فى رحلة العقيدة الإلهية فى التاريخ الإنسانى باتجاه توحيد الألوهية وإنسانية الدين فى مواجهة الوثنية والعنصرية المهيمنتين عليه كانت اليهودية أول شريعة سماوية كبرى فى الدين التوحيدى، وكانت مهمتها تأسيس الوحدانية فى قلب الوثنية، ومن ثم وقع على عاتقها مسؤولية الرفض والثورة على شتى جوانب الموروث الدينى الذى كانت فيه بقايا وحى الأنبياء السابقين مجرد ذكريات متناثرة وقصص غابرة ومواعظ متقادمة غير مسطرة فى شريعة كاملة أو كتاب خالد. واختلط الموروث الدينى - قبل اليهودية- بأساطير عن الألوهية تتداخل فيها عبادة الأسلاف، وتأليه الأبطال مع أنسنة الآلهة، والخشوع لمظاهر الطبيعة الهائلة والكواكب الضخمة التى تلقى بالروع فى الذهن الإنسانى، ومن ثم خاضت اليهودية منذ نزول الوحى على سيدنا موسى عليه السلام معركتين أساسيتين الأولى: ضد الوثنية، والثانية: ضد العنصرية. وبينما نجحت اليهودية فى معركتها ضد الوثنية وأخذت تتوجه تدريجياً صوب التوحيد منذ عصر أشعياء الثانى (550 قبل الميلاد)، فإنها فشلت فى معركتها ضد العنصرية إذ لم تبرأ من آفة العنصرية ولم تبلغ على يد أتباعها مرتبة دين الإنسانية فبقيت عاجزة عن تبشير العالمين إلى أن جاءت المسيحية على يد عيسى بن مريم، ونجح القديس بولس فى القيام بالدور الكبير فى صياغة الوعى الإنسانى للمسيحية فى مواجهة اليهود، حيث خاضت معركة ضد عنصرية اليهود وهى المعركة التى شهدت انتصارها بتوسيع أفق الدين إلى الفضاء الإنسانى الرحيب. كانت تلك مقدمة ضرورية فى كتاب الصديق والزميل صلاح سالم «كونية الإسلام.. رؤية للوجود والمعرفة والآخر» كمدخل للحديث عن البعد الثالث من أبعاد ثلاثة يرى أنها صاغت الوعى الكونى للإسلام، ألا وهو التسامح إلى جانب بُعدى العقلانية والعالمية اللذين تناولناهما فى المقال السابق، حيث يطرح هذا البعد تحت عنوان «تسامح الإسلام تعايش إنسانى». فالإسلام - الحلقة الثالثة فى حلقات تسلسل الدين التوحيدى بعد اليهودية والمسيحية - يوضح إدراك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بما لديه من شفافية تتبين حقيقة أولية وهى أن المعركة ضد الوثنية والعنصرية معاً، فإذا ما نجح فى تبليغ عقيدة التوحيد وأدرك الناس جميعاً أن إلههم واحد أحد مطلق التنزيه فسوف يدركون بالتبعية مساواتهم جميعاً أمامه وأخوتهم فيه. ومن ثم لم تكن معركة الإسلام - كما يشرح صلاح سالم - فى اتجاهين يقسمان جهد المؤمنين به أو تتصارع ضمائرهم بين توحيد وإنسانية يختارون بينهما، ولكن كانت معركة فى اتجاه واحد هو عقيدة التوحيد التى تستوجب الإنسانية كنتيجة منطقية تترتب عليها. وهنا يتوقف الكتاب عند منطق وحدود التوحد الإسلامى بالديانتين السابقتين فى إطار الدين التوحيدى، وآليات الاستيعاب والتجاوز التى استخدمها الإسلام (القرآن) لإثبات المشترك بين الديانات الثلاث ولنفى ما اعتبره زوائد تنال من نقاء التوحيد وتضغط على العقل الإنسانى على نحو يخضعه للأساطير أو يدفعه للتمرد على الإيمان، وهى الإشكالية التى نجح الإسلام فى حلها بتكريس توازن دقيق بين العقل والإيمان يجعل منه بحق الشريعة الخاتمة لديانات التوحيد. لا يتوقف الكتاب عند هذا الحد بل يطرح للنقاش إشكاليات لاتزال محل سجال، منها الرؤية الإسلامية للتاريخ، حيث يرى صلاح سالم أن من يدعون لشمولية الإسلام لكل مناحى الحياة إنما يذهبون بالأساس إلى محاولة التأكيد - فقط - على دور سياسى ويقصدون - حسب قوله - الحاكمية السياسية للشريعة وصولاً إلى الادعاء بأن الدولة أصل من أصولها تفرضه شمولية الدين، بينما يطرح فى المقابل معنى آخر لشمولية الإسلام وهو قدرته على إنشاء صورة متكاملة لا تنغرس أبداً فى الأرض مفعمةً بالدنيوية ولا تنزع دوماً للسماء انغماساً فى المثالية، بل شمولية الإسلام - من وجهة نظره - تعنى النهوض بمهمة التوفيق بين الأمرين، حيث الشمول هنا ضرورة وجودية لا غاية سياسية.. وتلك هى الشمولية الحقيقية التى تجعل من الإسلام ديناً كونياً. وهكذا يصبح التاريخ فى نظر المسلم هو سجل المحاولات البشرية الدائمة لتحقيق ملكوت الله فى الأرض وتتكامل له أبعاده الثلاثة. فالحاضر هو نتاج الماضى والمستقبل يتأسس على ما نقوم به فى الحاضر.. فإذا كان ثمة مصاعب أو أخطاء أو كوارث نعانيها اليوم، فالإيمان بالله والثقة به يجعلان من الممكن تلافيها غداً، لأنها ليست قدراً محتوماً. ولعل هذا - وفق طرح صلاح سالم فى كتابه - يفسر لنا ما يملكه المسلم من شعور بالثقة حتى وهو فى أسوأ لحظات حياته، كما يفسر حضور الإسلام عند مواجهة كل كارثة وكل عدوان على بلاده. فالمفهوم الإسلامى (القرآنى) للتاريخ وللوجود يعبر عن روح التكامل الزمنى بين الماضى والحاضر والمستقبل، ثم التكامل المادى والروحى فى منظومة قيمية راقية تجعل العمل الإنسانى مسؤولية والإرادة الإنسانية حرة.. ومن تكامل مفهومى الإرادة والحرية يكتسب الوجود معناه. وأخيراً.. فإن كونية الإسلام طابع أصيل فى عقيدته، بنيوية فى شريعته، فهى واضحة فى القرآن وفى السنة النبوية الشريفة وفى التجربة التاريخية الراشدة، كما تجلت فى حركة الفتوح الإسلامية بكل شروطها وما أحاط بها قياساً إلى زمانها بل فى شكل بناء الدولة وتنظيم الخلافة، خصوصاً فى علاقة العرب بالشعوب والأمم بل الملل الأخرى داخل الحضارة العربية الإسلامية. بطبيعة الحال فإن كتاب صلاح سالم ما هو إلا اجتهاد يحتمل الخطأ ويحتمل الصواب [email protected]