بعد غلق التسجيل اليوم.. متى تعلن نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025؟    «التعليم العالي»: اليوم الفرصة الأخيرة لتنسيق المرحلة الثانية    قروض السلع المعمرة بفائدة 26%.. البنوك تتدخل لتخفيف أعباء الصيف    رئيس الوزراء يتابع جهود منظومة الشكاوى الحكومية خلال يوليو    سعر الذهب اليوم وعيار 21 الآن في عطلة الصاغة الأسبوعية الأحد 10 أغسطس 2025    «بيت التمويل الكويتى- مصر» يطلق المدفوعات اللحظية عبر الإنترنت والموبايل البنكي    تعرف على أعلى شهادة ادخار في البنوك المصرية    الضرائب: 12 أغسطس آخر موعد لانتهاء التسهيلات الضريبية    حقائق جديدة حول اتفاقية الغاز بين مصر وإسرائيل يكشفها وزير البترول الأسبق    إعلام فلسطيني: قصف إسرائيلي يستهدف خان يونس وشرق غزة ومخيم النصيرات    صواريخ مصرية- إيرانية متبادلة في جامعة القاهرة! (الحلقة الأخيرة)    إن بي سي نيوز: البيت الأبيض يبحث دعوة زيلينسكي لزيارة "ألاسكا"    مصادر مطلعة: مصر تبحث «صفقة شاملة» لوقف النار في غزة    البحرين ترحب بتوقيع اتفاق السلام بين أذربيجان وأرمينيا برعاية أمريكية    موعد مباراة الأهلي المقبلة في الدوري بعد التعادل أمام مودرن سبورت    ريبيرو: كنا الأفضل في الشوط الثاني.. والتعادل أمام مودرن سبورت نتيجة طبيعية    " مركز معايا ".. تفاصيل مشاهدة زيزو وحكم مباراة الأهلي ومودرن سبورت (فيديو)    أمير هشام: الأهلي ظهر بشكل عشوائي أمام مودرن.. وأخطاء ريبيرو وراء التعادل    20 صفقة تدعم كهرباء الإسماعيلية قبل بداية مشواره في الدوري الممتاز    موعد مباراة الهلال ضد آراو الودية.. القنوات الناقلة والمعلق    ننشر أسماء المصابين في حريق محلات شبرا الخيمة    طقس مصر اليوم.. ارتفاع جديد في درجات الحرارة اليوم الأحد.. والقاهرة تسجل 38 درجة    بحضور جماهيري كامل العدد.. حفلا غنائيًا ل "حمزة نمرة" بمكتبة الإسكندرية    لهذا السبب.... هشام جمال يتصدر تريند جوجل    التفاصيل الكاملة ل لقاء اشرف زكي مع شعبة الإخراج بنقابة المهن التمثيلية    لا تبخل على صحتك.. حظك اليوم برج الدلو 10 أغسطس    محمود العزازي يرد على تامر عبدالمنعم: «وعهد الله ما حصل» (تفاصيل)    شيخ الأزهر يلتقي الطلاب الوافدين الدارسين بمدرسة «الإمام الطيب»    دعاء صلاة الفجر.. أفضل ما يقال في هذا الوقت المبارك    من غير جراحة.. 5 خطوات فعالة للعلاج من سلس البول    يعاني ولا يستطيع التعبير.. كيف يمكن لك حماية حيوانك الأليف خلال ارتفاع درجات الحرارة؟    الشرطة البريطانية تعتقل أكثر من 470 مناصرا لحركة "فلسطين أكشن" (صور)    دعاء الفجر يجلب التوفيق والبركة في الرزق والعمر والعمل    مصدر طبي بالمنيا ينفي الشائعات حول إصابة سيدة دلجا بفيروس غامض    مصرع وإصابة طفلين سقطت عليهما بلكونة منزل بكفر الدوار بالبحيرة    مراد مكرم: تربيت على أن مناداة المرأة باسمها في مكان عام عيب.. والهجوم عليَ كان مقصودا    وزير العمل: غرامة تصل إلى 200 ألف جنيه للأجنبي الذي يعمل بدون تصريح بدءا من سبتمبر    خالد الجندي: أعدت شقة إيجار قديم ب3 جنيهات ونصف لصاحبها تطبيقا للقرآن الكريم    مصادر طبية بغزة: استشهاد أكثر من 50 فلسطينيًا 40 منهم من منتظري المساعدات    طلاب مدرسة الإمام الطيب: لقاء شيخ الأزهر خير دافع لنا لمواصلة التفوق.. ونصائحه ستظل نبراسا يضيء لنا الطريق    حكيمي: أستحق حصد الكرة الذهبية.. وتحقيق الإحصائيات كمدافع أصعب كثيرا    القبض على بلوجر في دمياط بتهمة التعدي على قيم المجتمع    جنايات مستأنف إرهاب تنظر مرافعة «الخلية الإعلامية».. اليوم    هل هناك مد لتسجيل الرغبات لطلاب المرحلة الثانية؟.. مكتب التنسيق يجيب    أندريه زكي يفتتح مبنى الكنيسة الإنجيلية بنزلة أسمنت في المنيا    سهام فودة تكتب: أسواق النميمة الرقمية.. فراغ يحرق الأرواح    ترامب يعين «تامي بروس» نائبة لممثل أمريكا في الأمم المتحدة    أمين الجامعات الخاصة: عملية القبول في الجامعات الأهلية والخاصة تتم بتنسيق مركزي    "حب من طرف واحد ".. زوجة النني الثانية توجه له رسالة لهذا السبب    منها محل كشري شهير.. تفاصيل حريق بمحيط المؤسسة فى شبرا الخيمة -صور    يسري جبر: "الباء" ليس القدرة المالية والبدنية فقط للزواج    نرمين الفقي بفستان أنيق وكارولين عزمي على البحر.. لقطات نجوم الفن خلال 24 ساعة    توقف مترو الأنفاق وإصابة 4 أشخاص.. تفاصيل حريق محلات شبرا الخيمة -آخر تحديث    ما تأثير ممارسة النشاط البدني على مرضى باركنسون؟    أفضل وصفات لعلاج حرقان المعدة بعد الأكل    أفضل طرق لتخزين البطاطس وضمان بقائها طازجة لفترة أطول    الدكتور محمد ضياء زين العابدين يكتب: معرض «أخبار اليوم للتعليم العالي».. منصة حيوية تربط الطلاب بالجماعات الرائدة    رئيس الوزراء يوجه بالاهتمام بشكاوى تداعيات ارتفاع الحرارة في بعض الفترات    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قصة قبلة.. ورحلة.. وعزاء في بيروت
" إهدار السياق" في قضية نصر أبوزيد
نشر في أخبار الأدب يوم 07 - 08 - 2010


1
شهر مضي تقريبا وأنا أقرأ وأقرأ ما يُكتب عن نصر حامد أبوزيد، وينقسم الذين يكتبون ما بين متضامن مع المواقف والآراء التي عبّر عنها أبوزيد، وبين معارض لها. وهذا أمر مفهوم إزاء رجل اتخذ مواقف جريئة هزّت الحياة الثقافية والفكرية في العالم العربي وخارجه.
ولكن ما لفتني في هذه المواقف أن كل الذين عرفوا الدكتور نصر قالوا فيه كلاماً واحداً: شخص لطيف، دمث، يتقبّل الرأي المخالف، مدافع عن حريّة الرأي بما في ذلك حريّة خصومه، أُسيء فهمه، يتمتع بروح مرحة، لعب دوراً مهماً في الحركة الفكريّة، واجه التسلّط والجهل بشجاعة...
في حين أن أولئك الذين تحدّثوا عنه كشخص خطير وملفّق، وشرير، إضافة إلي الصفات التقليدية التي ترافق ذكره، ككافر وعدوّ للإسلام ومرتدّ.. هم أشخاص لم يعرفوه.
وحين أقول "كل أولئك الذين عرفوا أبو زيد"، لا أقتصر في ذلك علي الذين يتخذون مواقفه نفسها علي المستوي الفكري، بل أيضا أولئك الذين عرفوه ويعارضونه الرأي، وعدد كبير من بين هؤلاء كتبوا معبّرين عن مودّتهم وتقديرهم. ومن بينهم طلابه في الدراسات الإسلامية والذين هم، في غالبيتهم، من الذين تخرجوا من الأزهر أو من جامعات إسلامية مشابهة، وقد التقيت عدداً منهم في جامعة لايدن بصحبة أبو زيد، ومثالهم الدال هو الدكتور عمر شوبكي، خريج الأزهر الذي عمل علي شهادة الدكتوراه مع الدكتور نصر، وأصبح من أقرب أصدقائه. ومعظم هؤلاء الطلاب كانوا يجتمعون في بيت أبو زيد في المناسبات التي اعتادوا الاجتماع فيها، مثل الأعياد، أو ليالي رمضان.
ولفتني أيضاً، أن أولئك الذين يهاجمونه، وكثيرين أيضاً ممن يمتدحونه، لم يقرأوا أعماله، بل ينصبّ كلامهم علي نصر أبو زيد الرمز المعارض للخطاب الديني السائد، أكثر مما يتناولون أبحاثه العلميّة التي تبنّت أفكار تيار المعتزلة أو التيار العقلي في التفسير مع الاستفادة من عدّة معرفية حديثة في قراءة النص، وقد تطورت هذه الأبحاث ليطرح أمراً جديداً ذا قيمة كبيرة هو قراءة القرآن باعتباره خطاباً أو خطابات، وهذا ما جعله يركز علي الجانب اللغوي والتاريخي، إذ حين نقول خطاباً فهذا الخطاب يعني كلاماً موجهاً للبشر وبالتالي بلغتهم. وقد أوضح مرات أن هذا مستوي من مستويات القراءة لا علاقة له بالتقديس ولا بنزع القداسة ولا الدخول في معارك لا جدوي منها.
أما ما دفع ممثلي الخطاب الديني السائد إلي الذعر، وخوض هجومهم العنيف، هو التصدّي لمفهوم الحاكمية، ولفقهاء هذا الخطاب الذين يعتبرون أنفسهم "ممثلي الله" علي الأرض. وكما وقف أبو زيد "الفقير الأرومة والمنبت" ضد تسلّط السلطة السياسية وضد السلطة الدينية، كاشفاً كيف يستخدم هؤلاء كلام الله لمنفعتهم، متناولاً تحالفهم مع السلطة في سبيل الحصول علي المغانم والمراكز, فينعمون هم في مغانم الدنيا ويعِدون المؤمنين بمغانم الآخرة، إنه تحالف لا يخفي ويجمع أصحاب المصلحة: قوّة الدين وقوّة السلطة، السلطة السياسية والسلطة الدينية.
وهناك أمر آخر لفتني منذ اللحظات الأولي لإعلان الوفاة، وهو أن معظم وسائل الإعلام راحت تتحدّث عن "الفيروس الأندونيسي الغامض" الذي تسبب بوفاة نصر حامد أبو زيد. وفور الانتهاء من دفن الصديق الرائع، قمنا، زوجته ابتهال ومجموعة من أصدقائه، بكتابة بيان يوضح سبب الوفاة.
وفي اليوم التالي كانت المواقع علي الإنترنت التي تنسب لنفسها النطق باسم الإسلام، وبعض المحطّات التلفزيونيّة، تطير فرحاً بهذه العبارة الملتبسة، وتفسّر الأمر علي أنه تدبير إلهي لمعاقبة "المارق" نصر أبو زيد. حتي إن محطة تلفزيون تطلق علي نفسها اسم " الأزهري" راحت، ويساعدها في ذلك بعض الفقهاء من ممثلي الله علي الأرض، تقيم مقارنة بين النمرود الذي أرسل الله له ذبابة (أو بعوضة) دخلت رأسه وكانت سبباً في عذابه وموته، وبين "الفيروس الغامض" الذي أصاب أبو زيد، واندفعوا يبثّون حقداً تفوح منه روائح الكراهية والجهل، وهذا ما طالما حاربه أبو زيد بالحب والمعرفة. وقد قمت مع الصديق الدكتور جابر عصفور بالاتفاق مع العزيزة ابتهال، بكتابة بيان آخر لتوضيح أسباب الوفاة، كما قامت وزارة الصحّة المصرية بإصدار بيان توضيحي. ولكن استمر العزف علي مقولة الفيروس الغامض. ولم يلتفت هؤلاء لهذا الفيض من الحب والدماثة والصداقة التي ميزت شخصية أبو زيد كما ألمح ليس معظم، بل كل، الذين عرفوه.
2
في أوّل زيارة لنصر حامد أبو زيد إلي بيروت، وكانت الدكتورة ابتهال بصحبته، وفي الصباح الباكر، قلت له: ها نحن ذا يا ابن أبي زيد في بيروت فإلي أين تريد أن تقودنا خطواتنا الأولي، فقال فوراً ومن دون تفكير: بعد استئذان السيدتين دلال وابتهال آمل أن تكون زيارتنا الأولي إلي سماحة السيد محمد حسين فضل الله، فقد وقف هذا العالم الجليل موقفاً معبّراً عمّا أتمني أن يتّصف به علماء المسلمين من سماحة وعلم ومسؤولية.
فاتصلت بمكتب سماحة السيد، وفوجئت بأن سماحته في مستشفي الجامعة الأميركية بسبب نوبة قلبيّة، وقد تأسّفت لأبو زيد علي تعثّر الخطوة الأولي، ولكنه قال لي لماذا لا نذهب لزيارته في المستشفي؟ عندما دخلنا وأبلغنا المحيطين بسماحة السيّد برغبة الدكتور نصر أبو زيد، فوجئت بهم كأنهم كانوا ينتظرونه. استقبلوه بمودّة، وكان نصر أبو زيد أوّل زائر من غير عائلته والمحيطين به، وقد قال له سماحة السيّد هاشّاً مبتسماً: "أنت السبب في دخولي إلي المستشفي." وكان ردّ نصر الذي لم يرتبك: "اللهم إني لا أتمني لك إلا طول العمر، فما أحوجنا إلي مثلك."
لقد كان لقاءً ودوداً رغم قصره، كانت البسمة علي وجوه الجميع، وقد أخبرونا أن سماحة السيد كان يحسّ بأمر غير طبيعي يحصل معه، وكلّما ألححنا عليه بالذهاب إلي المستشفي كان يردّ: سنذهب عندما تنتهي المقابلة (وقد كان سماحة السيد فضل الله يشاهد مقابلة نصر أبو زيد علي محطة LBC والتي كانت سبب حضور نصر وابتهال إلي بيروت). وقد تكرّر لقاء الدكتور نصر أبو زيد مع سماحة السيد مرتين في بيروت إضافة إلي لقاء طويل في
دمشق.
أما الخطوة الثانية فكانت، كما أراد نصر، زيارة جريدة السفير. وقد قال لي نصر: "لقد وقفت هذه الجريدة مواقف جريئة لن أنساها إبّان فترة محاكمتي." وهناك اجتمع في مكتب الأستاذ طلال سلمان كل صحافيي الجريدة الذين عبّروا عن سعادة وفرح بلقاء هذا الوجه البشوش الطيّب، وقد سمعت عدّة تعليقات من أصدقاء في الجريدة عن ما يجتمع في شخص هذا الرجل من البساطة الطيبة، وأيضاً الحزم في المواقف.
والخطوة الثالثة التي أرادها كانت مع الياس خوري الذي كان يرأس تحرير ملحق النهار, والذي كانت مواقفه تستدعي من نصر اعترافاً بهذا الجميل. وتتالت خطوات نصر في بيروت وكانت كلها للتعبير عن ردّ الجميل لكل أولئك الذين وقفوا إلي جانبه. وكلما ذكّرته بأن ابتهال ودلال ينتظران وعدنا بالذهاب إلي مغارة جعيتا، كان يردّ: ما يصحّش يا أبو علي، هؤلاء الناس لهم حق علينا وأنا فلاح, اللي يشوفني بعين أشوفو بتنين.
وقد صادفتنا في ذلك اليوم حكاية دالّة من بين حكايات كثيرة سأرويها في ما بعد:
كنا خرجنا من الجامعة الأميركية متجهين إلي جريدة السفير، وكنت خائفاً علي نصر وأتلفّت حولي، فيما نصر يسير كعادته، ببطء، ولا يلتفت لشيء، وقد لاحظت أن سيدة محجّبة من الراس إلي أخمص القدمين تسير خلفنا وتنظر إلي نصر، وكلما التقي نظري بنظرها تتوقف مرتبكة. كنّا وصلنا الي زاوية تقاطع شارع الحمراء مع الشارع الذي يؤدي إلي مستشفي الجامعة، فقلت لنصر: هيا بنا ندخل إلي هذا المحل أريد أن أشتري حذاء. فنظر إليّ مندهشاً: الله مالك يا أبا علي ما انت هوه لابس حذاء بسم الله ما شاء الله. فقلت له لقد أعجبني حذاء هنا، ابتسم أبو زيد ودخل معي وهو يقول: كنت فاكرك فلاح بسيط زيّي.
بعد عدة دقائق خرجنا وهو يعلّق ضاحكاً علي حالي. وبعد أن سرنا عدة خطوات لاحظت أن السيدة ما زالت تتبعنا، فعدت مباشرة إلي الخلف متوجهاً إليها وقلت غاضباً: ماذا تريدين ومن أنت؟ فقالت مرتبكة: "أنا فقط أريد أن أسلّم علي الدكتور نصر."
كنت خائفاً، وكان هو ينظر إليّ متعجّباً لماذا تركته هكذا، ولم يبدُ علي وجهه سوي الهدوء والبسمة. وبعد أن زال خوفي بسبب الصوت المرتبك للسيّدة التي بدت كأنّها ترجوني أن أسمح لها، قلت : حسناً انتظري. ورحت لأخبر نصر بطلب السيدة: فقال لي: " الله، مالك يا أبا علي اليوم دا أنت خايف عليّ، الأعمار بيد الله يا سيدي" ونظر إلي السيدة واتجه نحوها وهو يمدّ يده للسلام. وكم ضحكت عندما رفضت السيدة أن تمدّ له يدها، بل هجمت عليه وقبّلته في كتفه وقالت له: "أنت مسلم ، أنت أكثر إيماناً من كل أولئك الذين اتهموك،" ثم بعد لحظات صمتٍ قالت له: "أنا بحبّك وبحبّ اللي متلك يا دكتور نصر." ضحك نصر كثيراً وهو يقول لي: "شوف يا حسن واتأكّد، هيَّ ابتهال هنا؟" ثم قال لها بصوته الودود وبسمته: "وأنا بحبّك يا ستّي، لكني متزوّج من ستّ يعني تعبت معايا كثير أوي." وقد ارتبكت السيّدة وقالت: "لا أقصد ذلك". ثم خبّأت وجهها وتركتنا ضاحكة.
3
التقيت، برفقته، أصدقاء كثر في لبنان وفي خارج لبنان، وتعرّفت إلي عدد كبير من أصدقائه في أماكن متعدّدة من العالم، وفي كل تلك الأوقات، ومع جميع النّاس، كان نصر أبو زيد يشيع محبّة وبساطة. صار نصر أبو زيد جزءاً لا ينقطع من حياتي لعشرين عاماً، نشرت بعض كتبه، ورفضت نشر بعضها الآخر. اعترضت علي أشياء كتبها, عارضته في الكثير من الآراء وأصررت علي موقفي بقسوة أحياناً، رفضت أن أنشر كتابه "التفكير في زمن التكفير" وقلت له: هذا كتاب سجالي ليس من شِيَمك أيها العالم نصر أبو زيد وأنا لن أنشره. ولم أنشره حتي هذا التاريخ، بل إن ذلك الصّديق الرائع, ذلك العالم المتواضع من غير زيف, قال لي عندما سلّمني كل أعماله وأوراقه: "انشر ماتراه مناسبا، ولا تنشر التفكير في زمن التكفير. ولهذه الواقعة حكاية أخري عن المودّة التي يتعامل بها مع أصدقائه سأرويها فيما بعد.
ولا مرّة غضب، ولا مرّة ردّ سوي بالبسمة علي حَرَدي. صار جزءاً من عائلتي. زوجتي وأبنائي وإخوتي وأصدقائي وجيراني كلهم أحبوا ذلك الصديق الجميل... وهو، دائماً، يشيع محبّة، نعم محبّة ورقّة ودماثة وبساطة... وحزم.
تكبّد نصر أبو زيد مشقّة السفر لثماني عشرة ساعة، إذ حين لم يجد طائرة في رحلة مباشرة من استوكهولم إلي بيروت، أخذ طائرة إلي باريس, وانتظر 7 ساعات في المطار ليحضر في أوّل فرصة إلي بيروت. وقد رفض أن يرتاح في بيروت، وتوجّه مباشرة إلي زوطر لكي يكون معي ومع عائلتي جميعها عند وفاة والدتي التي توفيت عن 85 عاماً، ولم تكن وفاتها في سياق غير عادي. ووقف نصر حامد أبو زيد: أستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة القاهرة، وأستاذ الدراسات الاسلامية بجامعة لايدن، وأستاذ الانسانيات بجامعة أوترخت، والأستاذ الزائر والمحاضر في عدد من أكبر جامعات العالم. الأستاذ الذي يشغل كرسي ابن رشد، والذي يحمل جائزة ابن رشد... وقف بقامته، بعلمه، بسمعته، بمكانته.. ليخطب في حسينية زوطر، البلدة الصغيرة، مؤبّناً والدة صديقه.
ولا شك عندي في أني لم أكن الوحيد الذي تصرّف معه أبو زيد علي هذا النحو، فقد شاهدت وعرفت وسمعت وخبرت ميزة الحب والتضامن هذه. لقد رأيته يبكي مرات ومرات فرحاً وحزناً، ولم يكن يخفي ذلك.
أَرَجُلٌ مثل هذا يُقارن بالنمرود، ذلك الباغي الطاغي كما تقول رواية فقهاء قناة "الأزهري"؟
أرجل مثل هذا يُقال عنه: بشري إلي المؤمنين لقد مات الهالك نصر أبو زيد؟
أرجل مثل هذا يقال إن الله أرسل له فيروساً غامضاً يعذّبه ويقتله.
إذا كان الأمر كذلك، فإن لي، ولتلك السيدة التي لحقت بنا في بيروت، ولكل أولئك الذين منحوه حبهم ودافعوا عنه، وخبروا "حبّه المشعّ"، إلهاً آخر.
4
تتكرر في كتابات نصر أبو زيد عبارة إهدار السياق، وذلك ليعبّر عن التفسير، أو التأويل، التعسّفي لنصّ ما. وها هو، نصر حامد أبو زيد، ابن فلاح من قحافة (طنطا) الذي ترك حلمه في دخول الجامعة ليعمل كفنّي لاسلكي لأن والده مات مبكراً، فحمل همّ عائلته. ثم اشتغل في النهار ودَرَسَ في الليل، ونجح في دخول الجامعة (ساحة العلم) وتخرّج بدرجة ممتاز، حاز الماجستير بدرجة الشرف، ثم شهادة الدكتوراه بدرجة الشّرف.
نصر حامد أبو زيد الذي دافع عن العلم والمعرفة ضد الجهل والخرافة، دافع عن الفقراء والمظلومين ضد الذين اغتنوا من "شحّ أو حرام" وتسلّطوا علي الرقاب والعباد.
نصر حامد أبو زيد الذي قال قوله ووقف شجاعاً بطلاً لا ترهبه كل أنواع التهديدات، ولم ترهبه السلطات، لا المحاكم، ولا الرقابات ولا العسس. ولم تغره المغانم ولا العروضات الكثيرة التي عُرضت عليه لبيع نفسه.
نصر حامد أبو زيد الذي جاء إلي بيروت، ومعه زوجته، بعد حرب تموز 2006، وفي صباح كصباحه الأول في بيروت، قال لي ولزوجتي: هيا بنا أريد أن أذهب إلي مارون الراس وبنت جبيل وعيترون. أريد أن أقف حيث وقف أولئك الذين في كل أقطار الأرض، افتدونا بأرواحهم. وبالفعل وقف أبو زيد علي مثلث بنت جبيل-عيترون-بليدا يقرأ الفاتحة للذين استشهدوا هناك.
أَرَجُلٌ مثله يقال فيه كلام كالذي تقولون، كلام يقول قائلوه إنهم يدافعون عن الأمّة ضد الذين يريدون بها الشّر؟
بئس أمّة لا يكون رجل مثل نصر أبو زيد رمزاً من رموزها، تُقتل أعماله بحثاً ونقداً، وحتي معارضة، ولكن لا تقتله جهلاً.
إن كلامكم هذا أيها السادة، ينافي سياق حياة واجتهادات وأبحاث نصر أبو زيد، إنه إهدار للسياق.
اليوم الأخير
كنا قد التقينا في المستشفي مجموعة من أصدقاء نصر أبو زيد الذين عرفوا نبأ الوفاة: أحمد مرسي, وحسن حنفي, وجابر عصفور, ومني ذو الفقار, وعلي مبروك وآخرين لم أكن أعرفهم, وكاتب هذه السطور. اجتمعنا حول ابتهال التي قالت: أري أن يتم الدفن اليوم, فنصر الذي أعرفه لم يكن طالب أبّهة ولا عظمة. وكنا نعرف ذلك, ولذا وافقنا, جميعا. ودّعناه بالحسرة علي غيابه, ولكن بالحبّ المشعّ الذي كانه. لقد كان دفنه منسجما مع حياته. كان من ضمن السياق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.