على الكرسى ذاته الذى اعتادت أن تجلس فيه بجوار زوجها الدكتور عبدالوهاب المسيرى جلست زوجته الدكتورة هدى حجازى، الأستاذة فى كلية البنات جامعة عين شمس، وبقى كرسى المسيرى شاغرًا من جسده يملؤه بروحه، وتملؤه هى بذكريات عديدة امتدت نحو 50 عاما منها 48 مع زوجته. تعرفا لأول مرة حين كان المسيرى فى العشرين من عمره، بينما لم تتجاوز الدكتورة هدى حجازى وقتها السابعة عشرة من عمرها، واستمرت الرحلة إلى ما بعد وفاته أيضا، وتعكف زوجته على وضع الشكل النهائى للكتب التى ينوى إصدارها قبل وفاته التى يمر اليوم عليها عام.. عن المسيرى وحياته وذكراه كان هذا الحوار مع الدكتورة هدى حجازى: ■ بعد مرور عام واحد.. كيف ترين حجم الفقد لعبدالوهاب المسيرى علميا وإنسانيا؟ - الجميع يشعر بغيابه والفراغ الذى خلفه برحيله، فطلابه وعائلته وأنا من قبلهم نفتقد هذا الرجل، الذى يمثل قيمة علمية وسياسية وثقافية خدمت مصر كثيرا، لكن لو حددنا الأمر قليلا فالمسيرى ترك نحو 8 كتب بعضها انتهى منه والبعض أوشك وأنا أعمل على إتمامها ونشرها، وتلك الكتب هى «حوارات مع الدكتور عبدالوهاب المسيرى» ويمثل فيها رؤيته وفكره فى كل الأمور فى صورة سؤال وجواب بالطريقة السقراطية، ومقسم إلى تيمات وموضوعات، ويتناول موضوعات مهمة مثل الفكر الإسلامى والصراع العربى الإسرائيلى، والكتاب الثانى أبحاثه عن التحيز، التى وضعها عام 2007 من خلال مؤتمر لمناهضة التحيز، وكتاب «من ضيق المادية إلى رحابة الإنسانية والإيمان» يتحدث عن الفكر المادى فى العالم، ونقوم بترجمة كتاب سيرته الذاتية للإنجليزية، وهى أمور تأخذ منى وقتًا كثيرا لتدقيقها، إلى جانب صدور طبعة مزيدة من كتاب قمنا بترجمته سويا فى الثمانينيات بعنوان «الغرب والعالم»، وهو كتاب مثير للغاية وأساسى لفهم الغرب على النحو الصحيح، خاصة أن الكاتب الأمريكى قسمه إلى موضوعات، وقد صدرت طبعة أمريكية جديدة مضافًا إليها 3 فصول عن «البيئة» و«النظام العالمى الجديد» و«الهوية»، وسيصدر ذلك قريبا. ■ هل أخذتى عنه عادة التدقيق الشديد؟ - على العكس، فقد كان المسيرى أكثر تساهلا وتسامحا منى وتقبلا للأخطاء، لأنها طبيعة فى شخصيته، بخلاف أن رحيله يحملنى مسؤولية أكبر، ودائما أسأل نفسى هل كان سيوافق على تلك الكلمة المكتوبة لو كان موجودا، فمثلا كتاب «الغرب والعالم» أكتب له مقدمة جديدة أتخوف عندما أضيف إليها أى كلمة جديدة. ■ تحدثتى عن خسائر فقده كعالم.. فماذا عن فقده كإنسان؟ - المسيرى خسارة للناس جميعا فى مصر، لذلك تكون تلك الخسارة مضاعفة بالنسبة لى، فقد عشت معه جميع مراحله العمرية والفكرية، وبصراحة شديدة لا أشعر أنه رحل إلى الآن، فهو موجود بتلاميذه وكتبه وصوره وكل ما تركه فى بيته، لكننى أفتقد فعلا حبه للحياة وإيمانه بالإنسان، فقد كان متفائلاً طوال حياته. ■ تتحدثين عن تواجد تلاميذ ومريدى المسيرى.. لماذا لا تترجمين تأثيره لمؤسسة ثقافية علمية؟ - بالفعل شرعت فى إنشاء مؤسسة ثقافية علمية تضم تلاميذ المسيرى يكون مقرها مكتبه، وتقدمت إلى وزارة الشؤون الاجتماعية، وعندما عاينوا الشقة قالوا لى «إيه ده مينفعش دى مليانة كتب»، فأجبتهم بأنه أمر طبيعى لأنها مؤسسة ثقافية، وأرادوا تغيير شكل المكتبة وإزالة المكتبة واختزال فكرة المؤسسة فى مكاتب صماء، وليست مؤسسة حقيقية تكون قبلة لمن يريد الاطلاع على فكره، فأجلت الفكرة، بخلاف مشكلة التمويل، فظهور مؤسسة قوية يحتاج إلى تمويل. ■ ولماذا لم تتقدمى للدولة بهذا المشروع؟ - الدولة لن تتبنى فكر عبدالوهاب لأنه كان معارضا، ويكفى القول إن الدولة لم تقدر المسيرى فى حياته، والحكومات بتيجى وتروح وتبقى مصر، فالأمراء العرب هم الذين تكفلوا برحلة المرض الأخيرة للمسيرى، والغريب أن الدولة لا تزال تدرس حالته وإمكانية علاجه رغم أنه توفى منذ عام. ■ هل كان سبب ذلك التحاقه فى أواخر حياته السياسية بحركة كفاية؟ - بالطبع، لأنه كان يسعى وراء تغيير فكر المجتمع، ولم يسع لمنصب، لذلك أحبه الشارع المصرى. ■ وهل اعترضت على اشتراكه بفاعلية مع كفاية خاصة أنه كان مريضا ومعرضا للاعتقال؟ - بالعكس، فهو يرى أن المثقف الحقيقى يجب أن يشتبك مع الحياة وألا يبقى فى برجه العاجى، والمعرفة التى لا تؤدى إلى فضيلة ليست بمعرفة، لكننى كنت أطالبه فى أواخر أيامه بالحفاظ على صحته وعدم إرهاق نفسه فى الشأن العام أكثر من ذلك. ■ وأى معترك كان أصعب.. الشارع أم السرطان؟ - المسيرى كان محاربا لأنه كان مبتسما طوال الوقت، ويستثمر وقته بشكل بجيد، ولم يقبل بأن يهزمه المرض، وعندما عرف خبر مرضه بالسرطان قبل وفاته بعشر سنوات كان متماسكًا ومبتسما. ■ كيف بدأ المسيرى مشروعه الأكبر موسوعة «اليهود واليهودية والصهيونية»؟ - لا يمكن اختزال المسيرى فى الموسوعة فقط لأنه كتب فى الأدب والثقافة والسياسية وحتى الأطفال، لكنه أفنى أغلب عمره فيها، فقد كنا ندرس وقتها فى أمريكا عام النكسة، وكان الاعتقاد السائد عندنا وقتها هو رؤية «إسرائيل المزعومة»، لكن المسيرى فكر فى ترجمة الهزيمة التى أصابت جيلا كاملا باكتئاب وأقام منتديات اشتراكية وفكرية ومحاضرات لفهم الصهيونية. ■ كيف كان يبدأ يومه أثناء الموسوعة؟ - كان يشعر دائما أنه فى سباق مع الزمن واستثمر كل دقيقة فى وقته، فعمره العلمى ليس 70 عاما وإنما يتخطى ال100 عام، وظل يعمل 16 ساعة يوميا، لدرجة أنه أصيب بجلطة فى المخ عند تسليم الكتاب. ■ وهل تلقى تهديدات بالقتل بسبب الموسوعة؟ - بالفعل تلقينا خطابات تهديد من عضو الكنيست الإسرائيلى كاهانا، وكان وقتها فى السعودية، ووصلنى هنا 11 خطابا، الخطابات الأولى كانت تهديدات بمعاداة السامية ومطالبته بالتوقف، ووصله فى السعودية خطابان ثم خطاب أخير فى مصر يهدده بالقتل، وعندما أبلغنا الشرطة تم تعيين حراسة استمرت لأسبوع وتوقفت. ■ رحلة المسيرى السياسية شهدت تقلبات كثيرة فقد كان سعديا ثم انضم للإخوان ثم هيئة التحرير ثم الحزب الشيوعى ثم محاولة تأسيس حزب الوسط وانتهاء بكفاية.. هل كان هذا التقلب رحلة بحث عن الذات أم الحقيقة؟ - كانت رحلة بحث عن كيان الأمة العربية، فهو يرى أن أساس الحكم السياسى السليم هو العدل، وهو أكثر ما كان ينشده، وقد تشبع من هذا الفكر ككل، واللحاق بالغرب كان يتطلب طرق تنمية بديلة. ■ هل كان المسيرى فى نهاية حياته يعد كتابًا عن النكتة المصرية؟ - كان المسيرى ابن نكتة وكان يراها طريقة للتعبير عن الرأى ورسالة للتنمية، وكان يرى أن المصرى ذكى جدا بسبب قدرته على خلق نكات على واقعه السياسى والاجتماعى، لذلك كان يفضل النكات السياسية والاجتماعية، وقد بدأ المسيرى تدوين النكات بالفعل وتسجيل بعض منها بصوته إلا أن العمر لم يمهله لإنجاز جزء كبير من هذا العمل. ■ وماذا عن المسيرى ككاتب للطفل؟ كان المسيرى يحب الأطفال جدا فكان يكتب لأولاده حواديت يقصها عليهم، وكذلك مع حفيديه نديم وأدهم، وكتب قصصًا جديدة لأحفاده، وعندما توفى تم إصدار تلك القصص التى كان يقصها بشكل عائلى فى مجموعة كتب. ■ كيف ترين التصاق المسيرى بالشارع فى أيامه الأخيرة؟ - الشارع والمثقفون والعامة كانوا يرون فيه مبادئ حافظ عليها ولم يبع نفسه، ولم يغير لونه تبعا للمرحلة السياسية، وبالفعل فإن حب التلاميذ والمثقفين له هو كل ما تبقى له وهو ما يشعرنى بوجود المسيرى فى الحياة.