يمكن القول بوجود نمطين أساسيين للشخصية الإنسانية: أولهما يمكن وصفه ب (التسامى)، إذ تتحقق فيه المثل العليا والفضائل الأرقى التى ترتبط بالإنسان باعتباره الكائن الأرقى فى الوجود، مركز المعنى والقيمة الذى يدور حوله العالم. وثانيهما يمكن وصفه ب (الوظيفي)، يغترب فيه الإنسان عن نفسه، ويتحول تحت ضغط نزعاته الدنيوية إلى مجرد (شئ) يؤدى وظيفة فى الحياة، ويتحرك فى فلك هذا العالم. أما الشخصية المتسامية، موضوعنا اليوم، فتعكس ما يليق بالروح الإنسانية كما ترسم معالمها الأديان السماوية، اتفاقا مع وضع الإنسان كخليفة لله في الأرض. أو تجسدها الفلسفات الحديثة باعتبارها ذاتا متعالية (ترانسندنتالية)، تعى نفسها والعالم من حولها، يُحركها طموح لا ينتهي إلى إدراك المعرفة الأعمق، والأخلاقية الأكمل، وذلك عبر تنمية ملكاتها الأساسية كالعقل والإرادة والضمير والروح، لتمارس من خلالها نشاطاتها الأرقى من قبيل الإيمان، والحب، والمعرفة، والفن. فالإيمان وسيلة مثلى لإنماء العوالم الداخلية للإنسان، وحفظ توازنه في الكون، حيث المرجعية الإلهية المتسامية تستخرج من الإنسان أنبل ما فيه، وتبثه ضميرا خلقيا مريدا للخير هيابا للشر، مدفوعا إلى الحق، رافضا للظلم الذي لا يمكن له أن يكون ضمن ملكوت الله. فإذا ما غاب الله غاب معه الضمير، وذبل معنى الأخلاق. ولعل هذا ما فهمه المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، عندما رأى أن إعلان موت الله لا يعنى إحلال الإنسان محله كما تصور الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه، بل موت الإنسان أيضا؛ فغياب الإله عن العالم يعنى افتقاد الإنسان للمرجعية الكبرى التى تمنحه الدلالة والمعنى. وهذا ما يجعل من العلمانية (الوجودية) التى تفصل بين الإنسان والمرجعية الإلهية موقفا عدميا، يستحيل معه الإنسان، على حد وصف الفيلسوف مارتن هيدجر، مثل زهرة تنمو وتزهر ثم تذبل بلا أى مغزى، فالزهرة تذهب دون معنى لحياتها، والإنسان يرحل دون تساؤل عن الغايات الكبرى لوجوده. أما الحب فهو ثانى أعمق المحاولات الإنسانية نجاحا، بعد الإيمان، للخروج من كهف الوحدة وأسر الذات الفردية وكآبة الاغتراب إلى فضاء الحميمية والتعاطف مع الآخرين من كل جنس ووطن ودين، فالقيمة الأخلاقية الكبرى للحب هى أنه يدفعنا للتعامل مع الآخرين كذوات إنسانية حية وليس كمجرد موضوعات أو أشياء كما يفعل غير المحبين. ولذا كان الحب دوما فعلا أخلاقيا وسلوكا نبيلا يقدره البشر حتى أولئك الذين لم يمروا بتجربة العشق، لأن ثمة شعورا لديهم بأن هناك، فى صدور المحبين، يقبع شئ جميل جد ، وخير حقا. وأما المعرفة فهى ملكة فائقة يستنبطها العقل الإنساني، تمنحه القدرة على الكشف والتعلم، وعلى التطور والترقى. والأهم من ذلك أنها إذا ما خلُصت من شوائب المادية والغرور الوضعى تمنحه وعيا عميقا بحدود طاقاته، وبالإمكانات الكامنة في بشريته، وكذلك العوائق الكامنة في بيئته وعالمه. وهنا تكتسب العقلانية النقدية وريثة التنوير الأوروبى فى صورته الرائقة والتى يمكن أن ندرج فيها عقلانية الإسلام (الكونية)، ميزة كبرى؛ كونها توازن بين (الفعالية) و (الخيرية)، أى ما بين التوصل إلى المعرفة وبين حسن استخدامها، كما تربط بين الوسيلة والغاية ولذا تعني بالنية التي لا تحفل بها الوضعية المتطرفة فى ماديتها، والتى تنهض على المبدأ النفعي القائل بأن الغاية تبرر الوسيلة. وأخيرا يأتى الفن كملكة تبث الإنسان قدرته على التعرف إلى نفسه، بتذوق المعانى الأعمق في سيرنا البشري الطويل، فالفنون على تعدد أشكالها، وتباين مستوى الإبداع فيها، تعكس قدرة مبدعها على رصد وتكثيف المعانى الإنسانية التي توصلنا إليها في ثقافاتنا المختلفة، سواء تلك التى اكتشفناها من تجاربنا الخاصة التى مارسناها على ظهر الأرض، أو تلك التى استلهمناها من معتقداتنا وأسرارنا المقدسة المنزلة علينا من قبة السماء. ففى كلا المصدرين ثمة مُثل تجمعنا، وفضائل تلهمنا، ومعان نهائية نجمع عليها، يصوغها الفن في لوحات تشكيلية ومقطوعات موسيقية، وكتل نحتية لا تخلب أبصارنا وتشجى آذاننا فقط، بل تضعنا دوما وبشكل كثيف أمام حقيقتنا الإنسانية في سياق جمالى غير وعظى، يطلق أعمق تخيلاتنا. مثل هذا الإنسان المدعم بكل أو بعض ملكات التسامى، يبدو غنيا جدا وقويا جدا وإن لم يكن حائزا لثروة أو سلطة، لأن مركز إلهامه ينبع من داخله لا من المحيطين به، وقوة حضوره تتركز في ذاته وليس فى مراكز الضغط التى تحيط به، ولذا لا يمكن للآخرين أن ينتزعوا منه شيئا كبيرا لديه أو عزيزا عليه، فيما هم لا يرونه ولا يمكن أن يلمسوه. كما أن موارد القوة والثراء لديه لا تخضع لقواعد السوق، أى العرض والطلب، لأنها لا تخضع أصلا للقانون الاقتصادي الشهير (الثمن)، والذي يحدد ثمن الأشياء ب (فرصها البديلة) أى بما أهدر في صناعتها من موارد كان من الممكن استخدامها في صناعة شىء بديل. ذلك أن موارد التسامى لدى الإنسان غير قابلة للنفاد، بل إنها، على العكس، تتراكم بإنفاقها، فكلما زاد توزيعها على الناس تنامت عند صاحبها وعند الناس معا. فالإيمان الروحى العميق، إذ يعبر عن نفسه أخلاقيا، إنما يسهم في تنمية الفضيلة بين الناس من دون أن تنقص فضيلة المؤمن الأول ذرة واحدة. وهكذا القدرة على بذر الحب، والتى تشحن روح الشخص المحبوب بطاقة عاطفية هائلة دون أن تقلل من طاقة المحب، بل تزيد منها عندما تنتشى بأثرها فيمن يحيطون بها، ولذا يقال فى المثل أن الحب كالعدوى. وهكذا حال المعرفة إذ تنمو من الفرد لتصنع حلقة علمية، ومدرسة فلسفية، حول العالم/ الفيلسوف الذى يطلقها فإذا به يجد من يحاورونه فيلهمونه بالجديد من الأفكار لتطوير علمه/ فلسفته. ومثلها التذوق الفنى، فالفنان إذ يكتشف الجمال ويدعو الآخرين إلي تذوقه، تزداد قدرته هو على التذوق، بما يشيع حوله من مناخ يشجعه ويلهمه. وهكذا نجد أن النشاطات الجوهرية لدى الإنسان كالإيمان والحب والمعرفة والفن، التى تنهض بها ملكاته الأساسية الأربع: العقل والروح والضمير والإرادة، إنما تزدهر بالاستخدام الأول لها سواء لدى من يطلقونها فتعود إليهم، أو لدى من يحسنون استقبالها فتشيع بينهم. لمزيد من مقالات صلاح سالم