كان ممكنًا، بل ومطلوبًا، تحت ضغط الحداثة، أن ينزاح الدين من المجال العام السياسى إلى المجال العام المدنى، متنازلًا عن ادعاءاته بالقدرة على تنظيم المجتمعات وبناء المؤسسات، والوصاية على المعارف والعلوم والمكتشفات، ليقتصر دوره على الإلهام الروحى والضبط الأخلاقى، وترشيد العلاقات الاجتماعية.. إنها العلمانية السياسية. وفى المقابل لم يكن ممكنًا ولا مطلوبًا أن يفقد الدين كل قيمته أو يعلن موته كما بشَّرت فلسفة الدين الوضعية، معتبرة أن موت الله ونهاية الروحانية ضرورة أساسية لازدهار العقل وسيادة العقلانية، ومتجاهلة حقيقة أساسية وهى أن العقلانية الحديثة نفسها قد منحت الإيمان سيفًا جديدًا يحارب به منطقها المادى الخالص ونزعتها المتطرفة، ويكتسب من خلاله أهمية مضاعفة، كونه، أى الإيمان، هو الوحيد القادر على انتزاع بذرة الخوف والقلق التى نبتت فى قلب العالم الحديث (العقلانى)، والتى انعكست فى شعور عميق لدى الإنسان بالنسبية وعدم اليقين، رغم كل الممكنات والأبنية التى وفَّرتها الحداثة والتى جعلت حياته أكثر راحة، وأشعرته بالأمن على جسده. فعندما يشاهد الناس تغير عالمهم بسرعة تختلط عليهم الاتجاهات، وتزوغ الأبصار، ويشعرون بالتيه إزاء فقدانهم مجتمعاتهم التقليدية (الرحيمة)، ولعل هذا الشعور بالضياع فى عالم غريب صلد يفتقد التلاحم والتعاطف يمثِّل التفسير الأعمق لجاذبية الظاهرة الأصولية فى عالم ما بعد الحداثة. وهكذا يتبيَّن أن دعوى نهاية الدين نبعت فقط من قراءة مختزلة وقصيرة الأفق لحركة الوعى الغربى لا العالمى، وهو أمر يتّسق تمامًا مع فكرة المركزية الغربية، بل يعد تطبيقًا لها على صعيد الدين، ولا علاقة لها بصيرورة الدين فى الوعى الإنسانى. فما أن انتهى القرن التاسع عشر، وانتصف القرن العشرون، حتى بدى وكأن التاريخ قد أخذ يلوى خطاه إلى بعض طرق ومداخل تقود إلى ما يسبق القرن التاسع عشر وليس إلى ما يليه، حيث انفجر الإحياء الدينى فى كل مكان تقريبًا، ولكنه ليس ذلك الإحياء الروحانى الصرف الذى كان سلفًا، ولا الإيمان التقليدى الذى ساد زمنًا، بل الإحياء العنيف الناجم عن شعور بالهزيمة ورغبة فى الثأر، وطموح إلى استعادة أرض مغتصبة كانت للدين قبل أن يطرد منها، حتى لو اضطر إلى حرقها. يحدث ذلك فى أبشع صوره بالعالم الإسلامى المريض بشتى ألوان الأصولية، منذ السبعينيات على الأقل. ويحدث ما يوازيه فى أقصى الشرق، فى صورة انبعاث جديد للهندوسية خصوصًا، يؤكد حيوية الدين (الطبيعى) فى الشرق الآسيوى، ومن خلال نزعات تجديد أكثر عمقًا وأقل صخبًا داخل البوذية، والكونفوشية. ويحدث ما يقاربه فى قلب العالم الغربى ذاته، حيث كان النزوع الكاثوليكى للإصلاح، واستدعاء الدين إلى قلب الثورات الوطنية عبر لاهوت التحرير فى أمريكا اللاتينية منذ الستينيات، ثم الإحياء الأصولى البروتستانتى فى الولاياتالمتحدة منذ السبعينيات. لقد كان الدين فى أكثر إلهاماته ثورية، وأكثر تجلياته راديكالية قابعًا على الطريق، هازئًا بالمصير الذى رسمته الحداثة فى صيغتها المادية المتطرفة، مطالبًا بحقّه فى الوجود، كاشفًا عن قدرته على التحدّى، وهى قدرة يبدو أنها ستظل دائمة، فى مواجهة المحاولات القسرية لنفى الروحانية المتسامية المتولدة عن مركزية الحضور الإلهى فى التاريخ الإنسانى.