«العشرية الإصلاحية» وثوابت الدولة المصرية    سعر الدينار الكويتي أمام الجنيه اليوم الجمعة 19-4-2024 بالبنوك    ننشر نص التقرير البرلمانى لقانون التأمين الموحد قبل مناقشته بمجلس النواب الأحد    أضخم مخطط استراتيجى تنموى فى الساحل الشمالى    اليوم.. طرح أذون خزانة بقيمة 50 مليار جنيه    9 مليارات دولار صادرات مستهدفة لصناعة التعهيد فى مصر حتى عام 2026    مندوب مصر لدى مجلس الأمن: الاعتراف بالدولة الفلسطينية حق أصيل لشعبها    تزامنا مع استهداف قاعدة أصفهان.. الجيش السوري يعلن التصدي لهجوم صاروخي    طائرات الاحتلال تشن غارتين على شمال قطاع غزة    أمريكا تعرب مجددا عن قلقها إزاء هجوم إسرائيلي محتمل على رفح    بسبب ال«VAR»| الأهلي يخاطب «كاف» قبل مواجهة مازيمبي    تشكيل النصر المتوقع أمام الفيحاء بالدوري السعودي| موقف «رونالدو»    تفكير كولر سيتغير.. بركات يطمئن جماهير الأهلي قبل مواجهة مازيمبي    إصابة 20 شخصًا في حادث انقلاب سيارة بصحراوي المنيا    مطارات دبى تطالب المسافرين بعدم الحضور إلا حال تأكيد رحلاتهم    أفلام من كان وتورنتو وكليرمون فيران في مهرجان الإسكندرية للفيلم القصيرة 10    أحمد شوبير يوجه رسالة غامضة عبر فيسبوك.. ما هي    أسعار البيض والفراخ في الأقصر اليوم الجمعة 19 أبريل 2024    موضوع خطبة الجمعة اليوم بمساجد الأوقاف.. تعرف عليه    تشريح جثمان فتاه لقيت مصرعها إثر تناولها مادة سامة بأوسيم    أخبار الأهلي : موقف مفاجئ من كولر مع موديست قبل مباراة الأهلي ومازيمبي    سعر الدولار في السوق السوداء والبنوك اليوم    أحمد كريمة: مفيش حاجة اسمها دار إسلام وكفر.. البشرية جمعاء تأمن بأمن الله    بعد عبور عقبة وست هام.. ليفركوزن يُسجل اسمه في سجلات التاريخ برقم قياسي    صندوق النقد الدولي يزف بشرى سارة عن اقتصاد الدول منخفضة الدخل (فيديو)    رغم الإنذارين.. سبب مثير وراء عدم طرد ايميليانو مارتينيز امام ليل    مخرج «العتاولة»: الجزء الثاني من المسلسل سيكون أقوى بكتير    بعد تعليمات الوزير.. ما مواصفات امتحانات الثانوية العامة 2024؟    شريحة منع الحمل: الوسيلة الفعالة للتنظيم الأسري وصحة المرأة    حظك اليوم برج العذراء الجمعة 19-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    فاروق جويدة يحذر من «فوضى الفتاوى» وينتقد توزيع الجنة والنار: ليست اختصاص البشر    سوزان نجم الدين تتصدر تريند إكس بعد ظهورها مع «مساء dmc»    هدي الإتربي: أحمد السقا وشه حلو على كل اللى بيشتغل معاه    مسؤول أمريكي: إسرائيل شنت ضربات جوية داخل إيران | فيديو    منهم شم النسيم وعيد العمال.. 13 يوم إجازة مدفوعة الأجر في مايو 2024 للموظفين (تفاصيل)    تعديل ترتيب الأب.. محامية بالنقض تكشف مقترحات تعديلات قانون الرؤية الجديد    محمود عاشور يفتح النار على رئيس لجنة الحكام.. ويكشف كواليس إيقافه    البابا تواضروس خلال إطلاق وثيقة «مخاطر زواج الأقارب»: 10 آلاف مرض يسببه زواج الأقارب    انهيار منزل من طابقين بالطوب اللبن بقنا    والد شاب يعاني من ضمور عضلات يناشد وزير الصحة علاج نجله (فيديو)    الجامعة العربية توصي مجلس الأمن بالاعتراف بمجلس الأمن وضمها لعضوية المنظمة الدولية    الإفتاء تحسم الجدل بشأن الاحتفال ب شم النسيم    انطلاق برنامج لقاء الجمعة للأطفال بالمساجد الكبرى الجمعة    جريمة ثاني أيام العيد.. حكاية مقتل بائع كبدة بسبب 10 جنيهات في السلام    إصابة 4 أشخاص فى انقلاب سيارة على الطريق الإقليمى بالمنوفية    أحمد الطاهري يروي كواليس لقاءه مع عبد الله كمال في مؤسسة روز اليوسف    وزير الخارجية الأسبق يكشف عن نقاط مهمة لحل القضية الفلسطينية    خبير عسكري: هجوم إسرائيل على إيران في لبنان أو العراق لا يعتبر ردًا على طهران    دعاء السفر كتابة: اللّهُمّ إِنّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السّفَرِ    دعاء للمريض في ساعة استجابة يوم الجمعة.. من أفضل الأوقات    سكرتير المنيا يشارك في مراسم تجليس الأنبا توماس أسقفا لدير البهنسا ببني مزار    بسبب معاكسة شقيقته.. المشدد 10 سنوات لمتهم شرع في قتل آخر بالمرج    طريقة عمل الدجاج سويت اند ساور    نبيل فهمي يكشف كيف تتعامل مصر مع دول الجوار    شعبة الخضر والفاكهة: إتاحة المنتجات بالأسواق ساهمت في تخفيض الأسعار    دعاء الضيق: بوابة الصبر والأمل في أوقات الاختناق    أخبار 24 ساعة.. مساعد وزير التموين: الفترة القادمة ستشهد استقرارا فى الأسعار    فحص 1332 مواطنا في قافلة طبية بقرية أبو سعادة الكبرى بدمياط    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. أحمد كمال أبو المجد : الضباط الأحرار والإخوان أخطأوا في التعامل معا .. والوطنية الحماسية كانت سلاح القيادة بدون الخبرة السياسية
نشر في الشروق الجديد يوم 25 - 07 - 2009

فتح الدكتور كمال أبو المجد المفكر الكبير والفقيه القانونى خزينة الذكريات من نعومة أظافره وحتى حصوله على الدكتوراه من فرنسا فى وقت كانت ثورة 1952 ترسم خريطة جديدة لمصر وتضع لبنات نظام استمر قرابة 60 عاما بإيجابيات وسلبيات واختلافات كثيرة بين المؤيدين والمعارضين. وفى الحلقة الأسبوعية من برنامج الطبعة الأولى الذى يقدمه الكاتب الصحفى والإعلامى أحمد المسلمانى تطرق الدكتور كمال أبو المجد إلى التغيرات التى لحقت بالمجتمع المصرى فى السنوات الخمسين الماضية مقارنة بمجتمع ما قبل الثورة.
وإلى تفاصيل الحوار:
مش عارفين نبدأ منين، حضرتك مفكر مثقف وموسوعة سياسية وتاريخية و قانونية.
المسلمانى: نبدأ بعائلة أبوالمجد وتكوينها؟
أبو المجد: من عائلة عادية تنتمى إلى الطبقة الوسطى، الأقرب إلى أن تكون أعلى. والدى رحمه الله كان نائبا لرئيس المحكمة العليا الشرعية، التى كانت فى ذلك الوقت محكمة النقض فى القضاء المدنى، ولدت فى القاهرة أنا وإخوتى، ولكننى أصلا من أسيوط فى قرية عرفت بالعلماء والتجار اسمها «بنى عديات»، وعندى من الإخوة ثمانية وتوفى عدد منهم وأنا أصغر البنين ويكبرنى ثلاثة أولاد، بقى منهم الذى يكبرنى مباشرة وخمس بنات بقى منهن الآن اثنتان على قيد الحياة.
ومن الأولاد عندى ولدان اثنان، الأكبر أيمن، أستاذ أمراض قلب، ووليد مفاوض فى الخارجية، وابتلى بالبلاء الذى ابتليت به هو التخصص والعمل فى حقوق الإنسان، كما لدى ثلاث بنات وهم الأقرب إلى الأب، ابنتى الكبرى متزوجة ومقيمة فى شيكاغو فى الولايات المتحدة..
والوسطى أميرة، وتقيم فى مصر ومتزوجة من المهندس إبراهيم المعلم.. والصغرى راندا متزوجة من خبير اتصالات وهو المهندس محمد النوارى.. وعندى عادة اتصل بهم يوميا وأنا فى طريقى من البيت إلى المكتب، حتى إن زوجتى تقول لى «هاتزهقهم» فأقول لها «هذا فرض عين.. وهم تعودوا على كده».
المسلمانى: نبدأ بالشق التاريخى، سيادتك دفعة عام 1950، التى فيها تحول كامل للسياسة وتحول للتاريخ فى مصر من حقبة إلى أخرى، كيف يرى كمال أبوالمجد ما قبل عام 52 فى مصر؟
أبو المجد: ليس فقط كيف أراها، وإنما كيف عشتها، فالذاكرة التاريخية هى التى تصنع الفكر وتركت فى حياتى الفكرية والوجدانية والأسرية انطباعات كثيرة. وأول ما أتذكره فى تلك الفترة أن الشعب المصرى لم يكن تعداده كبيرا، وأذكر فيلم من الأفلام الأبيض والأسود التى أختار أن أراها دائما، إن واحد تاه، فيذهب والده إلى قسم الشرطة ويسأل الضابط، فيرد عليه، «أنت ناسى.. بندور عليه فى عاصمة فيها تقريبا 2 مليون»..
وكانت مصر 18 مليونا، كما أتذكر منظر الجامعة التى دخلناها.. كان حرم الجامعة فاضى، ولما كنا بنتصور فى آخر سنة عند قبة الجامعة كان مافيش حد ماشى جنبنا، حتى المدرج كان عدد الطلاب لا يزيد على 120طالبا، أما الآن يصل عددهم إلى 1300، كمان صورة مصر كانت مختلفة، كانت شوارع القاهرة جميلة والحدائق، ولذلك لما ذهبت فى بعثة إلى باريس للدراسة نزلت فى مارسيليا، وعندما قابلت اثنين من زملائى كانا يريان أن الإسكندرية أجمل بكثير من مرسيليا، فالقاهرة كان لها جمال والإسكندرية كان لها جمال وأناقة، حتى الكورنيش والمحال التى كانت موجودة كانت مازالت فى شبابها.
المسلمانى: كان جيلكم عكس جيل الآن الذى يذهب إلى أوروبا وتبهره أضواء المدينة؟
أبو المجد: كانت أضواء المدينة هنا وكان هناك نظام، وهناك شىء بسيط يلفت النظر فى الأحياء الشعبية، حيث كانت هناك عربية رش تمر يوميا لرش الشوارع، مظهر من مظاهر النظافة الهائلة، كما أن الشارع يتجمع فيه الساكنون ويكونون «شلة»، كما أن كثيرا من نجوم الرياضة نشأوا فى المدرسة والحى وكانوا يلعبون كرة شراب فى الشارع، وكرة بجد فى المدرسة.
وأنا دخلت مدرسة فى الابتدائى اسمها «العباسية للرياضة والكشافة» وكنا سعداء باللبس والمنديل والصفارة وأتذكر أننا كنا نذهب لحلوان، كان فيها معسكرات كشافة، وقفنا فى حلوان والمطر كان شديدا، وكان المشرف اسمه سلامة وكنا نردد هتافات عن الكشافة، حتى يربينا على الصبر والتحمل.
لم نكن نشكو من التعليم، فإذا تسلمت للمدرسة تطلع متعلم، وإن تسلمت للجامعة تطلع مهنى متميز، وكل من درس لى فى مدرسة الثانوية نجم فى العلم، حيث درس لنا اللغة الإنجليزية د.لويس مرقص، الذى أصبح بعد ذلك أستاذا لزوجتى فى كلية الآداب، كما درس لنا الفرنساوى د.إسحق رمزى الذى صار أستاذا للفلسفة، وناظر المدرسة أحمد بك نجيب هاشم، الذى أصبح مستشارا ثقافيا فى واشنطن وبعد ذلك وزيرا للتعليم، والذى درس لنا التاريخ د.عبدالحميد البطريق، الذى حببنا فى التاريخ، وعرفنا بالثورة الفرنسية كأننا عشناها، والذى درس لنا الجغرافيا د. على علوى شلتوت، الذى كان أستاذا ومربيا.
وفى تلك الأيام، كنا فى أواخر الحرب العالمية الثانية، وكانت الصحافة عليها قيود، وكان عمى رحمه الله رئيس القلم السياسى فى وزارة الداخلية، وعملنا واسطة كبيرة علشان نطلع مجلة طلابية سميناها «رواد الفكر». كما أتذكر أننا كنا فى الجمعية الجغرافية، وكنا نذهب للمدرسة من الساعة الثامنة صباحا وكنا بنعمل خريطة مجسمة ونرسم الطائرة الألمانية التى أغارت على لندن. وكنا نفعل ذلك يوميا..
و كنا عايشين الحرب والسلام والمجتمع، وكنا نتعلم خبرات كثيرة جدا، كما كانت المدرسة تقدم لنا وجبة خفيفة فى الفسحة الساعة العاشرة صباحا، ووجبة كاملة الساعة الثانية عشرة والنصف، وكان ناظر المدرسة فى المدرسة الابتدائى يشرف على تقديم الوجبات للطلاب الذىن كان عددهم 12 طالبا على كل ترابيزة، ومرة أعطانى المدرس قطعة دهن، الناظر قال له اعطه قطعة لحم حمراء، وفى الثانوية كنت فى مدرسة فاروق الأول النموذجية وكانت وجبة الصباح التى تقدم لنا عبارة عن فنجان كاكاو وقطعة «باتيه» أو «جاتوه»..
وفى آخر السنة أقاموا لنا حفلا كانت وجبة الغذاء فيه مضاعفة، وألقى مدرس اللغة العربية قصيدة، كان آخر بيت فيها أتذكره «ولولا أكلة قد أتخمتنى لجئت بما يعز على أبو جهل».. كانت هناك سعادة وسرور ومافيش عذاب فى المدرسة.
فى آخر السنة يعطونا دروسا خصوصية اسمها مجموعات تقوية مجانا، كانت جزءا مهما فى المدرسة، وكانت فكرة الدرس الخصوصى لم تكن تخطر على قلب بشر، وكانت هناك بهجة، لأن هناك علما وأنشطة وهوايات ومعاملة جيدة.
المسلمانى: إذا كان هذا سفر التكوين، فماذا عن الناحية السياسية.. أقصد الوضع السياسى، الوفد والإخوان والحركات السياسية؟
أبو المجد: مصر كانت ملكية والقضايا التى كانت مثارة فى تلك الفترة مجموعات مختلفة، وهى السرايا والسفير الإنجليزى والأحزاب، وكانت تمثل إما نخبة مثقفة، وإما نخبة من أصحاب الأملاك. أما عامة الشعب لم يكونوا مشاركين، وأنا بتكلم عن الفترة السابقة عن ثورة 1952، وحرب 48 كانت إحدى النقاط الفاصلة، لأن الجيوش العربية والجيش المصرى هُزما وفوجئنا أن إسرائيل أصبحت حقيقة بالنسبة لمصر والعالم العربى من يوم وليلة.
الأمر الثانى، التفاوت الطبقى، فكان الفلاح بصفة خاصة يعيش ويأكل من الذى يقوم بزراعته، وأيضا كان فى استثناء فى الوصف الإجمالى عن التفاوت الطبقى، كان فى نوع من التكافل الاجتماعى التطوعى، حيث أذكر قبل أن تظهر بدع موائد الرحمن، أذكر فى العباسية كان أمامنا تاجر ورود، اسمه رمضان حافظ، كان يوميا فى رمضان يطعم 30 عاملا فى حديقته، فى صمت يأكلون ويمشون، حتى بعض الملاك الزراعيين الذين كان عندهم ذكاء سياسى وإنسانية كانت علاقتهم بالفلاحين جيدة، ليس جميعهم ظلمة.
لقينا الوعى السياسى تحرك فى أواخر الأربعينيات، وقبل قيام الثورة مباشرة، كان سقف الحرية الذى يمارس بتلقائية قد ارتفع، ومن الأصوات القوية فى ذلك الوقت، كان صوت أحمد حسين، الذى كان رئيسا لحزب مصر الفتاة وسماها بعد ذلك حزب اشتراكى، وكان يكتب مقالات فى مجلة «الاشتراكى» كان عنوانها رعاياك يا مولاى» وكان فيها هجوم على الملك وتهم موجهة للملك.
كنا نقرأها بنهم، وأتذكر الصفحتين عن موضوع رعاياك يا مولاى، وصور للفقراء، وهجوم. كما كان هناك صور للديمقراطية، وإن كانت تدور بين أقلية، حيث كان مجلس النواب مصمما على الاطلاع على ميزانية القصر، وأنا كمدرس قانون كانت أكثر الثوابت موجودة قبل الثورة، وأنا فاكر كويس نزاع قام به النائب لويس أخنوخ، الذى أبدى اعتراضات على سفر المحمل إلى الأراضى الحجازية، فوقف أمامه وزير وقال له «هذا شأن خاص بالمسلمين ليه بتتكلم فيه».
فقال لويس «هذه كلمة حق وأنا لست قبطيا أو مسلما، أنا أمثل الأمة كلها، ومن حقى أتكلم فى أى موضوع»، والمجلس أيده ضد الوزير.
مصطفى النحاس باشا عندما طلب منه تولى الحكم بضغط من السفارة الإنجليزية دافع واسترد حريته، والنحاس باشا كان له «كاريزما». وأذكر واقعتين.. قبل الثورة، كنت بصلى الجمعة، ودخل النحاس باشا، الناس كلها هللت ورحبت به، فكان لديه تلقائية شديدة، أما بعد الثورة، فحددوا إقامته فى بيته فى 9 شارع النباتات بجاردن سيتى، وهى مقر المجلس الأعلى للشئون الإسلامية الآن، وأصيب بألم شديد فى أسنانه، وكان من الضرورى أن يذهب لطبيب الأسنان، فحكى لى من رافقوه فى جولاته، فعندما يُسأل: شوف يا باشا عملوا فينا إيه؟ كان النحاس يريد أن يقول رأيه دون أن يتعرض لأذى، فكان رده «ولسه».. هذه الواقعة يعرفها ويذكرها محمد حسنين هيكل.
المسلمانى: كيف ترى حريق القاهرة؟
أبو المجد: أنا شاهدت حريق القاهرة، وأسطح البيوت كانت محترقة، طلعت أنا وأقرانى فى السن على ميدان الأوبرا فوجدنا فندق «الكونتيننتال» يحترق.. ووجدنا خراطيم مياه وشرطة ومطافئ وفوضى عامة.. ولقينا الشرطة تهم علينا بالضرب وتريد تسليط خراطيم المياه علينا.. فرفعنا أيدينا.
ولا يعلم أحد حتى هذه اللحظة من الذى قام بحرق القاهرة، وتحركنا بعد ذلك إلى ميدان التحرير فوجدنا عمارات محترقة، ولم نعرف من الذى يطفئ ومن الذى يحرقها، ووجدنا نهب أحد محال الأسلحة، وفيه ناس قالت: إن أحمد حسين هو السبب، وناس أخرى قالت السرايا هى التى أحرقت القاهرة حتى تفرض الأحكام العرفية. ولم نعلم من المتهم ومن المجنى عليه.
المسلمانى: غير أنك شاهد عيان.. من وجهة نظرك كقانونى: من هو صاحب المصلحة فى الحريق؟
أبو المجد: احتمال تواطؤ من الإنجليز مع أحد من البلد، فتحديد المتسبب فى الحريق عملية صعبة. وأريد أن أذكر أنه قبل قيام الثورة بأيام حدث اعتداء من الجيش البريطانى على الشرطة فى الإسماعيلية، استنفر وغضب الشعب من ذلك الاعتداء، فسمح لنا بالتدريب العسكرى فى جامعة القاهرة، والذى سأقوله الآن أنت لم تصدقه وأنا لم أصدقه، نظمت لنا معسكرات للتدريب على السلاح فى سرادق أمام كلية التجارة، ودربونا على كيفية فك المسدس وتركيبه وعلمونا نوعية من القنابل.
ومازلت أذكر اسمها «الخرشوفة»، واسمها العسكرى «ميلز 36». كما دربونا على قنابل حمراء حارقة إيطالية الصنع، هل تتصور أنه لهذه الدرجة وصلت درجة الثقة والاهتمام بالشباب، كما كان هناك متطوعون يذهبون حتى يحاربوا الإنجليز فى القناة.
أيام قيام الثورة، كنت قد تخرجت فى الكلية وكان هناك خلل فى هيكل السلطة، وأتذكر واقعة أن أحدا من إخوتى كان فى البوليس السياسى، قال لى: يا كمال، فيه واحد فى سجن الأجانب مطلع عينينا، طلباته ما بتخلصش.
قلت له: مين ده، قالى: اسمه أنور السادات. كان ذلك قبل الثورة، وأنا أذكر هذه الوقائع حتى أقول لك صورة بانورامية بالأبعاد الثلاثية، كما رأيته بعد ذلك قبل قيام الثورة، حيث كنا نجتمع فى بيت فى حدائق القبة، لا أعرف من كان موجودا، لكن ما أعرفه أن هناك اثنين على الأقل ضباط جيش، وكان هناك ناس من مختلف التوجهات السياسية، ولم نكن نسأل: ده تبع حزب إيه، ولا تبع مين، لأننا كلنا تجمعنا الوحدة الوطنية.
وإحنا قاعدين قالوا فيه واحد مهم جدا هاييجى بعد شوية، لقينا واحد داخل أشد سمرة وأنحف مما رأيناه وأقل أناقة، اسمه أنور السادات، وكان حديثه فيه قدر من العنف، والبلد لم تكن تعرف أى تنظيمات شبه عسكرية إلا فى حزبين، ثم صارت ثلاثة، بنشأة الإخوان المسلمين، كما أن الوفد كان عامل حاجة اسمها «القمصان الزرقاء»، ومصر الفتاة كانت عندها حاجة اسمها «القمصان الخضراء»، والإخوان عملوا الجوالة، حيث كانوا أكثر تنظيما وأكثر عددا. كان ذلك هو المناخ، ولما قامت الثورة كان الوعى الإعلامى وكتابات الصحف، خصوصا صحيفة مصر الفتاة، التى سميت بعد ذلك «الاشتراكى»، كانت مهيأة الأذهان ضد الملك وضد المظالم والإقطاع والإخوة الماركسيين أيضا، كان لهم تنظيماتهم الحادة جدا والراغبة فى التغيير.
المسلمانى: يعنى مصر كانت يوم 22 يوليو مؤهلة لحدوث ثورة تانى يوم؟
أبو المجد: كانت مهيأة، لأن ما حدث فى 48، وما حدث فى «الفالوجة» بصفة خاصة، عمل حمية ضد الإنجليز، وكان قد بدأ ضرب معسكرات الإنجليز، فلما قامت الثورة كلنا تجاوبنا معها بحماس، لكن من لم يتجاوب معها كثيرا هم المصريون الذين كانوا بالخارج، يعنى اختلاف فى الرؤى. والثورة قدمت إلينا من خلال محمد نجيب، الذى كان يتمتع بمزايا فى سنه الكبيرة ورتبته العالية، وتبنى الأحرار وفيه عرق سودانى، كما حصل ترحيب فى السودان. كما كان يتمتع بكاريزما تلقائية، ولا يشغلك خبرته وذكاؤه بقدر ما يشغلك قربه من الناس. فاستقبلت الثورة بترحيب من الناس، لأنها بشرت بأمور مثل العدالة الاجتماعية والاستقلال الكامل، ومحاربة الإقطاع،
وقد ألقى بيانها أنور السادات وبدأنا نتعرف على مجلس قيادة الثورة، ثم جاءت سنة 1954، وحصل انشقاق بين جمال عبدالناصر، القائد الفعلى لتنظيم الثورة، ومحمد نجيب الذى استعانوا به فى المرحلة الأولى، لكن نحن كمراقبين، لم يسعدنا الطريقة التى عومل بها محمد نجيب، قلنا «هى الثورة هاتأكل بنيها ولا إيه».
والحقيقة أن مجلس قيادة الثورة كانوا مسلحين بوطنية حماسية شديدة، لكن لم يكن هناك العمق المعرفى ولا الخبرة السياسية، هم كانوا عارفين عايزين إيه، لكن عملية البناء تبين أنها عملية صعبة.
المسلمانى: هذا هو تفسير القوة والغلظة مع محمد نجيب، حتى لو لم يكن قائدا فعليا، لكنه قبل بدور وطنى مشرف وأداه أفضل ما يكون، كما كان فى حالة مودة عامة بينه وبين الجماهير، لماذا كانت هذه القسوة فى رأى د.كمال أبوالمجد؟
أبو المجد: فى رأيى كنا نفضل خروج محمد نجيب كخروج الملك معززا مكرما، كما أدى التحية العسكرية، ومشى فى أمان الله. ولكن.. دائما الحركات يكون فيها صراعات.
المسلمانى: أم كان صعبا استيعاب محمد نجيب؟
أبو المجد: كانوا خايفين من الكاريزما، ولا أعلم من خاف من هذه الكاريزما، لكن أعتقد أن خالد محيى الدين كان ضد هذا التوجه.
المسلمانى: فى نفس عام 54، كانت قضية الإخوان المسلمين؟
أبو المجد: أنا لازم أقول حاجة، لما قامت الثورة شارك فى تنظيمها الداخلى عدد من رموز الإخوان المسلمين كما عرفنا بعد ذلك، وحدث شد وجذب، وكان أحد اللى جندوا الناس للإعداد للثورة، ضابط إخوانى اسمه عبدالمنعم عبدالرءوف، وكان له توجيهه، ولما أصدر فريق الضباط الأحرار حكما، كان التعايش بينها وبين الإخوان المسلمين صعبا، وأتصور أن الفريقين أخطآ أخطاء تكتيكية فى طريقة التعامل، فانشق الصف وبدأت حملة الثورة على الإخوان المسلمين.
أنا غبت عن الساحة من سنة 54، وذهبت إلى فرنسا للحصول على دكتوراه، وأذكر أن زملاءنا الذين سبقونا بسنة أو بسنتين نظموا لنا حفلة تكريم، انتهت إلى أنهم أغضبونا لأنهم وصفونا بالخيانة، لأننا نؤيد الثورة، وأذكر أن الدكتور رفعت محجوب رحمه الله، كان يقول «هؤلاء الخونة ومن يؤيدهم يكون خائنا»، وكان فيه تيار ضد الثورة يتجمع بالخارج.
وأذكر أن ممثلين من حزب الوفد دعونى لمؤتمر لاتخاذ مواقف ضد الثورة، فلما رفضت وقلت لهم ما بشتغلش فى السياسة، زعلوا قوى، وكان اسم الشخص هيكل. قبيل الثورة كان الإخوان قد صاروا شركاء فى الإعداد، لكن بعد الثورة حصل انفصال وتحول إلى استقطاب عدوانى بسرعة شديدة ودخلوا السجون والمعتقلات.
بعد ذلك، أنا غبت عن الساحة وخرجت مطرودا من فرنسا، حيث كنت أذهب إلى مسجد فى باريس، لإلقاء كلمة بعد الصلاة لمدة عشر دقائق، فلما قامت الثورة الجزائرية نسيت أننى فى فرنسا فألقيت كلمة فى مسجد باريس، وقلت الآية الكريمة «لنأتيهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجهم منها أذلة وهم صاغرون»، فوجدت البوليس يطلبنى باستمرار، وجاءنى أمر طرد، فأحسست أننى فى خطر.. فلذت إلى السفارة المصرية..
وذهبت إلى السفير المصرى، قال لى «لازم أتحرك»، فقلت له «أدونى فرصة 48 ساعة علشان أمشى»، قال لى غدا تأتى الساعة الثانية عشرة، فذهبت فى نفس الميعاد، فقال لى «ثبت أن كلامك مظبوط وأنا هاحميك، خبط على الحجرة التى أمامك وستجد اثنين من الدبلوماسيين، كان منهما واحد اسمه عادل فاضل»، قال لى «ياللا بينا على المحافظة». وأنا كنت قد ذهبت فى اليوم السابق إلى المحافظة، أخذوا منى كارت الإقامة، وأجلسونى من الساعة التاسعة حتى الساعة الخامسة.
وجلست مع المجرمين وتجار المخدرات واللصوص، وعندما ذهبت مع الدبلوماسى إلى نائب المحافظ سألته» لماذا استخرجتم قرارا بطرده، بالرغم من عدم وجود أساس قانونى لطرده، ومع ذلك نحن سنرسله إلى بلجيكا أو لندن، لكن خلى بالك سنطرد أمامه عشرة فرنساويين من مصر وسيكونون أيضا رجال أعمال وأساتذة»، فأحمر وجه نائب المحافظ. ورجعت فى هذا اليوم إلى البيت الإسبانى فى المدينة الجامعية فوجدت تلغرافا «بالإشارة إلى الطلب الذى كنت قد تقدمت به، قررت الإدارة العامة فى الجلسات الماضية نقل دراستكم من باريس إلى لندن، ومنحكم تذكرة سفر من باريس إلى لندن، فى حدود أربعة جنيهات إسترلينية»، فذهبت إلى لندن واستكملت دراستى وقمت بمعظم الدراسة هناك، وعدت للقاهرة لمناقشتها.
المسلمانى: المشهد الأخير السفارة المصرية القوية، والسفير المصرى، وطاقم السفارة، الذين درسوا الموضوع وساوموا وكسبوا المعركة فى سنة 54، وهو نفس عام الإخوان المسلمين وحادث المنشية؟

أبو المجد: دى حاجة سمعنا بيها واحنا موجودين فى الخارج، ولم نفهمها، وكل إنسان له فى تكوينه عناصر غالبة أو حاكمة، وأنا من العناصر الغالبة عندى هى قضية الحرية، وأنا مسافر إلى باريس فى الباخرة كان معى أحد أصدقائى، وكنت بأصُلى وبنسلى نفسنا ونلعب طاولة على الباخرة، فأتى شخص وقدم نفسه مهندس كمال حاتم، وسألنى: «ليه بتلعب طاولة دى حرام».
وقبل سفرى حصل جريمة فى مصر، أن أحد الإخوان المسلمين اسمه فايز عبدالمطلب يسكن فى شارع عبده باشا، ذهب إليه شخص فى ليلة سابقة، وخبط على الباب وقال هذه حلاوة مولد، ففتحها سيد فايز فانفجرت فيه، والشبهة تعلقت بآخرين من تنظيمات سرية. وقال لى الشاب: إنه من الإخوان المسلمين، فقلت له دى حاجة مرعبة جدا.
فرد على أكيد ارتكب خطأ تنظيميا، فقلت مازال على الرحلة حتى تنتهى يومان ونصف اليوم، لا تسلم على، ولا أسلم عليك، وأنا رايح مع صديقى نلعب طاولة، وكان رد فعلى أننى روعت.
المسلمانى: كيف تقرأ حادث المنشية بعد هذه السنوات؟
أبو المجد: أنا رجل قانون، ولابد من وجود دليل مقنع، وإذا اختلطت السياسة بالقضاء ولو من بعيد فأهل البلد جميعا على خطر عظيم.
أريد أن أحكى لك عن هيبة القضاء، عندما قتل النقراشى باشا، كنت فى رابعة حقوق، فقمت أنا واثنان من زملائى، وكانا بمحسوبية من عمى، حضرنا المحاكمة، وكان رئيس المحكمة اسمه مختار بك، حيث كان رجلا رفيعا وطويلا وأسمر جدا ودخلنا المحكمة، وكان مطلوبا للشهادة فى هذا اليوم، الوكيل الدائم الأول لوزارة الداخلية واسمه عبدالرحمن بك عمار، ودخل ليدلى بشهادته، وكان متعاليا، وقال فى شهادته «جاء لنا المتهم وطبعا إدينا له كل حقوقه كاملة وطبعا احنا التزمنا بالقانون»، وكان يكرر كلمة طبعا كثيرا، ففوجئنا بالقاضى يضرب المنصة ضربة قوية جدا ارتج لها المكان، ومد إيده وقال: «عبدالرحمن بك استأنف الشهادة وما سمعش منك كلمة طبعا»، احنا كطلبة قانون، انتبهنا إن هناك مكانا فى مصر كلمة القانون هى العليا، ونشأنا على هذا وتربينا على أن القانون محترم والقضاء مستقل استقلالا حقيقيا، وأنا دخلت كلية الحقوق ووالدى كان عنده كتاب اسمه «الكتاب الذهبى للمحاكم الأهلية»..
ورأيت فيه قضاة محكمة النقض، والنائب العام، نقيب المحامين وأعضاء محكمة استئناف القاهرة، حيث كان الكتاب على ورق مصقول تحيط به حاشية مذهبة ولونه لبنى، فدخلت كلية الحقوق وأنا معتز بها جدا.
ولذلك أقول: إن هيبة القاضى ضمان للمتقاضى فلابد أن أدخل للقاضى، وأنا مطمئن لعدله، عمرنا ما سألنا مين القاضى، فالقاضى قاض، وهو على عكس ما يحدث الآن.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.