«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عرض كتاب “دفاعاً عن الإنسان” للدكتور عبد الوهاب المسيري
نشر في مصر الجديدة يوم 16 - 09 - 2010


دكتور عبد الوهاب المسيري
الدكتور المسيري الذي يتميز بأسلوبه الخاص ” لا أبالغ إن قلت أنه مؤسس لمدرسة فكرية في زمن أنهي فيه تأسسي المدارس و أصبح يعاد صياغة القديم بشكل مستحدث ” ثمل اللبرالية الجديدة و النيوكلاسيك.
فمنهجه ببساطة يؤكد علي أن الإنسان جزء من الطبيعة, فهو ينتمي إليها بشكل مادي عضوي و لكنه أيضا يحوي بداخلة علي جزء غير مادي يتساءل دائما عن غاية و سبب وجوده .. وهو الجزء الإلهي الذي نفخه الله فيه عند خلق آدم.
وعلى هذا الأساس فهو يرفض بشكل قاطع أن ندرس الإنسان و ظواهره بالأسلوب أو المنهج المادي الذي تخضع له الطبيعة و دراسة ظواهرها (الطبيعة و المادة مترادفتان في منهج الدكتور المسيري) فلا يمكننا تطبيق 1+1= 2 أبدا عند دراسة الظاهرة الإنسانية. لأنّ كل الناس يجمعهم قاسم مشترك أعظم ولكن هناك اختلافات بينية تفصلهم وتميزهم عن بعضهم البعض, قد يكونوا متشابهين في بعض الأمور لكن لا يوجد أبدا اثنين متطابقين تماما في كل شيء، المنهج العلمي الاختزالي يختزل الإنسان في بعد واحد فقط, وينكر عليه بقية الأبعاد الإنسانية الأخرى مثل العوامل الاجتماعية والنفسية والدينية وتاريخية وثقافية والسياسية ... الخ حتى يمكننا أن نصل إلى الأسباب الحقيقية التي تؤثر علي سلوك إنساني ما أو لكي نصدر حكماً يتناول و يراعي في اعتباره كل جوانب الحقيقة.
كتاب ” دفاعاً عن الإنسان ” يؤصل لهذا المبدأ في دراسته للظواهر الإنسانية، وقد تناول عدة ظواهر في كتابه ووقائع في التاريخ الإنساني والتي تم استنتاج نتيجة وظفت في غرض معين, بعيد كل البعد عن الحقيقة، فقام بنقض الحوادث أو الظواهر ووضعها في سياقها التاريخي والإنساني وحاول رصد كل العوامل التي كانت محيطة بالظاهرة قيد الدراسة حتى أنه وصل إلى نتائج مختلفة تماما عن المعتقدات السائدة في الوجدان الغربي.
فنجد في الكتاب اثنا عشر فصلاً , تناول ظواهر مثل ” الجماعات الوظيفية مقدمة نظرية – ثم في الفصل الذي يليه دراسة تطبيقية” ثم في الفصل الثالث تناول قضية الماشيح والمشيحانية في العقيدة اليهودية، والفصل الرابع يتناول: الحسيدية والصهيونية ومدى التشابه بينهما، والخامس يدحض مصطلح: معاداة السامية.
أما في الفصل السادس نجده يتناول ظاهرة معاداة اليهودية التي يزعم اليهود أنها متأصلة بدون سبب واضح في الوجدان الأوروبي و يفكك ثلاث حالات شهيرة في التاريخ الغربي ( تهمة الدم – دريفوس و الصراع بين الكنيسة و القوي العلمانية – واقعة ليو فرانك ).
أما في الفصل السابع فيفند المزعم الذي يقول ” بالعبقرية اليهودية ” وأن هذا المزعم ينزعهم من السياق الإنساني سواء كان التفوق أو العبقرية في العلوم أو في الشر.
وفي الفصل الثامن يتناول واقعة قلعة الماساداه , ويضعها في تاريخها المركب بدلاً من الأسطورة الاختزالية التي تحيط بها وتنزعها من الزمن والمكان والتاريخ وكل الظواهر الإنسانية المصاحبة.
أما في الفصل التاسع فيتناول مزاعم اليهود ويحاول تفسير ” الإبادة النازية لليهود ” ويقول أنها نتاج طبيعي للحضارة وأسلوب التفكير الغربي وليست ظاهرة دخيلة عليها ويبتعد بعد ذلك عن اليهود والصهيونية بشكل مباشر و يوسع مجال الدراسة أكثر ليشمل في الفصل العاشر محاولة لتفسير ” حملات الفرنجة كما نسميها أو الصليبية كما يسمونها هم “.
وفي الفصل الحادي عشر بتناول موضوع شائك و غامض وهو ” الماسونية “، أما في الفصل الثاني عشر والأخير فيتفرع إلى موضوع ثقافي تماما ويتناول دراسة ” المتاحف و الذات القومية ” وهي دراسة غنية و مهمة
وبعد استعراضنا للكتاب والدراسة المركبة للإنسان وتناول موضوعات عدة لنطبق هذا المنهج عليها، نأتي للملحقات في الكتاب و في رأيي أن الملحقات لا تقل أهمية عن الكتاب نفسه إن لم تكن أهم منه في الناحية النظرية، لأنها ترسم ملاحم فكر الدكتور و توضح أسلوبه بشكل نظري وتبين المنهج المتبع بدقة في دراسته للظواهر الإنسانية (حتى أنه ينصح القارئ في أن يبدأ بها وهذا ما فعلته وكانت النتيجة غاية في التشويق و الجمال.
فالملحق الأول: يبين بعض المفاهيم الفكرية ويشرح الدلالات المقصودة منها و يكثر من استخدامها في كتاباته في هذا الكتاب بشكل خاص و في كل منهجه الفكري بشكل عام فهو بداية يقارن ما بين الطبيعي والإنساني ويسرد الفوارق بينهما ويضحد فكرة أن الإنسان جزء من الطبيعة وتسري عليه كل القوانين التي تسري علي الطبيعة دون استثناء فهو علي حد قوله ليس صفحة بيضاء تتراكم عليها المعطيات المادية تعكس الواقع كله بحذافيره و كأنها آلة فوتوغرافية, ولكنه عقل يبقي ويستبعد ويهمش ويركز وهو مستقر كثير من الخبرات والمنظومات الأخلاقية والرمزية ومستودع كثير من الصور والذكريات المخزونة في الوعي واللاوعي, لذلك فهو عقل مبدع له مقدرة توليدية.
وهي ” الموضوعية المادية المتلقية” وهذا التصور ينطلق من أن العقل الإنساني عبارة عن صفحة بيضاء فوتوغرافية يتلقي كل شيء دون وعي وبمنتهي الحياد وأن القانون العام الذي يسري علي الطبيعة يسري علي الإنسان هو أيضا دون أي حياد! وهذا يعني أن إدراك جميع البشر لنفس الظاهرة هو إدراك واحد ولا يختلف عليه اثنان وهذا غير حقيقي بالفعل, وأن تطورنا لما هو أبعد من ذلك, نجد أن الموضوعية المادية المتلقية تلغي فكرة الغاية والقصد والهدف, فهي أفكار مرتبطة بالظاهرة الإنسانية وحدها، فالطبيعة كما نرصدها لا تعرف لا قصد ولا غاية ولا هدف ومن هذا المنطلق تم الحديث عن حيادية العلم ( أي أنه لا فارق بين العلم الطبيعي التي يدرس وبين العلوم الإنسانية التي تدرس الظواهر الإنسانية) و نجد أن تلك المادية المتلقية تحول إلى ببغائية. فتم تمرير تحيزات مختلفة بحسبانها رؤية محايدة عالمية. وتم هدم الإبداع والخصوصية والهوية وفي نهاية الأمر تم استبعاد الفاعل الإنساني .
بعد هذا الجزء الخطير (أو ربما نستطيع أن نقول أنه الأخطر علي الإطلاق في الكتاب) تجد سؤالاً يلح عليك نظراً لأنهم همشوا أو تجاهلوا الطبيعة الإنسانية التي تتناول الموضوع الواحد من أكثر من وجهة نظر، فقد قاموا بفرض وجهة نظر واحدة علي الموضوع و زعموا أن وجهة النظر هذه وجهة نظر عالمية : فمن هو الذي سيفرض وجهة نظره و رؤيته الإنسانية الخاصة ليجعلها قانون عام لا يقبل النقاش و يعطي من آرائه صفة الموضوعية المادية المتلقية ؟؟ وقبل أن تنتقل إلى الجزء الثاني تجد إجابة سؤالك فيه
التبعية الإدراكية فهو يقول ويرصد أن الخطاب التحليلي العربي سقط في هذا الفخ, وأصبح نقله للأحداث والوقائع هو نقل وقبول بما هو قائم وتجاهل تماما وجهة نظرنا نحن وهو ما يسمي ب “امبريالية المقولات ” أي أن تقوم إحدى القوي بتحديد النماذج المعرفية والمقولات التحليلية الأساسية بطريقة تعكس إدراكهم للواقع وتخدم مصالحهم وتستبعد إدراك الآخرين و تهمل مصالحهم .
نحن نطرح الأسئلة التي يطرحونها عن حضارتهم ومن منظورهم , أي أننا ندرك الحضارة الغربية لا بشكل مباشر وإنما كما يشاء لنا أصحابها إدراكها. بل إننا بدأنا ننظر لأنفسنا من خلال المقولات التحليلية لعالم الغرب ونماذجه الإدراكية. لذلك بدأ الإنسان العربي يري نفسه متخلفا مهما بذل من جهد ومهما أنتج من روائع , و بدأ يحكم علي نفسه بالهزيمة في المعركة قبل دخولها وفي الواقع إن التبعية الإدراكية ليست تبعية اقتصادية فحسب , وإنما هي بالأساس تبعية عميقة كامنة تتغلغل في أسلوب الحياة وفي رؤية الذات ورؤية الآخر.
ومن معالم تلك التبعية أننا نفشل في أن نسمي الأشياء ونترك الآخر يصفها لنا , لكنه يسميها ويصنفها ويضعها داخل خريطة إدراكية كبري تنبع من إدراكه ومصالحه. فإننا نتحدث عادة عن المسألة الشرقية وعن رجل أوروبا المريض (مما يجعلنا ننظر إلى الدولة العثمانية – التي كانت , برغم ضعفها و استبدادها , تحمي شعوبها من الهجمة الاستعمارية الغربية التي عصفت بالعالم أسره) فننظر إليها بحسبانها رجلا مريضاً وننسي “رجل أوروبا النهم المفترس” أي الامبريالية الغربية التي كانت تبيد سكان إفريقيا آنذاك بعد أن كانت قد أبادت أعداد هائلة من سكان الأمريكيتين الأصليين , بعد أن أبادت سكان استراليا ونيوزيلندا , والتي كانت تقوم باستبعاد سكان آسيا وتخوض حرباً لتسويق الأفيون في الصين لنشر التقدم في ربوعه. وقس علي ذلك كثيرا من المصطلحات التي نتداولها و هي تأصل لنموذجهم و تتجاهل نموذجنا.
النماذج الإدراكية و التحليلية و المعرفية: يعرف الدكتور المسيري النموذج بأنه: بنية تصورية يجردها العقل البشري من كم هائل من العلاقات والتفاصيل التي يراها غير مهمة في رأيه ويستبقي البعض الآخر المهم ويعيد ترتيبها بحيث تصبح من وجهة نظره مترابطة بشكل يماثل العلاقات الموجودة بالفعل بين عناصر الواقع .
وهذا يقودنا لمفهوم “الخريطة الإدراكية ” وهي الطريقة التي ينظر بها المرء إلى واقعه فيستبعد بعض المعلومات التي قد لا يري أن لها أهمية ويستبقي حقائق أخرى يستخلص منها طريقة رؤيته هو للواقع.
ويضرب الدكتور مثل بسيط عندما تريد أن تنقل صحيفة عربية خبرا عن صحيفة أجنبية “فتقول في صفحتها الأولى خبر عن اصطدام قطارين في الهند وراح ضحيته ما يزيد عن مائة قتيل. وفي الصفحة الأخيرة تنقل خبر جاء فيه أن ثلث أطفال انجلترا الذين ولدوا في ذلك العام غير شرعيين.
الصحيفة العربية قامت بالنقل الموضوعي بشكل متلقي ببغائي جعلها تتبني وجهة النظر الغربية دون أن تمرره علي ثقافتها وخصوصيتها العربية (الخريطة الإدراكية التي تدرك من خلالها الواقع). فهي لم تزيف الحقيقة ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا أبرز الخبر الأول في الصفحة الأولى ووضع الخبر الثاني في الصفحة الأخيرة؟؟ أي ما هي الخريطة الإدراكية الكامنة وراء تصنيف الخبرين؟؟ فالخريطة الإدراكية الغربية تطل علينا ففي الخبر الأول “حادث القطارين” يدل علي فشل تكنولوجي كما أنه يقع في رقعة الحياة العامة فهو فشل حقيقي ومهم إبرازه في الرؤية الغربية. أما الأطفال الغير شرعيين فهم نتيجة عن فشل أخلاقي ويقع في رقعة الحياة الخاصة. لذلك فهو غير مهم ويتم تهميشه. خاصة أن الأسرة أصبحت مؤسسة غير مهمة في العالم الغربي. وللأسف يتبني كثير من الإعلاميين العرب النماذج المعرفية التحليلية والتصنيفية بدون وعي وبدون إدراك للتضمينات الفلسفية والتحيزات الأخلاقية لتلك النماذج.
النماذج الاختزالية: تعريفها و سر شيوعها :
يتحدث الدكتور ويفسر المعضلة الغير منطقية لأنه أوصلنا إلى أن النماذج الاختزالية لا تفسر الواقع بشكل صحيح , إلا أنها منتشرة لعدة أسباب “يقول لأن عملية نحت النماذج المركبة من التفكيك وإعادة التركيب عملية صعبة للغاية تتطلب جهدا إبداعيا وتوليديا خاصا، فنحن في تلك النماذج لا نكتفي برص الحقائق رصاً ولكن لابد استبعاد البعض والتركيز علي البعض لاستنتاج الحقيقة،
وهناك فارق جوهري ما بين الحقائق (مجرد رصد فوتوغرافي آلي لظاهرة ما) وما بين الحقيقة (وهي الصورة المتكاملة التي تتكون من تجميع الحقائق بشكل عاقل وواعي وهي عمليه عقليه توليدية بحتة)
كما أنه يقول أن النموذج الاختزالي للأسف هو النموذج السائد في الصحافة والإعلام لأن تلك المنابر لا مساحة لها من الوقع أو الجهد كي تنظر نظرة عميقة في الوقائع التي يكتب عنها، ومن ضمن وسائل اختزال المعلومات أيضا انتشار الصورة لأنها منغلقة علي نفسها وتوصل رسالتها بشكل مباشر إلى وجدان الإنسان العادي فلا تتيح له أي فرصة للتأمل والتفكير (ولكني أيضا اختلف معه في تلك النقطة لأن الصورة قصرت مسافات كثيرة ولكن لا ينبغي أن نعتمد عليها وحدها في الرصد) كما أنه يقول إن إيقاع الحياة السريع لم يعد يسمح بأي فرصة للتأمل والتفكير والتباحث بعمق.
ثلاثة نماذج أساسية ( الحلولية – العلمانية الشاملة – الجماعات الوظيفية : وتلك النماذج قد تمت الإشارة المستفيضة إليها في كتب مستقلة بذاتها وكلها تقوم علي مبدأ الاختزال والتعامل مع الإنسان باعتباره ظاهرة طبيعية لا ظاهرة إنسانية
وفي النهاية يضرب بالانتفاضة فهي مثال لنموذج التكامل الغير عضوي (غير عضوي = غير طبيعي = إنساني) وهي آتية من ثقافة مغايرة عن الثقافة الغربية تماما تتعامل مع الإنسان علي أنه ظاهرة إنسانية لا ظاهرة مادية وهي الحضارة العربية الإسلامية ويضرب مثلا علي هذا التعامل الراقي مع الظاهرة الإنسانية بهذا المثال الرائع
فهو يتناول الحديث الشريف “مثل المؤمنين في توادهم و تراحمهم كمثل الجسد الواحد , إذا اشتكي منه عضو تداعي له سائر الأعضاء بالسهر والحمى” ، يقول أنه علي الرغم من أنه استخدم الجسد وهي صورة عضوية, فإن بنية المثال غير عضوية, نظرا لاستخدام أداة التشبيه التي تحتفظ بمسافة ( أو ثغرة ) بين طرفي التشبيه وتقلل من عضوية المجاز وتمنع تأيقنه (أي اختزاله في جانب واحد فقط) فالمؤمنون في توادهم و تراحمهم ليسوا جسدا إنما هم مثل الجسد وحسب. وأداة التشبيه تخفف من حدة الترابط وتدخل قدرا من الترابط الفضفاض غير الصلب.
ويمكننا أن نضرب عشرات الأمثلة الأخرى من القرآن والسنة والتراث الديني وغير الديني علي فكرة الترابط الغير عضوي الفضفاض واعتقد أن هذا ما يميز أو يعتبر سمة أساسية تجعل ثقافتنا ذات خصوصية معينة ومختلفة تمام الاختلاف عن الثقافة الغربية التي تروج للنموذج أحادي الجانب والذي ينكر الجانب الإنساني في الإنسان ويتعامل معه على أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة فقط.
ثم يتناول في الملحق الثاني شرح للمصطلحات التي يستخدمها وما هو المقصود منها
ولا أعتقد أن المجال يتسع لذكر كل المصطلحات هنا, فاستعراض هذا الكتاب جاء للتركيز علي الجوانب الأكثر أهمية وعمل عرض تشويقي لمحتوي الكتاب مع الإقرار بأن كل ما يكتبه الدكتور المسيري من الأهمية بحيث تكون مهمة التلخيص مع الإلمام بكل الجوانب صعبة للغاية وعليه فإنها جولة سريعة جدا – وأتمنى أن لا يكون اختصاري لها اختزال منقوص – فكر الدكتور عميق لم يأخذ حقه من التقدير وإن كان أبلغ تقدير هو أن نتدارس علمه و ننشره حتى لا يضيع هذا المنجم الفريد الغني من الأفكار


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.