موعد إجازة 6 أكتوبر 2024 للموظفين والمدارس (9 أيام عطلات رسمية الشهر المقبل)    محامي يكشف مفاجآت في قضية اتهام صلاح التيجاني بالتحرش    نائب محافظ المركزي: ملتزمين بضمان استدامة السياسات النقدية الجاذبة للاستثمار    حزب الله: اغتيال القيادي أحمد محمود وهبي في غارة إسرائيلية    فلسطين.. 3 إصابات في قصف إسرائيلي استهدف خيمة تؤوي نازحين وسط خان يونس    وزير الخارجية: الجهد المصري مع قطر والولايات المتحدة لن يتوقف ونعمل على حقن دماء الفلسطينيين    الأهلي ضد جورماهيا في دوري أبطال إفريقيا.. الموعد والقنوات الناقلة والمعلق والتشكيل    «من خليفة إيهاب جلال إلى أين سمعتي».. القصة الكاملة لأزمة الإسماعيلي وحلمي طولان    «صاحب المعلومة الأدق».. لميس الحديدي تهنئ أحمد شوبير على التعاقد مع قناة الأهلي    عاجل - الأرصاد تعلن تحسن الطقس اليوم وانخفاض الحرارة    مبلغ مالي غير متوقع وزيارة من صديق قديم.. توقعات برج العقرب اليوم 21 سبتمبر 2024    بحضور وزير الثقافة.. تفاصيل انطلاق الملتقى الدولي لفنون ذوي القدرات الخاصة    وزير الخارجية: مصر تدعم الصومال لبناء القدرات الأمنية والعسكرية    أسعار الذهب في مصر اليوم السبت 21-9-2024.. آخر تحديث    «أغلى من المانجة».. متى تنخفض الطماطم بعد أن سجل سعرها رقم قياسي؟    توجيه هام من التعليم قبل ساعات من بدء الدراسة 2025 (أول يوم مدارس)    موعد مباراة مانشستر يونايتد ضد كريستال بالاس في الدوري الإنجليزي والقنوات الناقلة    معسكر مغلق لمنتخب الشاطئية استعدادًا لخوض كأس الأمم الإفريقية    في احتفالية كبرى.. نادي الفيوم يكرم 150 من المتفوقين الأوائل| صور    قتل صديق عمره .. ذبحه ووضع الجثة داخل 3 أجولة وعاد يبحث مع أسرته عنه    أنتهاء أسطورة «ستورة» فى الصعيد .. هارب من قضايا شروع فى قتل وتجارة سلاح ومخدرات وسرقة بالإكراه    النيابة تعاين الزاوية التيجانية بعد أقوال ضحايا صلاح التيجانى    استدعاء والدة خديجة لسماع أقوالها في اتهام صلاح التيجاني بالتحرش بابنتها    د.مصطفى ثابت ينعي وزير الداخلية في وفاة والدته    عمرو سلامة: أداء «موريس» في «كاستنج» يبرز تميزه الجسدي    حفل للأطفال الأيتام بقرية طحانوب| الأمهات: أطفالنا ينتظرونه بفارغ الصبر.. ويؤكدون: بهجة لقلوب صغيرة    زاهي حواس: تمثال الملكة نفرتيتي خرج من مصر ب «التدليس»    "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".. أذكار تصفي الذهن وتحسن الحالة النفسية    «الإفتاء» توضح كيفية التخلص من الوسواس أثناء أداء الصلاة    وصلت بطعنات نافذة.. إنقاذ مريضة من الموت المحقق بمستشفى جامعة القناة    أمام أنظار عبد المنعم.. نيس يسحق سانت إيتيان بثمانية أهداف    بدائل متاحة «على أد الإيد»| «ساندوتش المدرسة».. بسعر أقل وفائدة أكثر    «البوابة نيوز» تكشف حقيقة اقتحام مسجل خطر مبنى حي الدقي والاعتداء على رئيسه    إسرائيل تغتال الأبرياء بسلاح التجويع.. مستقبل «مقبض» للقضية الفلسطينية    وزير الخارجية يؤكد حرص مصر على وحدة السودان وسلامته الإقليمية    نوران جوهر تتأهل لنهائي بطولة باريس للإسكواش 2024    ارتفاع سعر طن الحديد والأسمنت يتجاوز 3000 جنيه بسوق مواد البناء اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    عمرو أديب عن صلاح التيجاني: «مثقفين ورجال أعمال وفنانين مبيدخلوش الحمام غير لما يكلموا الشيخ» (فيديو)    عودة قوية لديمي مور بفيلم الرعب "The Substance" بعد غياب عن البطولات المطلقة    أول ظهور لأحمد سعد وعلياء بسيوني معًا من حفل زفاف نجل بسمة وهبة    المخرج عمر عبد العزيز: «ليه أدفع فلوس وأنا بصور على النيل؟» (فيديو)    «التحالف الوطني» يواصل دعم الطلاب والأسر الأكثر احتياجا مع بداية العام الدراسي    وزير خارجية لبنان: نشكر مصر رئيسا وشعبا على دعم موقف لبنان خلال الأزمة الحالية    أهالى أبو الريش فى أسوان ينظمون وقفة احتجاجية ويطالبون بوقف محطة مياه القرية    «جنون الربح».. فضيحة كبرى تضرب مواقع التواصل الاجتماعي وتهدد الجميع (دراسة)    لأول مرة.. مستشفى قنا العام" يسجل "صفر" في قوائم انتظار القسطرة القلبية    عمرو أديب يطالب الحكومة بالكشف عن أسباب المرض الغامض في أسوان    تعليم الإسكندرية يشارك في حفل تخرج الدفعة 54 بكلية التربية    سعر الدولار أمام الجنيه والعملات العربية والأجنبية اليوم السبت 21 سبتمبر 2024    أخبار × 24 ساعة.. انطلاق فعاليات ملتقى فنون ذوي القدرات الخاصة    انقطاع الكهرباء عن مدينة جمصة 5 ساعات بسبب أعمال صيانه اليوم    الأهلي في السوبر الأفريقي.. 8 ألقاب وذكرى أليمة أمام الزمالك    تعليم الفيوم ينهي استعداداته لاستقبال رياض أطفال المحافظة.. صور    حريق يلتهم 4 منازل بساقلتة في سوهاج    أكثر شيوعًا لدى كبار السن، أسباب وأعراض إعتام عدسة العين    آية الكرسي: درع الحماية اليومي وفضل قراءتها في الصباح والمساء    دعاء يوم الجمعة: نافذة الأمل والإيمان    الإفتاء تُحذِّر من مشاهدة مقاطع قراءة القرآن المصحوبةً بالموسيقى أو الترويج لها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن طاقة جمالية.. تعريفات ورؤى متعددة
نشر في نقطة ضوء يوم 12 - 05 - 2012

نسمع في رواية أوليس أصواتاً، ولا نرى وجوهاً، حسب تعبير الناقد الإنجليزي ادموند ولسون. مجموعة أصوات داخلية، مونولوجات، تعبث بخط السرد التقليدي. يتم النيل كلياً، من الحدث، عنصر التشويق، لصالح الحفر الذاتي بمجهر عملاق. تنعدم الحركة في أوليس، محدثة انعطافة ضخمة، في الرواية؛ التخلي عن مسرح الوصف. هدم الصورة، على حسابها يحل الصوت. وبينما كانت الرواية تعيش مرحلة ازدهارها السردي، في القرن التاسع عشر، مع بروست وجويس في العقود الأولى من القرن العشرين، شهدت إعلان احتضار مدوٍ للسرد. بطريقة ما، يقوم الفن، بخروقات تتجاوز متطلبات الذوق السائد، أحياناً تخدشه بعنف، لمصلحة فضاء تعبيري مبتكر، عوالم جديدة. في الموسيقى، قام ايجور سترافنسكي، بإعلان آخر لاحتضار اللحن، التمرد على كل ما يمت بصلة، للغنائية الرومانسية.
عندما ذهب الجمهور لمشاهدة عرض باليه «الربيع المقدس»، تحت تأثير شظايا الرومانسية، اعتقدوا أن موسيقى عن الربيع ستحاكيه بعذوبة غنائية، لكن سترافنسكي الشاب خيب جمهور باريس، بموسيقى عنيفة، أصوات حادة، إيقاعات صاخبة، مفرطة في الضجيج. موسيقى مشاغبة في هدمها للحن؛ احتلت النفخيات فيها مساحة شاسعة. تحول العرض الأول إلى مشهد مأساوي، صار الجمهور رماة يلقون أي شيء على المسرح. الفضاءات الجديدة، تعني اللامألوف. كان الجمهور ضمّن العمل مسبقاً؛ أحكامه الخاصة عن الربيع. تفاجأ بشلال عنيف من الإيقاعات والأصوات الحادة. مع الوقت تحول العمل، إلى لحظة كلاسيكية في تطور الموسيقى العالمية.
1
موضوع موسيقى «الربيع المقدس»، يعيدنا إلى روسيا الوثنية قبل دخول المسيحية، حين كان الروس يقدمون فتاة كقربان للآلهة مع قدوم الربيع، في طقس ديني وثني. تستعيد أوليس جيمس جويس، أوديسة هوميروس. أوديسوس حسب التسمية الإغريقية، يسد آذان بحارته بالشمع، ويتركهم يوثقونه إلى صارية السفينة، حتى تعبر بهم شاطئ السيرينات، كانت السيرينات حوريات يسحرن البحارة بغنائهن، ليلقوا بأنفسهم في البحر. صار أوليس الوحيد الذي استمع إلى غنائهن ونجا. يشبه الفن، ذلك الاستثناء الأوديسي. صوت الإغواء، ومقاومته. مغامرة مميتة، تجعلنا استثناء. غناء السيرينات المميت بالنسبة للفنان، هو إغواء كل ما هو مألوف، التعلق بالأطر المميتة. إننا في حال اعتبرنا الفن مجرد طقس وثني محض، فإن قربان الفنان، هو حرق المحظور في مذبح ربات الفن.
يشرق أمامنا سؤال: هل يتحدد شكل العمل الفني في سياق تطور ما كقانون، بمعنى أن موت السرد صار التزاماً روائياً، أو موت اللحن قانون موسيقي. في الواقع، ينجو الفن بنفسه من الركود، في تطلعاته نحو أفق غير منظور، نحو اللامتوقع. والتحديثات الفنية، قد يحولها النقد إلى قوانين راسخة، لكنها تحمل قوارب النجاة، بفسح مساحات جديدة، للإضافات، والخلق. إننا نستعين بمفهوم ميشيل فوكو حول المؤرخ: أن يصبح خبير حفريات للماضي ينبش في بقاياه. والفنان يقوم بالحفر في تاريخ الفن. أو ما تسميه ما بعد الحداثة (إعادة ترتيب العناصر القديمة في متحف المعرفة الحديثة).
2
في العصور الحديثة، تحول الفن، من مرآة للمجتمع، إلى عمل مرجعُه الذات. ظلت فكرة أفلاطون، «الفن محاكاة للواقع»، مسيطرة على عالمنا لقرون. لكن مثل هذا الاستنزاف الواقعي لجماليات الفن، أنتج موقفاً مضاداً. في تحليله لموسيقى بيتهوفن، كانت وجهة نظر سترافنسكي، مخيبة لأفكار تبدو بنظر البعض طوباوية عن الموسيقى، كتب يقول: «الأعمال الضخمة التي اشتهر بها إنما هي النتيجة المنطقية للطريقة التي يستخدم بها الآلات الصوتية». ويفسر ذلك، أن بيتهوفن عندما كتب سيمفونيته الثالثة، لا يهم إن كانت بوحي من بونابرت الجمهوري، أو الإمبراطور. المهم فيها فقط هو الموسيقى. وأضاف: «الآلة الموسيقية، هي التي تلهمه وتحدد أفكاره الموسيقية».
يقول الفيلسوف الألماني هيجل أن الموسيقى «تحتل مكانتها كفن حقيقي عندما تنجح في التعبير عن تلك المشاعر الروحية والأحاسيس». يناهض سترافنسكي، الموقف الجمالي الكلاسيكي والرومانسي. يقول أن الموسيقى «عاجزة في التعبير عن أي شيء، سواء أكان شعوراً، موقفاً، أو حالة نفسية». هل حقاً الموسيقى لا تثير المشاعر؟ لكنه يستدرك فكرته بدقة أكثر قائلاً: علة وجود الموسيقى لا تكمن كفاءتها في التعبير عن المشاعر. عادة ما تحمل الأفكار الثورية مبالغاتها، ويمكن تبريرها في سياق هدمها للمسلمات. أهمية ذلك الموقف، ليست في كونه اكتشافاً، بل في خدشه لمسلمة ظلت ترتبط بعلاقة الانسان بالموسيقى حتى اليوم، باعتبارها تعبيراً عن المشاعر.
في العصور الحديثة، تحول الفن، من مرآة للمجتمع، إلى عمل (مرجعه الذات). ظلت فكرة أفلاطون، الفن «محاكاة للواقع»، مسيطرة على عالمنا لقرون. لكن مثل هذا الاستنزاف الواقعي لجماليات الفن، أنتج موقف مضاداً
كثيراً ما تُفسد الأفكار ذائقة الفن. كان موقف سترافنسكي، ضد الاعتباط الفكري أو الأدبي للموسيقى، أو ما أسماه وضع نهاية احتكار رجال الأدب لتفسير الموسيقى، وقال: «لنترك ذلك لمن يستمع فيها موسيقى فقط». موقف مضاد، لتأويلات ترى في الفن محتوى فكريّاً خالصاً، وهو ما جعل الشاعر الفرنسي مالارميه يحاول إنقاذ الشعر من كل إغراءات المعنى بقوله: «القصيدة لا تتألف من أفكار بل من كلمات».
3
يتعرض الفن لصيغة استيلاء منظمة عبر أكوام من التفسيرات، بحسب الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج، والتي تختزله إلى مضمونه، قسره إلى إطار مفهومي، فمثلاً يتحول تداخل الظل والنور في أعمال رسامي النهضة، ومن تلاهم، إلى مفهوم لوني، حسب كثير من التأويلات، لصراع الخير والشر. ويمكن عبرها قراءة نفسية، أو فلسفية. كما أن مفردات الهولندي فرمير المشرقة، ستكون تعبيراً كليّاً عن انتصار النور المرادف للخير. يقول الرسام الانطباعي سيزان: «لا ينبغي على اللوحة أن تمثل شيئاً سوى الألوان». تشكل النظرة الانطباعية الانعزال الصاخب عن الأفكار، باعتبار الفنان مجرد جهاز تسجيل للمدركات الحسية. هل يجب علينا فقط أن لا نرى في الفن سوى أدواته؟ حسب وصية الشاعر الفرنسي بودلير. لا نقرأ في الرواية، إلا الرواية. الموسيقى تحكمها الآلات.
4
البعض يرى في الفن تعويضاً عن ما نفتقده في الواقع، مثل تلك التعريفات التي تأخذ منحىً مجازياً. لماذا نحتاج للشعر، الموسيقى، السينما؟ كثير من التساؤلات تفتح الباب لتفسيرات لا نهاية لها عن قيمة الفن، وأهميته في حياتنا. واحد من أكثر التفسيرات ذكاءً يتجلى في مقولة الفرنسي جان كوكتو «الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا». تكمن أهمية المقولة، في عدم معرفة لماذا. استهلت تلك العبارة كتاب (ضرورة الفن) لأرنست فيشر، لكن بصورة مخيبة، يذهب الكتاب، إلى البحث للإجابة عن لماذا، حد تفضيل حضوره كخادم اجتماعي، وأحياناً في تلك التعابير الملائمة عن واقع الثورة، أو الوضع الطبقي.
يقول فيشر: لقد كشفت الطبيعية عن التفتت والقبح والقذارة التي تطفو على سطح العالم البرجوازي. ويقصد بها أعمال كتاب مثل الفرنسي جوستاف فلوبير. لكنها «لم تستطع المضي أبعد وأعمق، فتتعرف على تلك القوى التي كانت تتهيأ لتغيير ذلك العالم وإقامة الاشتراكية». في مقالها (ضد التأويل) تقول سوزان سونتاج: التأويل هو انتقام الفكر من الفن. وصورة الانتقام الفكري تتجلى في إدانة فن أدبي، كونه لم يتعرف على القوة التي سوف تغير العالم، وتقيم الاشتراكية. هل يجب على الفن معرفة ذلك.
أكثر ما يشوه الفنان أن تُحبس أعماله في تضخم فكري على حساب الطاقة الجمالية، ويتجسد ذلك في عملية ابتزاز تعرض لها كُتاب: تلفيق للمعاني، جعل كافكا مناصراً للاشتراكية، أو بصورة قديس ينجو بالخلاص. ويمكن تفسير عمل فني، كمرجع لقراءة سيكولوجية عن الفنان.
5
كل التزام سياسي أو فكري، أو اجتماعي، قد ينعكس سلبياً على المحتوى الجمالي. يرسم دافيد هارفي في كتاب «حالة ما بعد الحداثة»، صورة فشل الفن الملتزم، يقول: التزمت السريالية والبنائية والواقعية الاشتراكية بإعلاء شأن البروليتاريا درجة الأسطورة. لكن النتائج برأيه «لم تكن متماسكة ولا منسجمة» فقد أُدينت أفكار الاشتراكية الواقعية باعتبارها «تخدم حداثية برجوازية». و«لم تؤسس ثقافة توحد البروليتاريا». مع ذلك، من السذاجة الإيمانُ بأن للفن فعالية تأسيس ثقافة تخدم طبقة ما، أو فئة معينة. إنه يعجز عن تأسيس هذا النوع من الثقافة، وما أن يصبح لديه هذا التوهم، حتى يتنازل عن حساباته الجمالية، أو يختار مبدئياً أن يكون فنّاً رديئاً ومباشراً. من وجهة نظر فلوبير، ليس على الروائي قول أحكام، وهي ربما رغبة لتجنب كل ما هو مباشر وتقريري.
يخالف الفن وصية كارل ماركس، التي ترى خلق فن وعلم خاليين من الخرافة، كمطلبين يمكن أن يكونا جزءاً حقيقياً من الكفاح الاجتماعي الواسع. استعاد الفن الخرافة والأسطورة، من أجل قيم جمالية خاصة به، لا علاقة لها بكفاح معين، أو حالة اجتماعية. الحضور الأيدلوجي، حاول توظيف الفن في ترويج قيمه، وأفكاره. أعمال كثيرة سقطت في الحفرة الدعائية. كثير من الشعر الثوري خنقته الهتافات، على حساب شعريته.
6
يتفوق الفن، على أي فكرة، أو شعور، أو مضمون، باعتباره طاقة جمالية، شهوة تحرر خالصة. قيمته تكمن في عجزه التعبيري المباشر لفكرة أو شعور واضح، عبر التواءاته التعبيرية ومساراته اللولبية يصنع الفارق الجمالي. وعبر قراءاتنا نمنح ذلك العجز تصورنا التعبيري.
كثير من الأعمال الفنية، التي التزمت بقضية فكرية وسياسية، مارست خيانة جمالية. فأعمال سارتر الأدبية، رواياته ومسرحياته، حاولت تقديم مفاهيم فلسفية وجودية بصورة مباشرة، مارس فيها قسراً فكرياً مسبقاً.. طغيان للفلسفة، تتخلى عنه رواية (الغريب) لألبير كامو، الذي تصبغ أعماله الحالة الوجودية.
سمات التفوق لأعمال كألف ليلة وليلة، ودون كيشوت، خروجها عن القاعدة الوعظية، التي التزمت بها كثير من الأعمال التقليدية. الابتكار الحقيقي لهما، اكتشاف العالم، كمسرح لعب ضخم. وليس مجرد صراع بين، الخير والشر، النور والظلام. يقول نيتشة: للفن والمشاعر الجمالية قدرة على تجاوز الخير والشر معاً.
نعيش بعد مراحل متعاقبة من تدمير للعقلانية، بكل سماتها القائمة على موازين متناسبة، ومنسقة. العقل المنذور برؤية شاملة لفهم العالم. يطلق نيتشة روح الفرد، «العالم طاقة جامحة»، «سباحة في بحر من عدم الانتظام». لم يعد الجمال، كل ما هو نظام دقيق منسق. كل ما هو منسق ومتجانس، إما مستبد، أو وهمي، بنظرة فوكو. ومن هذا المفهوم يبرز ذلك الاحتفال بالتعدد، أي أن العالم متحف مفتوح لكل القيم والأشكال الفنية، والأفكار.
7
في أطفال منتصف الليل، تتولد عاطفة حب عبر ستارة مثقوبة بقطر سبعة إنشات. يعالج طبيب كشميري فتاة في مجتمع مسلم، يحرم أبوها كشفها، ويفحص أماكن مرضها عبر الثقب، وفي كل استدعاء يتغير موضع المرض، وعند كل أنش من جسدها، كان الحلم يثير تصوراته عن الوجه، يمر الثقب كل أجزاء جسدها. يتولد الحب من حلم يعبر ثقب الستارة، ليكون الوجه آخر موضع يسقط منها. يعالج الموقف الحشمة الإسلامية، لكن جمالياً يتعدى الأمر الحالة الاجتماعية. خلق عوالم من جزئية صغيرة، لشغل مسرح حب..
يستثمر الفن الواقع لمصلحته الجمالية. فالحشمة الإسلامية، التي تملي على الواقع قيودها الخاصة، تعيش عوالمها الجمالية، وابتكارها الخيالي في الرواية عبر الستارة المثقوبة.. لكن لا يحتمل الصلات التي يصنعها الفن مع الواقع، تعبر ثقوب لتأسيس فضاء مخيلاتها.
8
تميل كثير من الانطباعات العامة، للفن كقيمة أخلاقية. تعيش مدام بوفاري حالة عدم رضا، تبحث عن ذاتها في الهرب داخل علاقات محرمة، وتنتهي بصورة مأساوية. خدشت رواية جوستاف فلوبير (مدام بوفاري) حينها الذائقة العامة، خالفت قوانين عصرها، القرن التاسع عشر المثقل بالتعاطف، والنزعات الإنسانية. وجه أحدهم نقداً للرواية، باعتبار أن شخصياتها لا تثير التعاطف. الحارس الأخلاقي، دفع بها إلى محاكمة، تحت ذريعة تهتكها غير المحتشم.
في الواقع، الفن هو تحدي الممكن، بمستحيلات أكثر إيحاء وعبثية. واحدة من الإنجازات الجمالية لرواية المحاكمة، بدايتها التي تقول: (لا بد أن أحدهم افترى الأكاذيب على جوزيف ك، لأنه من دون أن يقترف شيئاً، تم القبض عليه في صبيحة يوم مشمس). تدخل تلك العبارة مباشرة إلى جو العمل الروائي، بصورة لم تكن مسبوقة. تخلق رواية المحاكمة لفرانز كافكا، عالماً فانتازياً، رجل يحاكم على جريمة لم يرتكبها، حتى إنه لا يعرف ما هي التهمة الموجهة إليه.. العالم مسرح من العبث، ينقله كافكا، بفانتازيا محكمة، لا تشبه الواقع بحرفيته، لكنها تعيد خلقه ضمن تصوراتها.
9
ناهضت حداثة سترافنسكي في القرن العشرين، رومانسية القرن التاسع عشر. طرد الغنائية اللحنية من الموسيقى كطرد السرد من الرواية. كان يبحث عن الأصوات الحادة، إظهار أصوات غير مألوفة في الآلة، جمل موسيقية جافة، ضجيج عارض مفاجئ. كما الرواية لم تعد مبنية على حدث، حركة تشويق بروابط غنية من الوقائع، يكون فيها كاتب الرواية، صاحب مقدرة كلية، تنبعث منه كل المعطيات والأفكار. قد تبنى الرواية من لاحدث، لاحركة، وربما حدث بسيط، يتم البناء عليه، كقطعة سيمفونية، مصحوبة بتيارات صوتية، وتحولات غير مترابطة، وأحيانا بفجوات رهيبة تحمل رؤيتها الجمالية الخاصة. يقوم بيكاسو بتحطيم الأشكال. في بورتوريه لعشيقته، لا نجد صورة امرأة واضحة، طبع امرأة في مفردات عامة، لوجه وجسد بملامح لعبية، غير حقيقية.
يلعب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، في رواية الغرينغو العجوز، على لعبتين صوتيتين: (وحيدة تجلس الآن وتتذكر)، و(جاء الغرينغو العجوز المكسيك ليموت). عبارتان يقوم بتكرارهما كلازمة موسيقية، بتغير لفظي، تبديل ترتيب مفردات العبارة. صوتين عارضين يقتحمان النص كصدى، يتشظى كمقولة جمعية، أو رهان جمعي في عبارة: جاء الغرينغو العجوز ليموت. وصيغة فردية في عزلة المرأة: وحيدة تجلس الآن وتتذكر. تكرار يحضر كقواطع تكبح أي تدفق سردي. لا وجود لخيط حدثي نتبعه، يتشظى الحدث في الحفر الشعري، في التلاعب باللغة، لتتحول إلى بطل حقيقي.
الفن هو تحدي الممكن، بمستحيلات أكثر إيحاء وعبثية. واحدة من الإنجازات الجمالية لرواية المحاكمة، بدايتها التي تقول: (لا بد أن أحدهم افترى الأكاذيب على جوزيف ك، لأنه من دون أن يقترف شيئاً، تم القبض عليه في صبيحة يوم مشمس)
10
يؤكد الكاتب الارجنتيني أرنستو ساباتو، أنه لا يمكن تفضيل الفن، بمدى حداثته. نستطيع في الفيزياء تأكيد أن نظرية اينشتاين، أفضل من نظرية ارشميديس. لكن في الأدب، لا نستطيع اعتبار أوليس جيمس جويس أفضل من أوديسة هوميروس لأنها أحدث. يصيغ بودلير مفهوماً للحداثة، ضمن صورة لا ترفض وجهة نظر ساباتو، الذي يرفض فكرة تطور الفن. فالحداثة، بالنسبة له؛ هي المؤقت والزائل، وهي نصف الفن، بينما الأبدي والدائم، هو النصف الآخر. وضع الفن بين الزائل والدائم، اللحظة والأبدية، يُمكننا تفهم معنى بقاء أعمال كل هذي القرون، مثلت في عصورها الحداثة. أعلنت تلك المقولة الحداثية، أهمية أن يكون الفنان انعكاساً لعصره.
تعيد التصورات الجمالية إنتاج نفسها، بإعادة اكتشاف كتابات وأعمال قديمة. السورياليون أعادوا اكتشاف رسام عصر النهضة الألماني واشنطن. تحتفي ثقافتنا الحديثة بكل ما هو متهكم، ولُعبي. استعادة روح الخفة، وضعت الفرنسي ديدرو في مقدمة عصره، بعد أن احتل فولتير وروسو نجومية عصر التنوير لأكثر من قرن. ينفتح النص، في مفهوم ما بعد الحداثة، على مجموعة أخرى من النصوص، ينتج عنه قراءات ونصوص أخرى. عصرنا بحسب جيل دولوز، ينتج فصامات، كما ينتج شامبو وسيارات. مع ذلك، بعض المفاهيم تمارس ألاعيب في اللغة، لتكون نظرتها. يقوم عمل الفنان على تلك الألاعيب، نقل زاويته الخاصة التي يرى منها العالم، وليس نقل العالم الذي نراه.
يتجلى الفن، في استمراريته الأبدية، نبشه الدائم في التاريخ، وراء عناصر جديدة، كطريقة لصياغة متحف جمالي حديث. تعايش «عدد من العوالم المتشظية الممكنة» في «فضاء مستحيل»، هو ما تحاول القيم الجديدة للرواية تحقيقه، بحسب منظري ما بعد الحداثة. العيش داخل المتشظي، والمتقطع والفوضوي. رفض الماورائيات، نبذ صورة الكمال، والتقاط الجزئي، احتواء كل ما هو منبوذ، وعرضي. يقدم الاختلاف في عصرنا رهاناً على هدم مركزية الأيدلوجيات، في فضاء لغة غير قطعية، تستقصي التعدد وتصادم الأفكار، خلالها لا يجب على اللغة إملاء واجبات معينة، أو طرح حلول شاملة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.