يمثل الفن للإنسان جوهر ما يمكن تسميته ب( ملكة التعرف إلي نفسه), فالفنون علي تعدد أشكالها, وتباين مستوي الإبداع فيها, تعكس قدرة مبدعها علي رصد وتكثيف المعاني الإنسانية التي توصلنا إليها في ثقافاتنا المختلفة بتأثير تجاربنا الخاصة جدا, سواء تلك النابعة من قلب الأرض, أو تلك القادمة من معتقدات وأسرار مقدسة منزلة من قبة السماء, ففي كلا المصدرين ثمة مثل تجمعنا, وفضائل تلهمنا, ومعان نهائية نجمع عليها, يصوغها الفن في لوحات تشكيلية ومقطوعات موسيقية, وكتل نحتية لا تخلب أبصارنا وتشجي آذاننا فقط, بل تضعنا دوما وبشكل كثيف أمام حقيقتنا الإنسانية في سياق جمالي غير وعظي, يطلق أعمق تخيلاتنا. ولأهمية الفن ودوره في ترقية الأمم وتهذيب الشخصية الإنسانية تتوقف( فكر) عنده اليوم لتلقي الضوء علي جوانب مختلفه من جواهره المؤسسة ومن علائقه الممتدة بين بغيره من مجالات الفعل الإنساني. ففي الوقفة الأولي يحلل الكاتب والأكاديمي الكبير د. شاكر عبدا الحميد ما يمكن أن نسميه بجوهر الفن أو علاقته بنفسه, كاشفا عن معني الجمال الفني, أي ذلك الجمال الذي ينتجه الفنان بقصدية جمالية معينة توجد لدي الإنسان فقط, ولا توجد في الطبيعة أو لدي الحيوان. كما يبحث سر هذاالجمال الفني قياسا بالجمال الطبيعي, قبل أن يجوب بنا في حقل تعريف الفن والجمال بين شتي المدارس الفلسفية القديمة والحديثة في رحلة فنية شيقة. والوقفة الثانية يقوم بها د. سعيد توفيق الكاتب والأكاديمي المرموق عند العلاقة بين الفن والدين, ملاحظا عمق التحامهما في الوعي الإنساني منذ حاول الإنسان التعبير عن نفسه من خلال أنشطة قصدية تنعتق من الغريزة وتتوجه نحو الله أو الطبيعة. كما يتتبع تلك العلاقة في الحضارات والأديان المختلفة كالهندوسية وكذلك المسيحية التي نمي الفن في سياقها, وصولا إلي الإسلام مستنكرا ما يسعي اليه بعض المتأسلمين من وضعه في موقف النقيض للفن. وأما الوقفة الثالثة فيقدمها كاتب هذه السطور حول العلاقة بين الفن والعقل, راصدا تغير مضمون هذه العلاقة بين مرحلتين أساسيتين الأولي هي مرحلة الحداثة التي كان فيها الإبداع الفني أكثر ارتباطا بالعقل الإنساني, وأكثر حرصا علي تكريس القيم الحداثية في رسائله العاطفية والجمالية والوطنية خصوصا في مجال الفن الغنائي. والثانية هي مرحلة ما بعد الحداثة التي صار الفن خلالها أكثر تحررا من العقل وقيمه الموضوعية, وأعمق ارتباطا بالنزعات الفردية للجمهور المتلقي, باعتباره المالك الجديد لحق( تأويل) الرسالة الفنية. الفن والعقل.. من الفنان المعلم إلي المطرب الراقص ينطوي خيالنا كجمهور علي صور لا تنسي للعديد من رموز الفن المصري/ العربي, وبخاصة نجوم الغناء, وهم علي خشبة المسرح في حالة نشوة صوفية, وكأنهم حضور طقس مقدس, وكما أن لكل مقدس طقوسه التعبدية التي تصل بمؤمنيه إلي حالة النشوة الروحية, فقد كان لكل من هئولاء طقوسه التعبيرية بدءا من اختيار الكلمة بعد تدقيق, واللحن عبر إحساس, وحتي الأداء بكل صدق أمام جمهور متذوق ينطبع بدرجة من الاحترام الصادق وصولا إلي النشوة الفنية الكاملة. ولا شك في أن هذا الطقس الفني المتسامي هو ربيب التصور الحداثي لدور الفنان باعتباره ذاتا مبدعة لقيم وجدانية, وعقلية تجعل منه مشرعا جماليا وأخلاقيا وفكريا, وكذلك لدور الجمهور باعتباره متلقيا لهذه القيم بدافع نهمه إلي الرسائل العاطفية والوطنية التي تحملها. ذلك أن الفنان المشرع هو الابن الطبيعي للحداثة وما أنتجته فلسفاتها من ذات إنسانية اكتسبت موقعا مركزيا في الوجود, وفي التاريخ الإنساني باعتبارها خالقة للمعاني النهائية والفضائل الجماعية, التي يتم تداولها والاحتكام إليها داخل هذا التاريخ نفسه. هذا الطقس هو ما جسدته في الثقافة الغربية أعمال الموسيقيين العظام منذ عصر الباروك( وهو العصر الممتد في القرنين السابع, والثامن عشر, بين عصر النهضة وموسيقاه التي كانت لا تزال تختلط بطابع ديني وروح كنسية حتي نهاية السادس عشر, وبين العصر الحديث مطلع التاسع عشر) وخصوصا باخ, وهيندل, وهايدن وموتسارت, والفرنسيين مارك أنطوان شاربانتييه, وكوبران, ورامو, وجان باتيست لولي, والإيطاليين مونتيفردي الذي عاش بين عامي(1557 1643) ومثل جسرا بين عصر النهضة وعصر الباروك, وأليساندرو سكارلاتي, وأركانجيلو كوريللي, أنطونيو فيفالدي صاحب الكونشيرتو الشهير' الفصول الأربعة'. ثم أعمال الموسيقيين الكبار في القرن التاسع عشر بارتولدي مندلسون, وموديست موسورسكي, وبيتهوفن العظيم, وريتشارد فاجنر الذي حاول التعبير بموسيقاه عن الروح القومية الألمانية, وكان ملهما للفيلسوف الكبير نيتشه خصوصا في مرحلة شبابه. أما القرن العشرين فشهد تمدد هذا الطقس إلي المطربين الكبار الكلاسيكيين, وأشهرهم الأمريكي فرانك سيناترا الذي أذاب قلوب شباب العالم برقة صوته, والأسباني خوليو إجلاسيوس ذا الصوت الشجي بالغ التعبير.. وغيرهم كثيرون ممن استطاعوا تجسيد القيم المتسامية للفن الغنائي الحداثي. وبرغم أن التراث العربي لم يعرف, إلا نادرا ظاهرة الموسيقي الكلاسيكية كبنية فنية متفردة بذاتها, يتم إنتاجها باستقلال عن الغناء التقليدي, يمكننا الادعاء بأن الثقافة العربية/ المصرية تمكنت من تطوير حداثتها الفنية المميزة عبر موجتين أساسيتين كانتا بمثابة الجذر الذي تنتسب جل إليه الرموز الفنية العربية التي تحدثنا عنها: الموجة الأولي تمتد بين نهايات القرن التاسع عشر وبداية العشرين وسادتها روح الأصالة المتأثرة بالفلكلور والغناء الشعبي المصري مع نزوع متدرج نحو التحديث, وقد مثل خالد الذكر الفنان سيد درويش قمتها بامتياز معبرا بروح شرقية عربية عن الشخصية الوطنية المصرية الآخذة في التبلور والمتوثبة نحو التحرر والنهوض. والموجة الثانية تمتد بين ثلاثينيات وسبعينات القرن العشرين وجسدها بجانب هئولاء الرموز مبدعون كثر مثل زكريا أحمد ومحمد القصبجي وصالح عبد الحي وصالح جودت وبيرم التونسي, وكذلك الفنان الكبير رياض السنباطي الذي دشن مع عبد الوهاب بوجه خاص حداثتنا الموسيقية التي استوعبت الأدوات والوسائل الموسيقية الغربية كالأورج والبيانو مع الأدوات الموروثة في تكامل فني مثير أكد واستلهم الشخصية المصرية والروح العربية من جانب, وتجاوب مع إيقاع العصر من جانب آخر. وعلي العكس من ذلك, فإن النظرية الثقافية المروجة ل' ما بعد الحداثة' والنافية لمطلقات الحداثة, وعلي رأسها مركزية الذات الفردية, إنما تنفي أولوية' المبدع' ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي للمجتمع, لحساب أولوية' المتلقي' حيث يموت المؤلف أو يذبل ويعيش القاريء أو يزدهر. وعلي الصعيد الفني نزعت هذه النظرية إلي تهميش دور الفنان الحداثي لصالح دور الجمهور, إذ امتدت مقولة رولان بارت عن' موت المؤلف' بسهولة إلي موت الفنان مؤلف' الطقس الفني', ومقولة' حياة القاريء' إلي' حياة المستمع' متلقي' الطقس الفني' الذي اكتسب حرية أكبر في تذوقه. وهنا نشأ طقس فني جديد, أخذ ينمو منذ ستينات القرن العشرين, في إطار تصاعد حركات التمرد وثورات الشباب متباينة المشارب والنزعات التي عمت العالم آنذاك, باتجاه جنونية الروك أند رول, وصخب الجاز, وتقاليع البوب التي أنتجت ظواهر غنائية بحجم مايكل جاكسون, ومن نوع مادونا, وذلك ضمن ظواهر أخري أدبية وعلمية, وتكنولوجية, اعتبرت جميعها الإرهاص العملي والسلوكي لما تمت صياغته بعد ذلك نظريا وفلسفيا من منهجيات وتيارات ما بعد حداثية وخاصة ذلك التيار الذي ينادي ب' فلسفة الحياة اليومية' بحيث تصبح لغة الحياة اليومية وسلوكياتها هي مركز العملية الفكرية, ونقطة الهام العملية الفنية اقترابا من الحركة الدائبة للواقع, وتجاوبا مع اللغة اليومية للشارع, وابتعادا عن الأنظمة الفلسفية الكبري, والسرديات/ الأبنية الفكرية والتاريخية الحاكمة لمناهج المعرفة ومعايير التذوق الجمالي والأخلاقي الحداثي. وتجاوبا من الثقافة العربية مع هذه الروح ما بعد الحداثية وبعد نحو عقدين تقريبا بدأ طقس فني جديد يحتل ساحة الغناء في القاهرة وبيروت بالذات وينتشر من كلتيهما إلي معظم البلدان العربية بديلا للطقس الفني المتسامي لدي رواد حداثتنا الفنية تمت تسميته في طوره الأول ب' الأغنية الشبابية' وهي تسمية خاطئة لأنها تستمد منطقها من معيار جيلي لا فني يقع خارج العملية الإبداعية, وربما كان الأوفق تسميتها بالأغنية الصاخبة التي شهدت ركض المطرب علي خشبة المسرح ورقص الجمهور في قاعاته وبين مقاعده. وفي طوره الثاني ب' أغنية الفيديو كليب' والتي يمكن تسميتها أيضا ب' الأغنية الراقصة' التي جعلت من الحركة الإيقاعية بل والرقص الشرقي, مع الإخراج السينمائي جزءا مركزيا من الأغنية يصعب تذوقها بدونه. ثم كان التحول الثالث نحو' الأغنية العارية' التي تقوم علي دمج واضح بين الفن الحداثي وفن أماكن اللهو, وتستدعي عالم ومثل الكبارية الراقص في لوحات تعبيرية راقصة تشاهد ولا تسمع. وما بين هذه الأطوار الثلاث تم تقويض' المسرح التقليدي' باعتباره الأساس المكاني للفن الحداثي, والذي كان المطرب' الفنان' قد أعتبره المنبر الأساسي لإعلان رسالته الفنية. ثم تقويض المكونات الفكرية والجمالية لهذه الرسالة نفسها أمام زحف لغة الشارع التي فرضت نفسها حتي علي مسميات أغنياته من قبيل' قم أقف وأنت بتكلمني' و'هاتلي حد كبير أكلمه' و'بحبك ياحمار' وغيرها من الأعمال التي تختلف اختلافا واسعا بين مصادر إنتاجها, أو قنوات ترويجها, ولكنها تتفق في ملمحين أساسين يؤسسا لنمط جديد من النشوة الفنية لا يعتمد معيار الصدق الفني الحداثي القائم علي إبداع قيم عقليه ووجدانية وجمالية, ولكن معيار آخر هو التشظي الفني ما بعد الحداثي; الملمح الأول: ذبول قيمة المطرب ودوره الذي يتراجع من موقع' المبدع' النهائي للرسالة الفنية, إلي موقع' المنظم' للطقس الفني, والذي لا فضل له إلا الإعلان, بصعوده إلي خشبة المسرح, عن جاهزية المكان, حيث يبدأ الطقس وينهمك الجمهور في دوره الراقص, متجاوبا مع حضور المنظم وصانعا لنشوته الفنية الخاصة دونما انتظار لتلقيها. يلي ذلك قيام' المطرب المنظم' بتلقي التهنئة علي دوره المحدود بغض النظر عن جمال اللحن, أو صدق الكلمات, أو طبيعة الصوت, حيث صار المعيار تنظيميا لا فنيا. والملمح الثاني: بروز دور الجمهور كمشارك أساسي في الطقس الفني, تتحقق نشوته بنجاحه في إنزال المطرب المنظم من موقعه المتعالي'كفنان حامل للقيمة', إلي موقع' الشريك العادي' في طقس أشبه بحفلات الزار الجماعي التي يستطيع فيها كل فرد التعبير بحرية ملموسة عن هواجسه وآلامه الإنسانية, أو أشواقه العاطفية المحرومة, أو حتي عن خواء روحي يشعر به لدوافع ثقافية أو سياسية ولكنه لا يرغب في أن يتحاور حولها موضوعيا إما ليأسه من إمكانية حلها, وإما للتعبير عن احتجاجه علي السلطة السياسية والأخلاقية المولدة لها, ولذا فليس غريبا أن يكون الشباب في سن المراهقة أو أكبر قليلا هو العمود الفقري لجمهور هذا الطقس الفني حيث المرحلة العمرية, والظرف السياسي جميعها عوامل تحرك لديه ملكة التمرد علي كل سلطة أخلاقية أو فكرية, بل وعلي الحضور الموضوعي للعقل ذاته. لمزيد من مقالات صلاح سالم