اليوم، إعلان نتيجة تنسيق المرحلة الثانية 2025 بالموقع الإلكتروني، اعرف الموعد    شاهد، كيف احتفى جنود إسرائيليون بقصف وقتل مدنيين فلسطينيين عزل في غزة (فيديو)    ترامب يمدد الهدنة التجارية مع الصين لمدة 90 يوما    نائبة وزيرة التضامن الاجتماعي تشهد إطلاق مبادرة "أمل جديد" للتمكين الاقتصادي    اليوم، إعلان النتيجة الرسمية لانتخابات مجلس الشيوخ والجدول الزمني لجولة الإعادة    سعر الذهب في مصر اليوم الثلاثاء 12-8-2025 مع بداية التعاملات الصباحية    سعر الريال السعودي أمام الجنيه اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025 قبل استهلال التعاملات    انخفاض أسعار الفراخ الأبيض في أسواق أسوان اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025    نتيجة تنسيق المرحلة الثانية أدبي.. الموقع الرسمي بعد الاعتماد    فلكيًا.. موعد المولد النبوي الشريف 2025 في مصر و3 أيام إجازة رسمية للموظفين (تفاصيل)    الخارجية الروسية: نأمل في أن يساعد لقاء بوتين مع ترامب في تطبيع العلاقات    فلسطين.. 20 شهيدًا و140 مصابًا في شمال غزة خلال الساعات الماضية    أنس الشريف وقريقع.. مما يخاف المحتل ؟    غارات واسعة النطاق في القطاع.. والأهداف الخفية بشأن خطة احتلال غزة (فيديو)    وسائل إعلام سورية: تحليق مروحي إسرائيلي في أجواء محافظة القنيطرة    من سيئ إلى اسوأ، الصحف البريطانية تنقلب على محمد صلاح بعد بدايته الباهتة للموسم الجديد    "كلمته".. إعلامي يكشف حقيقة رحيل الشناوي إلى بيراميدز    وليد صلاح الدين: أرحب بعودة وسام أبوعلي للأهلي.. ومصلحة النادي فوق الجميع    مبلغ ضخم، كم سيدفع الهلال السعودي لمهاجمه ميتروفيتش لفسخ عقده؟    «زيزو رقم 3».. وليد صلاح الدين يختار أفضل ثلاثة لاعبين في الجولة الأولى للدوري    من هو الفرنسي كيليان كارسنتي صفقة المصري الجديدة؟ (فيديو صور)    بطل بدرجة مهندس، من هو هيثم سمير بطل السباقات الدولي ضحية نجل خفير أرضه؟ (صور)    مصرع شخص تحت عجلات القطار في أسوان    لتنشيط الاستثمار، انطلاق المهرجان الصيفي الأول لجمصة 2025 (فيديو وصور)    4 أبراج «في الحب زي المغناطيس».. يجذبون المعجبين بسهولة وأحلامهم تتحول لواقع    من شرفة بالدقي إلى الزواج بعد 30 عاما.. محمد سعيد محفوظ: لأول مرة أجد نفسي بطلا في قصة عاطفية    "كيس نسكافيه" يضع الشامي في ورطة بعد ترويجه لأغنيته الجديدة "بتهون"    24 صورة لنجوم الفن بالعرض الخاص ل"درويش" على السجادة الحمراء    بالصور.. أحدث جلسة تصوير ل آمال ماهر في الساحل الشمالي    مواقيت الصلاة في أسوان اليوم الثلاثاء 12أغسطس 2025    تحارب الألم والتيبس.. مشروبات صيفية مفيدة لمرضى التهاب المفاصل    موعد مباراة سيراميكا كيلوباترا وزد بالدوري والقنوات الناقلة    التحفظ على أموال وممتلكات البلوجر محمد عبدالعاطي    خلاف جيرة يتحول إلى مأساة.. شاب ينهي حياة آخر طعنًا بكفر شكر    حزب شعب مصر: توجيهات الرئيس بدعم الكوادر الشبابية الإعلامية يؤكد حرصه على مستقبل الإعلام    ضياء رشوان عن مبادرة جديدة لوقف الحرب: مصر وقطر وسيطان غير محايدين.. وعلى حماس أن تحسبها جيدًا    وكيل وزارة الصحة بالإسكندرية يعقد اجتماعاً موسعاً لمتابعة الأداء وتحسين الخدمات الصحية    أبرزها الماء والقهوة.. مسببات حساسية لا تتوقعها    "بلومبرغ": البيت الأبيض يدرس 3 مرشحين رئيسيين لرئاسة الاحتياطي الفيدرالي    رئيس «الخدمات البيطرية»: هذه خطط السيطرة علي تكاثر كلاب الشوارع    19 عامًا على رحيل أحمد مستجير «أبوالهندسة الوراثية»    أصالة تتوهج بالعلمين الجديدة خلال ساعتين ونصف من الغناء المتواصل    نجم الأهلي السابق: صفقات الزمالك الجديدة «فرز تاني».. وزيزو لا يستحق راتبه مع الأحمر    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الثلاثاء 12 أغسطس 2025    د. آلاء برانية تكتب: الوعى الزائف.. مخاطر الشائعات على الثقة بين الدولة والمجتمع المصري    محكمة الأسرة ببني سويف تقضي بخلع زوجة: «شتمني أمام زملائي في عملي»    استغلي موسمه.. طريقة تصنيع عصير عنب طبيعي منعش وصحي في دقائق    «مشروب المقاهي الأكثر طلبًا».. حضري «الزبادي خلاط» في المنزل وتمتعي بمذاق منعش    انتشال سيارة سقطت بالترعة الإبراهيمية بطهطا.. وجهود للبحث عن مستقليها.. فيديو    كيفية شراء سيارة ملاكي من مزاد علني يوم 14 أغسطس    حدث بالفن | حقيقة لقاء محمد رمضان ولارا ترامب وجورجينا توافق على الزواج من رونالدو    أخبار 24 ساعة.. 271 ألفا و980 طالبا تقدموا برغباتهم على موقع التنسيق الإلكترونى    إطلاق منظومة التقاضى عن بعد فى القضايا الجنائية بمحكمة شرق الإسكندرية.. اليوم    أجمل عبارات تهنئة بالمولد النبوي الشريف للأهل والأصدقاء    أنا مريضة ينفع آخد فلوس من وراء أهلي؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    هل يشعر الموتى بالأحياء؟.. أمين الفتوى يجيب    محافظ الأقصر يبحث مع وفد الصحة رفع كفاءة الوحدات الصحية واستكمال المشروعات الطبية بالمحافظة    أمين الفتوى: الحلال ينير العقل ويبارك الحياة والحرام يفسد المعنى قبل المادة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف زيدان يكتب: الرؤية الصوفية للعالم (2-7) القولُ الثانى: فى جوهر الديانات

أتذكَّرُ.. قبل أعوامٍ بعيدة، أيامَ كان القلبُ أخضر وآماله أكبر، أننى نويتُ اختيار (فلسفة الجيلى الصوفية) موضوعاً لرسالتى للماجستير. ولما أخبرتُ المشرفَ باختيارى، وكان ذلك، فى مجلس د. محمد على أبو ريان، رحمه الله، الذى كان أستاذاً لى وأستاذاً لأستاذى أيضاً، صاح د. أبو ريان فىَّ، مهتاجاً: ما هذا الموضوع، كيف ستنتهى منه، أنا نفسى لم أفهم عبد الكريم الجيلى، فكيف ستفهمه أنت؟.. ولأن د. أبو ريان كان أستاذاً طيب القلب، كإنسانٍ، فسرعان ما هدأ بعد ما قاله، وأضاف قائلاً بنبرة هادئة: ابحث لنفسك عن موضوع أسهل من الجيلى، الذى أعتبره المشعبذ الأعظم! هكذا قال، فانصرفت من المجلس كسيرَ الخاطر كسيفَ البال.
وأتذكَّرُ أننى قضيتُ ليلةً ليلاء، غير قمراء، ولا أملَ لى إلا الذهاب لجامعة أخرى- غير جامعة الإسكندرية- كى أتمكَّن مما لم يمكننى فى جامعتى. ولكن جرى ما لم أتوقعه! ففى الصباح الباكر، هاتفنى أستاذى المشرف د. حسن الشرقاوى، رحمه الله، وقال حازماً: تعالَ الآن، ومعك خُطة بحث الماجستير.. وذهبتُ إليه من فورى فوقَّع عليها بالموافقة، وفسَّر لى الأمر بأنه رأى الجيلى فى المنام، يأمره بإنهاء الأمر!
كان حسن الشرقاوى صوفياً من طراز عجيب. المهم، أننى أخذت الأوراق موقَّعةً، وطرتُ بها إلى رئيس القسم الذى كان مشهوراً بأنه يتردَّد كثيراً قبل أن يوقِّع أوراقاً، لكنه وقَّع على الأوراق من فوره، على غير عادته. بل لفت نظرى إلى أن مجلس الكلية منعقد، وبالإمكان اعتماد الموضوع فوراً. ولأن د. محمد على الكردى، أطال الله عمره، كان المسؤول آنذاك، وكان متحمِّساً لى، فقد تجرأتُ وأدخلتُ خطة البحث أثناء انعقاد المجلس لاعتمادها.. وبانتهاء ذاك اليوم، كان الأمرُ قد تمَّ حسبما تمنيتُ.
وأتذكرُ أننى قضيت مع عبد الكريم الجيلى (المتوفى سنة 928 هجرية) سنواتٍ مفعمةً بالدهشة، والتحليق فى الآفاق الصوفية التى لا حدَّ لها، وعرفت وعورة لغته ورهافة رموزه وروعة معانيه. وفهمت آنذاك القول الصوفى الشهير، الذى ينطق به المتصوف حين تتسع رؤاه، فيصرِّح قائلاً: بحرى لا ساحل له!
وقد كان من أغرب المدهشات لى فى فلسفة الجيلى الصوفية التى عاينتها فى ذاك الزمان، رؤيته الخاصة للديانات وفَهْمه الصوفى لجوهر العقائد وسبب اختلاف الناس بسببها.
■ ■ ■
وفى واقع الحال، لم يكن عبد الكريم الجيلى هو أول صوفى مسلم يتحدَّث عن حقيقة الدين وجوهر المعتقدات، فقد سبقه إلى ذلك صوفيةٌ مبكرون من أمثال «أبى يزيد البسطامى» الذى كان صوفياً عارماً مشهوراً بشطحاته (والشطح مفهومٌ صوفىٌّ خاصٌّ، سوف نتحدث عنه فى المقالة الأخيرة من هذه السباعية) فقد نُقل عن «البسطامى» أنه حين مَرَّ على مقابر المسلمين، قال: مغرورون. ولما مَرَّ على مقابر اليهود والنصارى، قال: معذورون ! وهى إشارة إلى توهمات أهل الديانات بصدد ما يعتقدون.. ومن قبل البسطامى كانت رابعة العدوية، التى شوَّه الفيلم السينمائى سيرتها؛ تقول إنها لا تعبد الله خوفاً وطمعاً، وإنما حباً فى ذاته. وأبياتها فى هذا الشأن مشهورة، أعنى تلك التى غنَّتها لنا أمُّ كلثوم، وكان مطلعها: أحبك حُبَّين.. (بالمناسبة هذه الأبيات قالها ذو النون المصرى، لا رابعة).
إذن (الدين الحق) عند الصوفية المبكرين، بل والمتأخرين عليهم زمناً، هو: المحبة. ومن هنا قال شيخ الصوفية الأكبر «محيى الدين بن عربى، المتوفى 638 هجرية» أبياته الشعرية الشهيرة، التى آخرها: أدين بدين الحب، أنَّى توجَّهتْ ركائبه، فالحبُّ دينى وإيمانى.
فإذا كانت المحبة عند الصوفية هى حقيقةُ (الدين) وجوهره، فماذا عن تلك الديانات المتعدِّدة التى يؤمن بها الناس، وقد يتحزَّبون لها، ويتقاتلون من أجلها، فيقتلون ويُقتلون.. حين نبحث عن إجابة لهذا السؤال، فسوف يصدمنا للوهلة الأولى، قول ابن عربى: عقد الخلائقُ فى الإله عقائداً/ وأنا اعتقدتُ جميع ما عقدوه.
كلامٌ عجيبٌ.. فما معناه، وما مراد ابن عربى منه؟ هذا السؤال هو الذى يقودنا إلى رؤية الجيلى لحقيقة (الديانات) التى سنعرض لها فيما يلى، ولحقيقة (العبادات) التى سنعرضها فى المقال القادم.. فنقولُ فى ذلك والله المستعان، داعين القارئ إلى عدم المبادرة بالإنكار، وذاكرين بعضاً مما أوردناه فى كتابنا (عبد الكريم الجيلى فيلسوف الصوفية) الصادرة طبعته الأولى، قبل أكثر من ربع قرن!
■ ■ ■
يرتفع الصوفى بحسِّه المرهف فوق المظاهر الفانية للأشكال الدنيوية، وتغوص بصيرته فى قلب الأشياء لتشهد باطنها المحتجب وراء هذا الشكل الظاهر. ويشعر الصوفى فى هذا (الحال) بأن العالم اللامتناهى قد امتد أمام عين قلبه، وغدا مرئيًا على نحو لا مثيل له من الوضوح.
وعندما يقف الصوفى على هذا المشهد الإلهى الذى تطوى فيه المسافات وتجتمع الحدود، يكون كله أذنًا تتسمَّع تسبيح الموجودات ونجواها مع خالقها، فيدرك حقيقة قوله تعالى: (وإِن مّنِ شَىءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ). فإذا نظر الصوفى فى معنى هذه الآية الكريمة، أدرك أن خرير الماء تسبيحٌ، وهديل الحمام تسبيحٌ، وتغريد الطير تسبيحٌ، وصمت السواكن تسبيح للخالق عز وجل.
ويقرأ الصوفى قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ والإِنسَ إِلاَّ ليَعْبُدُونِ) فيعرف أنه ما من موجود، إلا وهو مجبول على عبادة الخالق ومفطور على طاعته.. ونسأل الجيلى فى ذلك؛ فنراه يؤكد أنه لا يوجد مخلوقٌ إلا وهو يعبد الله! إما بحاله، أو بمقاله، أو بفعاله.. أو بذاته وصفاته. فكل إنس وكل جان، بل كل ما فى الوجود، عابدٌ لله بالضرورة.
ونعود فنتساءل: فما بال الأمر بالنسبة للملاحدة والزنادقة والخارجين عن دين الحق من أهل الأهواء والملل والنحل ؟ فيقول الجيلى: كلهم عابد لله، والله تعالى يهدى ويضل، فلا بد من ظهور الهداية والضلال فى خَلْقه، فكما يجب ظهور أثر اسمه (المنعم) يجب كذلك ظهور أثر اسمه المنتقم. أما اختلاف عبادات أهل الديانات، فيرجع فى رأى الجيلى إلى اختلاف مقتضيات الأسماء والصفات الإلهية، فالله تعالى يقول: (كَاَنَ النَّاسُ أُمَّةً واَحِدةً) يعنى أنهم مَجْبولون على عبادته من حيث الفطرة الأصلية التى فطر الله الناس عليها.
ثم بعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، ليعبده مَنْ اتبع الرسل من حيث اسمه الهادى، وليعبده مَنْ خالف الرسل من حيث هو (تعالى) المضل لمن يشاء.. فاختلف الناس وافترقت الملل، حين ذهبت كل طائفة إلى ما اعتقدت أنه الصواب. وهكذا ظهرت النحل والديانات، السماوية وغير السماوية.
وحسبما يرى الجيلى، فإن بعض ذرية آدم، انشغلوا من بعده بالدنيا ولذاتها الفانية، فغفلوا عن فحوى الوقائع الإلهية التى جرت مع آدم، ونسى كُلٌّ منهم ذِكْرَ الرب، واتبع هواه فكان أمره فُرُطاً.. وهؤلاء امتد بهم الزمان جيلاً بعد جيل، حتى نسوا الله وأنكروه، مع أنه متجلٍّ فى الكون كله، فكانوا هم (الكفَّار) لأن الكفر فى اللغة والمفهوم الصوفى، هو: الإخفاء! ويدل على ذلك، ويؤكده، الآيةُ القرآنية التى تذكر الذين يدفنون البذور فى الأرض، فتسميهم الكفار. قال تعالى: (يُعجب الكُفَّار نباته).
وقد ذهبت جماعةٌ من ذرية آدم إلى عبادة الأوثان، لأنها تذكِّرهم بالإله، لكنهم بعد حين من الدهر، توجَّهوا بالعبادة إلى صورة الوثن، ونسوا أن سابقيهم كانوا يتقربون بذلك إلى الله زلفى.. فبلغ من جهل المتأخرين منهم، أنهم اعتقدوا أن الله (تعالى) هو ذلك الوثن أو ذاك.
جماعةٌ أخرى من البشر، قالت إن عبادة الأوثان لا تضر ولاتنفع، فالأَوْلى أن يعبدوا ما يضرهم وينفعهم، وظنوا أن هذا الضرر والنفع، من شأن الكواكب السبعة (زحل، المشترى، المريخ، الشمس، الزهرة، عطارد، القمر) فهذه «الكواكب» عند الصابئة، تؤثر فى الأشياء، فهى أولى بالعبادة.. فكانوا هم (الصابئة) أو عبدة الكواكب والنجوم.
يضيف الجيلى: وآخرون من بنى آدم انبهروا بقدرة العقل الإنسانى فاتبعوه، ومضوا فى قياس الأمور بعقولهم، فوجدوا أن عبادة الأوثان سفاهةٌ وعبادة النجوم تخييلٌ. فنظروا فى الوجود بعقولهم، فانتهوا إلى أن هناك طبائع أربعة هى أصل الوجود، والعالم مركب من هذه الطبائع (الحرارة، البرودة، اليبوسة، الرطوبة) فإذا كانت هذه الطبائع هى أصل العالم، فالعبادة للأصل أولى، ولذا عبدوا عناصر الطبيعة.. وهؤلاء هم الطبائعية (الفلاسفة).
وآخرون ذهبوا إلى عبادة النور والظلمة، فقد وجدوا أن عبادة النور وحده تضييع للجانب الآخر وهو الظلمة، والعالم يتصارع فيه النورُ والظلام كمبدأين متساويين، فعبدوا النور المطلق وسموه (يزدان) وعبدوا الظلمة المطلقة وسموها (أهرمن) وهؤلاء هم الثنوية أو الزنادقة.
ثم ذهبت طائفة من البشر إلى الاعتقاد فى أن النار هى أصل الوجود، وقالوا إن مبنى الحياة على الحرارة الغريزية فى كل حَىٍّ، والنار هى أصلُ الحرارة، فهى أصل الحياة.. فعبدوا النار، وسُموا المجوس.
ومن البشر من نظر فى أحوال الحياة، فوجدوا أنه ما ثَمَّ إلا أرحاما تدفع وأرضاً تبلع، ووجدوا أن الدهر يسير من الأزل إلى الأبد كأعمى ضلَّ وجهته.. فتركوا العبادة كلها، وهؤلاء هم الدهريون أو الملاحدة.
وحسبما يرى عبدالكريم الجيلى فإن أهل هذه الطوائف، وغيرهم من أهل الأهواء والبدع والنحل، منهم مَنْ هو فى الجنة، ومَنْ هو فى النار! ففى الزمان السحيق، وفى النواحى التى لم تصل إليها دعوة الرسل، كان دومًا هناك مَنْ يفعلون الخير، وهم فريق الجنة؛ ومَنْ يفعلون الشر، وهم أهل النار.. وفاعل الخير فى هذه الطوائف، يفعله لأنه يوافق الفطرة الأصلية التى فطر الله الناس عليها.
وفاعل الشر إنما يفعل ما لا تقبله الفطرة، وتكرهه النفوس وتتألم له الأرواح. وهكذا يكون الثواب والعقاب حسبما تقتضيه الفطرة، ما دامت الشرائع الإلهية لم تنزل.. فأما بعد نزول الشرائع، فالحساب يكون على مقتضى ما أمر الله به، وما نهى عنه.
فإذا نظرنا فى تعدد الديانات غير السماوية، وفى حقيقة هذه الديانات، وجدناهم جميعًا يعبدون الله تعالى، على الحقيقة.. فقد خلق الله تعالى هذه الأقوام للعبادة، وما خلقهم (إِلاَّ لِيَعْبُدوُنِ) (سورة الذاريات: 56) ولكن تعددت أشكال العبادة، حتى تظهر حقائق الأسماء والصفات الإلهية، فيكون سبحانه وتعالى متجليًا على جميع خلقه!
فهؤلاء من (عبدة الأوثان) إنما عبدوا الله فى الوثن الذى له يسجدون، وإن ظنوا بأن الوثن هو الإله، فإن ظنهم هذا لا يغير من حقيقة أن الله تعالى موجود فى كل ذرة من ذرات الموجودات، وأنه سبحانه وتعالى ظاهر فى كل الأشياء، ومتجلٍّ على كل الجهات. فلما شعر الوثنيون بوجوده تعالى فى الوثن، الذى هو من خلقه تعالى، عبدوا الله فى الوثن وظنوا بأن الوثن هو صورة الإله.. والله خلقهم وخلق ما يعبدون!
فإن كان عبدة الأوثان هم فى حقيقة الأمر عابدين لله، إلا أن خطأهم يرجع إلى أن عبادتهم لله كانت (على التقييد) وليس على الإطلاق. فعلى الرغم من أن الوثن مظهرٌ من مظاهر أسمائه تعالى، التى لا يبلغها الإحصاء، فقد عبد هؤلاء الله (على التقييد) بهذا المظهر وحده، ولم يدركوا أن الله إنما هو مطلقٌ فى كل المظاهر، ومتجلٍّ فى كل الموجودات، فقيدوا الله سبحانه وتعالى فى صورةٍ واحدةٍ من صور تجلياته التى لا يحصيها الحصر.. وذلك لا يخرج بهم، حسبما يرى الجيلى، عن كونهم قد عبدوا الله، وسبَّحوا له.
والآخرون (الصابئة) الذين عبدوا الكواكب، كانوا يعبدون الله، من حيث الأسماء الحسنى، التى لله سبحانه وتعالى. وعلى الحقيقة، ما (الشمس) إلا مظهر اسمه تعالى (الله) فالشمس تمدُّ بنورها جميع الكواكب، مثلما يمد اسمه (الله) جميع الأسماء الإلهية بحقائقها.
والقمر هو مظهر اسمه تعالى (الرحمن) لأن القمر يتلقَّى نور الشمس ويظهره ليلاً- الجيلى يقول ذلك- مثلما الرحمانية هى المظهر الأعظم والمجلى الأكمل الأعم للألوهية. والكوكب الثالث من الكواكب السبعة التى عبدوها، وهو المشترى، هو مظهر اسمه تعالى (الرب) لأن المشترى أسعد وأشمل كوكب فى السماء. والربوبية شاملة لكمال الكبرياء الإلهية، لاقتضاء الربوبية للمربوب. وكوكب (زحل) هو مظهر الواحدية، فكما يحيط فلك زحل بجميع الأفلاك التى تحت حيطته، يحيط اسمه تعالى (الواحد) بما تحته من جميع الأسماء والصفات الإلهية.
وكما أن زحل هو أول الكواكب السبعة، فكذلك الواحدية هى أول تنزل من تنزلات الأسماء والصفات الإلهية. وأما المريخ فهو مظهر القدرة، لأنه كما يقول الجيلى «النجم المختص بالأفعال القهارية» وكوكب الزهرة مظهر الإرادة، لأنه سريع التقلُّب فى نفسه، وكذلك الحق تعالى يريد فى كل آنٍ شيئًا، وكل يوم هو فى شأن.
والكوكب السابع (عطارد) هو مظهر للعلم الإلهى ومجلى لاسمه تعالى (العليم) ولهذا لُقِّبَ كوكب عطارد بكاتب الأفلاك.. وبقية الكواكب التى يعرفها الناس، هى مظاهر لأسمائه الحسنى التى تحت الإحصاء. وأما ما لا يُعلم من الكواكب الباقية، فإنها مظاهر أخرى لأسمائه تعالى التى لا يبلغها الحصر.
..وعلى هذا النحو، يتتبع عبد الكريم الجيلى الديانات المختلفة، المتخالفة، فيرى أن جوهرها الأصلى هو المتعلق بالله! وأفعال أصحابها هى أشكال من (تسبيح) البشر للإله فلله يسبح كُلُّ شىء فى الوجود، ولكن العقول ذهلت عن تسبيحهم، لوقوعها على ظاهر التسبيح، وليس على حقيقته البعيدة .
أما اليهود، فهم وإن كانوا من عباد الله على الحقيقة، إلا أنهم فى ظاهر الأمر ضالون، لأنهم أخفوا بعضاً من أصول الشريعة التى نزلت عليهم، حين جاء موسى بالألواح، واستبقوا فقط، ما اعتقدوا أنه فى مصلحتهم. فكانوا هم الضالين بظواهرهم المسبِّحين لله ببواطنهم وحقيقة ديانتهم.. وكذلك المسيحيون، الذين أخطأوا بقولهم (الله هو المسيح) الآية، ولو قالوا إن المسيح هو الله، لما كانوا مخطئين فى الظاهر.
لأن الله المحيط والمتجلى بكل شىء، ولا يمكن لشىء واحدٍ أن يحدَّه، فلا يصح أن يقال «الله هو كذا أو كذا..» لأن الله تعالى هو كل شىء، وكل شىء يدلُّ عليه ولا يحيط به.
وقد كنت أود استكمال هذا الكلام، ببيان الرؤية الصوفية لليهودية والمسيحية تفصيلاً، وكيف تطرَّق «الخطأ فى الفهم» إلى أذهان الناس بصدد هاتين الديانتين، مع أن جوهر الديانتين فى الأصل صحيح.. وقد كنتُ أود تفصيل الكلام فى ذلك، ولكن ذلك يحتاج تبصُّراً واتساع أفقٍ..
ونحن نعلم أن نفوس بعض المتأقبطين هذه الأيام، مهتاجةٌ متوترةٌ. والهياجُ والتوترُ يعوق التبصُّر. فدعونا ننتظر قليلاً، لعلَّ الله يُحدث من بعد ذلك أمراً! ومن أراد تعرف ذلك، فليرجع إلى مؤلفات ابن عربى، خاصةً (فصوص الحِكَم) وإلى كتاب عبدالكريم الجيلى: الإنسان الكامل فى معرفة الأواخر والأوائل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.