إذا ما اعتبرنا الدين، ضمن تعريفاته المتعددة، بمثابة رؤية شاملة للوجود، فإنه سوف يشبه، وربما يختلط بمفهومنا الحديث عن الإيديولوجيا، ولكن يبقى الفارق الأساسي قائما، وهو أن الدين أساسه التعالى، حيث النص المقدس يتجاوز الخطاب المعقلن، والاعتقاد يتجاوز حدود المعرفة والأمر القدسى يقدم نفسه كسر قائم وراء حدود العقل. أما الإيديولوجيا، التى يعتبرها البعض دينا أرضيا، فهى غالبا ما تنزع من ناحية إلى عقلنة المقدس عندما تضع مقولاتها هى حول الطبيعة والإنسان والتاريخ محل المفاهيم الدينية المؤسسة، ومن ناحية أخرى إلى تقديس العقل، عندما تدعو جمهورها (العقلانى) إلى الإيمان بها، والاعتقاد الضرورى في صحتها وجدواها وحدها، فهى إذن تطلب منه أن يمنح لها عقله ولكن بحرارة قلبه، لأنها ليست أكثر عقلانية من الديانات المقدسة. وهنا يمكن الإدعاء بأن ثمة عملية تاريخية مزدوجة تدفع الوعى الإنسانى فى اتجاهين متناقضين: أولهما نحو تدنيس المقدس، ليس بالضرورة عن طريق شتمه أو الإساءة إليه، أو نفى مصدره الإلهى، ولكن من خلال التعاطى فقط مع ما هو ظاهر وملموس فيه، والذى نفهم كنهه بالتحليل والتعليل، فيستحيل دنيويا عاديا، وليس مع ما هو خفى وباطن، يعطى أثره بالإيحاء والإلهام لا بالنص والتصريح. والثانية تقديس المدنس، ليس عن طريق الادعاء بمصدر فائق ومتجاوز له، بل بإضفاء معان متسامية عليه، تحول دون مساءلته وتفكيكه، باعتباره منتهى الطموح الإنسانى، وذروة الخبرة المجتمعية التى توصل إليها العقل البشرى. فى الاتجاه الأول، موضوع اليوم، نحن إزاء سيرورة علمنة للوجود، استهدفت دوما، ونجحت كثيرا فى نزع السحر من العالم، والسحر هنا يعنى القداسة بالمعنى الميتافيزيقى على النحو الذى أدى إلى إعلان موت الله. فقبل عقدين من نهاية القرن التاسع عشر، وفى كتابيه: الشهير (العلم المرح) والأشهر (هكذا تكلم زرادشت) اختار الفيلسوف نيتشه، سواء كان ذلك بدهاء كبير، أو بحدس فائق التجاوز، السوق مكانا يعلن منه موت الله تعالى شأنه على لسان شخص أخذ يجرى متسائلا فى هياج: أين ذهب الإله؟. وعندما رد عليه الناس مندهشين من مسلكه الجنونى: هل تتصور أن الله قد هجر مكانه أو فر من السوق هاربا ؟. أجابهم الرجل: بل قتلناه جميعا. أنا وأنتم قتلناه. لم يكن نيتشه إذن يسأل عن الله بل ينعيه، وقد اختار السوق كأفضل مكان يرمز لهذا النعي أو يتوق إليه، أو حتى يجسده. فى هذا الزمان كانت آليات الثورة الصناعية الأولى لا تزال تعمل، والثورة الثانية لم تهب رياحها بعد، والسوق الرأسمالية لم تبلغ امتدادها الواسع الذى تحقق لها بفعل الثورة الثالثة (التكنولوجية) التى منحتها أفقها المعولم، ونكهتها الكوكبية. واليوم نجد هذه السوق قد ازدادت تمددا وسيطرة مثل وحش كبير يمد أذرعه إلى أربعة أنحاء الأرض، صانعا لنمط جديد من الحياة (العصرية) يتقولب فيه البشر تدريجيا، بفعل حالة التنميط التى يصنعها، والتى زادت من سيطرته على الأنساق الثقافية الفرعية، وعلى القيم الأخلاقية الموروثة، والذاكرات المجتمعية والوطنية المختلفة، التى تصير معه، وفى ظله، مجرد تفاصيل صغيره تملأ الحواشى ولكنها لا تصوغ المتون. وهنا باتت الروحانية الدينية (التقليدية)، غير قادرة على تلبية مطالب عصر جديد، يزخر بمصادر مغايرة للقلق والخوف والتوتر، لا تنبع غالبا من دوافع ميتافيزيقية، ولا تنبت فى مشاعر الوحشة الكونية التى كانت، بل صارت تتدفق من قلب مجتمعاتنا العصرية، إذ تنبت فى هياكلها المادية، وتنمو فى مدنها الشاهقة وأسواقها المزدحمة التى تضغط على أجسادنا فتكاد تطحن عظامنا، حيث لا قدسية إلا لقيم السوق: العمل، والملكية، والسلطة ولا وجود فعال لروابط التضامن الإنساني والتعاطف المتبادل التى انهارت أمام السطوة المتزايدة لنمط الحياة التعاقدى/ المادى/ البارد. ، إزاء ضعف الروحانية التقليدية دخل الإنسان، وكذلك الدين فى مأزق تاريخى. أما الإنسان فقد خضع لسيرورة علمنة متنامية، حولته تدريجيا، وفى أغلب الأحوال إلى مجرد إنسان وظيفى، إذ نفت عنه كل الأبعاد المركبة والمتسامية التى صاغت إنسانيته، وعطلت جل الملكات التى صنعتها كالعقل الحر والروح المتمردة، والضمير الأخلاقى. وتتصاعد نزعة العلمنة أحيانا إلى مستوى العدمية عندما تقترن بعمليات التحكم التجريبى فى الخلق الإنسانى، تلك التى لا تعدو قتلا للإنسان ولو بذريعة تنميته، أى قتل الجوهر المتفرد الذى هو سر النوع البشرى إذ يمنحه القدرة على أن يفكر ويتألم، ويتمرد على واقعه، ويؤمن بإلهه.. أن يخطىء ويندم على خطئه، ففى تلك النزعات المتفردة للروح يكمن سر وجود الإنسان وتساميه على المخلوقات الأخرى. وأما الدين فأخذ يخضع تدريجيا لقواعد السوق، وتحول الطلب على التدين إلى خدمة عادية تمارس على منوال الخدمات الدنيوية الخاضعة لقواعد (الدليفرى) بين المتدين والداعية، حيث يتم الإعلان عن أرقام تليفونية يمكن للمتصل بها الحصول على خدمة الفتوى على أيدى قادة دينيين، مقابل دفع جنيه مصري ونصف جنيه للدقيقة الواحدة. وهنا يتساوى الشيخ الفقيه مع الفنانة التى يطلب البعض نغمات صوتها كرنات على تليفوناتهم المحمولة، ومع لاعب الكرة الذى يطلب الكثيرون مشاهدة أهدافه على شاشات تليفونهم المحمول عبر رسائل مدفوعة الثمن، وغيرهم كثر ممن اعتبرهم المجتمع أصحاب خدمة أخذ يطلبها مقابل تسعيرة معروفة يتساوى أمامها هدف لاعب الكرة وصوت الفنانة وفتوى الفقيه. لمزيد من مقالات صلاح سالم