يحمل مفهوم العلمانية في الفضاء العربي سمعة سيئة, تكاد تربطه بالكفر والإلحاد, إلي درجة جعلته ثقيلا علي لسان من ينطق به, قابضا لقلب من يسمعه, مستفزا للعقل العام المفترض له أن يتأمله. ولأن الهروب وصمة سواء كان في فضاءات العقل, أو في ساحات الحرية, آثرنا أن نتوقف اليوم عند ذلك المفهوم, واستدعائه مرة أخري إلي قلب جدلنا الثقافي المعاصر. يعد مفهوم العلمانية أحد أنماط صياغة العلاقة بين الدين والدنيا, صاغه التنوير الأوروبي بالأساس, حلا لتناقضات ثقافية لديه, وتجاوزا لمعضلات تاريخية خاصة به. ولأن التنوير الأوروبي لم يكن فلسفة واحدة بل فلسفات عدة, تباينت بين الأمم والقرائح الثقافية من رؤية يعقوبية معادية للدين في فرنسا, إلي رؤية مثالية متصالحة معه في ألمانيا, إلي رؤية إنجليزية متكافلة معه لدرجة جعلت رأس الكنيسة الإنجليكانية هو نفسه رأس المملكة البريطانية. ولأنه لم يكتمل نهائيا في القرن الثامن عشر, كما هو رائج, بل بدأ قبله وامتد بعده, فإن أشكال العلمانية المتولدة عنه قد نضجت علي مر القرون من معاداة للدين إلي تصالح معه في الأغلب الأعم. وإجمالا, يمكن القول بأن للعلمانية مستويين أساسيين يجب التمييز بينهما: المستوي الأول هو ما كان د. عبد الوهاب المسيري قد أسماه العلمانية الجزئية, ولكننا نفضل تسميته ب العلمانية السياسية لأنه أكثر مباشرة في التعبير, ووضوحا في الدلالة. والعلمانية السياسية مذهب يقوم علي أساس مجموعة من المبادئ النظرية المنبثقة عن مثل الحداثة السياسية, تنامت عبر القرون الأربعة الأخيرة. كما إنها ظاهرة تاريخية تنمو في قلب النظم السياسية بالأساس وتفرض نفسها عليها. أما المستوي الثاني فهو العلمانية الوجودية, تلك التي تنبعث من قلب المجتمع نفسه وتتطور تلقائيا بتأثير توالي الثورات العلمية وارتقاء الأدوات التكنولوجية, والنظم الإدارية التي ينتهجها المجتمع في إدارة العلاقة بين أطراف مكوناته. تسعي العلمانية السياسية إلي دفع الدين إلي حيز الوجود الفردي بعيدا عن المجال العام, من دون رغبة في اقتلاعه من المجتمع أو السعي إلي محاربته مادام لم يسع إلي تحدي النظام السياسي, بينما تسعي العلمانية الوجودية, من دون إعلان عن ذلك, وأحيانا من دون وعي به, إلي تصفية الدين نفسه وتفكيكه ونفيه, سواء من الوجدان الفردي أو الوجود الاجتماعي ودفعه إلي أكثر المواقع هامشية فلا تنحيه فقط عن التدخل في الاقتصاد والسياسة, بل تحرمه أيضا من دوره في صوغ نظم القيم السائدة, والتقاليد الاجتماعية التي كثيرا ما عبرت عن نفسها في قوانين الزواج والطلاق, وأنماط العيش المختلفة. نتجت العلمانية السياسية عن حركة الإصلاح الديني البروتستانتي بالأساس, وتغذت علي المثل السياسية للتنوير, تلك التي سادت وألهمت المجتمعات الصناعية الحديثة, بينما نبتت العلمانية الوجودية من قلب بعض فلسفات التنوير الجذرية, وتنامت بفعل التحولات الكبري في بني مجتمعات الما بعد( ما بعد الصناعة, ما بعد الحداثة.. الخ). وفيما سعت العلمانية السياسية إلي نفي التسلط باسم الدين من خلال تحديها لمقولة الحق الإلهي المقدس في حكم الشعوب, تلك التي مثلت جوهرا لعقد استبدادي طويل المدي بين الملوك, الإقطاعيين في الأغلب, المتحالفين مع الكنيسة الكاثوليكية في الأعم من جهة, وبين رعاياهم من البؤساء والفقراء والمحرومين من جهة أخري, فقد سعت العلمانية الوجودية إلي نفي الدين نفسه من الوجدان, بحجة أنه ليس نتاج وحي إلهي بل نتاج خوف الإنسان من الطبيعة, أو جهله بقوانين العالم, أو اغترابه في الفضاء الكوني, ومن ثم فما أن يتجاوز الإنسان جهله عبر العلم التجريبي الحديث, وخوفه عبر التنظيم المدني المعاصر, واغترابه عبر التقدم التكنولوجي الهائل, فسيتجاوز بالضرورة حاجته إلي الدين, الذي لا يعطيه سوي وهم زائف علي حد قول فرويد, ولا يمثل له سوي أفيون مخدر علي نحو ما ذهب ماركس. وبينما صاغت العلمانية السياسية التصورات الباكرة عن مستقبل الدين في قلب المجتمعات الحديثة, عندما تحدثت عن عقلنته, وعن تجاوز مركزيته في التاريخ الإنساني لحساب العلم والعقل والحرية. فإن العلمانية الوجودية هي التي صاغت التصورات العدمية عن مستقبل الدين, حينما تحدثت عن نهايته, أي إمكانية تجاوز التاريخ للدين نفسه, وليس فقط لمركزيته في مجتمعات ما بعد الحداثة. وفي هذا السياق نتبين حجم التناقض وعمق التباين بين هذين المستويين للعلمانية: فالأول منهما يخاطب الفضاء السياسي وحده, وهدفه الرئيسي هو تحرير الإرادة الإنسانية من أي كهنوت يسعي للسيطرة عليها باسم الله أو الدين, وهو المستوي الذي لابد منه لأي مجتمع ديمقراطي, ففي غيابه لا تقوم للحرية قائمة, لأن ذلك الغياب سوف يعقبه حضور لسلطة غاشمة تفرض دينا معينا علي ضمائر الناس وتعاقب من يرفضه, أو تدعي أنها تستلهم رؤاها الأيديولوجية ومواقفها السياسية من قوة خفية توجد فوق عالمنا, ومن ثم تسمو إرادتها علي إرادتنا فلا يكون لها حق مناقشتها أو مراجعتها, ليس بالضرورة من خلال الهياكل الصريحة للعصور الوسطي الأوروبية, وإنما عبر صيغ مغايرة تتضمنها بعض التصورات الخجولة لدي بعض أطراف تيار الإسلام السياسي الذين يبررون دستورا جائرا بدوافع الحلال والحرام, أو تصويتا معينا باسم الكفر والإيمان, وغيرها من عمليات تزوير للوعي وتدنيس للمقدس. أما الثاني فيخاطب الكيان الإنساني ذاته, بهدف فك الارتباط بينه وبين مقدسه أو إلهه, بحيث تتقلص أهميته ككيان روحي متعال, بمشاعره وأفكاره, وقيمه وأخلاقه, ما يؤدي في الأخير إلي طمس إرادته وذبول أسراره الروحية أمام سطوة الربح وهدف المنفعة. وهنا ينتفي أو يذبل أو ينكمش البعد الرأسي الجواني والعميق فيه, وتتدهور قدرته علي التسامي فوق غرائزه وعالمه الطبيعي/ المادي إذ يستحيل كل إنسان إلي كيان أفقي مسطح يمتد عرضيا, بحيث تتبدي كل جوانبه واضحة مثلما تتبدي السلع المعروضة في معرض تجاري كبير, ويصبح لكل قيمة من قيمه أو لجزء من جسده ثمن حيث تنمو صناعات( العري, والفن الإباحي, وتجارة الأعضاء), وتجتذب استثمارات مادية هائلة. هنا, وإذ تؤدي العلمانية السياسية إلي تحدي الإستبداد ورفض القهر باسم الله, نقول لها نعم, وإذ تؤدي العلمانية الوجودية إلي نفي الدين, وإذكاء الإلحاد, نقول لها لا وألف لا.. المزيد من مقالات صلاح سالم