نهضت الحضارة اليونانية على أساس نزعة دنيوية واضحة، وصلت إلى أنسنة الإله وافتقاده الأخلاقية المتسامية، بل وتورطه الدائم فى كثير من الرذائل، ولذا لم تكن الدولة مقدسة، لأن الإله نفسه لم يكن مقدسا، بل قامت كحالة ضرورية للاجتماع البشرى. ولدى أرسطو تحديدا، كانت الدولة نتاجا للطبع الإنسانى، شأنها فى ذلك شأن التكوينات الاجتماعية الأولية التى تبقى الدولة هى غايتها الأخيرة، لأن طبع كل شىء هو بالضبط غايته، والدولة من عمل الطبع، لأن الإنسان بالطبع كائن اجتماعى. ولأن الدولة هى غاية وعماد الاجتماع البشرى، فقد كانت قبل العائلة وفوق كل فرد، لأن الكل بالضرورة فوق الجزء. وهكذا يبدو الوعى الفلسفى اليونانى مصطبغا بسمتين: الأولى هى الحضور الطاغى للدولة، وإن كان نموذجها السائد لديه هو دولة المدينة لا الدولة الإمبراطورية، التى عرفها الشرق الأدنى القديم، خصوصا فى بابل وفارس ومصر. والثانية خلو هذه الدولة من تلك الصفات القدسية التى ميزتها فى الحضارات الكبرى المذكورة، سواء لأنها كانت بامتياز دولة الإنسان، فلم تكن بحاجة كبيرة إلى الكهانة، وإما لأنها كانت دولة الأبطال، التى تحتاج إلى كهنة من طرز مختلفة، ففى دولة الآلهة يكون الكاهن إنسانا قدسيا، أما فى دولة الأبطال فالأغلب أن يكون الكاهن قديسا إنسانيا، الإنسان القدسى يحتكر الحقيقة، ويحيلها إلى لاهوت يستغلق فهمه على الإنسان العادى، أما القديس الإنسانى فيعلى من قيمة الإرادة، لكنه يبقيها وسيلة لخدمة الإنسان، وربما لذلك أحب الإغريق بروميثيوس، ذلك اليونانى الذى قام بسرقة النار من الآلهة، ومنحها إلى البشر، فصار نموذجا بطوليا للإنسانية الحرة، أكثر مما تعلقوا بزيوس رئيس مجمع آلهة الأوليمب، الذى أمر بتصفيد زيوس فى الأغلال، كى تأكل الطير كبده كل يوم، قبل أن يقوم بطل آخر وهو هرقليس بتحريره من قيده، ما اعتبر انعتاقا نهائيا للإنسان من سيطرة الآلهة «الوثنية». وعلى النقيض راوحت الدولة فى الدين التوحيدى، بين الله والإنسان، فلم يكن الإنسان هو البطل القادر على تحدى الآلهة، بل الخليفة الأرضى المجسد لمشيئة الله، الراغب فى تنفيذ مشيئته، لكن هل استطاع دوما الوفاء بعهد استخلافه؟ ليس دائما بكل تأكيد، إذ عصفت به الأنواء وهاجمته عواصف التاريخ، فأنتج لنا نموذجين أساسيين تناقضت فيهما البدايات مع النهايات. فثمة النموذج المسيحى، الذى تمثلت عبقريته الأصلية فى الروحانية الشديدة، وفى النزعة الرسالية «العالمية» التى تنامت، خصوصا مع تبشير القديس بولس. كما تمثلت آفته الأصلية، فى افتقاد الشمول الضرورى، والفاعلية المطلوبة لدين عالمى يبغى الانتشار فى الأرض، فكان عيسى يتحدث كثيرا عن العدل، وعن السلام، وعن شوق النفس إلى سماء الأب، كما كان يتحدث عن التوكل والصبر، متساميا على الملكوت الدنيوى، منتظرا الملكوت الأخروى، غير أن الكنيسة بعده لم تنسَ الآخرة فقط، بل أخذت فى الاتجار بها لصالح الدنيا، فاستحال عالم المسيحية دما ودمارا. وثمة، فى المقابل، النموذج الإسلامى الذى تمثلت عبقريته فى سعيه لإنشاء صورة متكاملة للحياة لا تنغرس أبدا فى الأرض مترعة بالدنيوية، ولا تنزع دوما إلى السماء تهويما فى المثالية. غير أن نفرا من معتنقيه تناسوا روحانيته التوفيقية، وانغمسوا فى نزعة جهادية، دنيوية ودموية، جعلت منه مشكلة سياسية للعالم بديلا عن كونه حلا أخلاقيا لمعضلات هذا العالم نفسه.