماحة السيد محمد حسين فضل الله، فقد وقف هذا العالم الجليل موقفاً معبّراً عمّا أتمني أن يتّصف به علماء المسلمين من سماحة وعلم ومسؤولية. فاتصلت بمكتب سماحة السيد، وفوجئت بأن سماحته في مستشفي الجامعة الأميركية بسبب نوبة قلبيّة، وقد تأسّفت لأبو زيد علي تعثّر الخطوة الأولي، ولكنه قال لي لماذا لا نذهب لزيارته في المستشفي؟ عندما دخلنا وأبلغنا المحيطين بسماحة السيّد برغبة الدكتور نصر أبو زيد، فوجئت بهم كأنهم كانوا ينتظرونه. استقبلوه بمودّة، وكان نصر أبو زيد أوّل زائر من غير عائلته والمحيطين به، وقد قال له سماحة السيّد هاشّاً مبتسماً: "أنت السبب في دخولي إلي المستشفي." وكان ردّ نصر الذي لم يرتبك: "اللهم إني لا أتمني لك إلا طول العمر، فما أحوجنا إلي مثلك." لقد كان لقاءً ودوداً رغم قصره، كانت البسمة علي وجوه الجميع، وقد أخبرونا أن سماحة السيد كان يحسّ بأمر غير طبيعي يحصل معه، وكلّما ألححنا عليه بالذهاب إلي المستشفي كان يردّ: سنذهب عندما تنتهي المقابلة (وقد كان سماحة السيد فضل الله يشاهد مقابلة نصر أبو زيد علي محطة LBC والتي كانت سبب حضور نصر وابتهال إلي بيروت). وقد تكرّر لقاء الدكتور نصر أبو زيد مع سماحة السيد مرتين في بيروت إضافة إلي لقاء طويل في