القومي للمرأة ينظم لقاء تنسيقي مع محافظة القاهرة    عيار 21 مفاجأة.. تراجع كبير في أسعار الذهب اليوم بالتعاملات المسائية    بالصور.. تنفيذ إزالة على الرقعة الزراعية بقرية تفهنا العزب بزفتى    إيران لمجلس الأمن: استهداف إسرائيل دفاع عن النفس    إيران: إحالة 28 متهمًا في 15 قضية متصلة بإسرائيل إلى النيابة العامة    ليتوانيا تبدأ إجلاء مواطنيها من إسرائيل برًا مع تصاعد التوترات مع إيران    زيلينسكي يطالب خلال زيارته لفيينا بفرض المزيد من العقوبات على روسيا    كأس العالم للأندية| تشكيل تشيلسي لمواجهة لوس أنجلوس    وفاة مسن داخل مطار القاهرة إثر أزمة قلبية مفاجئة    مقتل فتاة بإحدى قرى كفر الشيخ في ظروف غامضة    ذكريات تترات الدراما المصرية تشعل مشاعر الحنين فى حفل كامل العدد بالأوبرا    "مطروح للنقاش" يسلط الضوء على محاولات إسرائيل تدمير البرنامج النووي الإيراني    معتز هشام يكشف تفاصيل دوره في مسلسل«ابن النصابة»    بعد العيد.. 5 مشروبات طبيعية تساعدك على استعادة رشاقتك بطريقة صحية    تأجيل محاكمة 11 متهما بالانضمام لجماعة إرهابية فى الجيزة ل8 سبتمبر    نراهن على شعبيتنا.. "مستقبل وطن" يكشف عن استعداداته للانتخابات البرلمانية    وزير الثقافة: تدشين منصة رقمية للهيئة لتقديم خدمات منها نشر الكتب إلكترونيا    وائل جسار يجهز أغاني جديدة تطرح قريبا    "كوميدي".. أحمد السبكي يكشف تفاصيل فيلم "البوب" ل أحمد العوضي    ما الفرق بين الركن والشرط في الصلاة؟.. دار الإفتاء تُجيب    وزير خارجية إيران: مكالمة من ترامب تنهي الحرب    طبيب يقود قوافل لعلاج الأورام بقرى الشرقية النائية: أمانة بعنقي (صور)    العثور على جثة شاب مصاب بطلق ناري في ظروف غامضة بالفيوم    محافظ الدقهلية يتفقد أعمال إنشاء مجلس مدينة السنبلاوين والممشى الجديد    نقيب المحامين يترأس جلسة حلف اليمين القانونية للأعضاء الجدد بنقابة المنوفية.. ويطالبهم بالتسلح بالفكر والعلم    لمست الكعبة أثناء الإحرام ويدي تعطرت فما الحكم؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    ما هي علامات عدم قبول فريضة الحج؟.. عضو بمركز الأزهر تجيب    أمين الفتوى يوضح حكم الجمع بين الصلوات في السفر    وزير العمل يستقبل المدير التنفيذي للأكاديمية الوطنية للتدريب- صور    سي إن إن: إيران تستبعد التفاوض مع واشنطن قبل الرد الكامل على إسرائيل    البنك المركزي يطرح سندات خزانة ب16.5 مليار جنيه بسعر فائدة 22.70%    إلهام شاهين توجه الشكر لدولة العراق: شعرنا بأننا بين أهلنا وإخواتنا    مفوض الأونروا: يجب ألا ينسى الناس المآسي في غزة مع تحول الاهتمام إلى أماكن أخرى    البنك التجارى الدولى يحافظ على صعود المؤشر الرئيسى للبورصة بجلسة الاثنين    «لترشيد استخدام السيارات».. محافظ قنا يُعّلق على عودته من العمل ب «العجلة» ويدعو للتعميم    تقرير يكشف موعد خضوع فيرتز للفحص الطبي قبل الانتقال ل ليفربول    عضو ب«مركز الأزهر» عن قراءة القرآن من «الموبايل»: لها أجر عظيم    التضامن تعلن تبنيها نهجا رقميا متكاملا لتقديم الخدمات للمواطنين    افتتاح توسعات جديدة بمدرسة تتا وغمرين الإعدادية بالمنوفية    وفود دولية رفيعة المستوى تتفقد منظومة التأمين الصحي الشامل بمدن القناة    بعد عيد الأضحى‬.. كيف تحمي نفسك من آلالام النقرس؟    تخفيف عقوبة 5 سيدات وعاطل متهمين بإنهاء حياة ربة منزل في المنيا    النائب حازم الجندي: مبادرة «مصر معاكم» تؤكد تقدير الدولة لأبنائها الشهداء    إيراد فيلم ريستارت فى 16 يوم يتخطى إيراد "البدلة" في 6 شهور    تصنيف الاسكواش.. نوران جوهر ومصطفى عسل يواصلان الصدارة عالمياً    محمد عمر ل في الجول: اعتذار علاء عبد العال.. ومرشحان لتولي تدريب الاتحاد السكندري    «فيفا» يوجه رسالة جديدة للأهلي وإنتر ميامي بمناسبة افتتاح المونديال    وزير الصناعة والنقل يشهد توقيع عقد ترخيص شركة "رحلة رايدز لتنظيم خدمات النقل البري"    لا تطرف مناخي.. خبير بيئي يطمئن المصريين بشأن طقس الصيف    بدء تسليم دفعة جديدة من وحدات مشروع جنة بالمنصورة الجديدة.. 6 يوليو    محافظ أسوان: 14 ألف حالة من المترددين على الخدمات الطبية بوحدة صحة العوضلاب    أسعار الأسماك بكفر الشيخ اليوم.. البلطي ب 80 جنيها    الينك الأهلي: لا نمانع رحيل أسامة فيصل للعرض الأعلى    إصابة 3 أشخاص بطلقات بندقية فى مشاجرة بعزبة النهضة بكيما أسوان    أمن الجيزة يضبط المتهمين بسرقة كابلات شركة فى كرداسة    3 أيام متواصلة.. موعد إجازة رأس السنة الهجرية للموظفين والبنوك والمدارس (تفاصيل)    إمام عاشور: ما حدث ليس غريبا على بيتي الأهلي.. وسأعود أقوى    الشرطة الإيرانية: اعتقال عميلين تابعين للموساد جنوب طهران    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الفن طاقة جمالية.. تعريفات ورؤى متعددة
نشر في نقطة ضوء يوم 12 - 05 - 2012

نسمع في رواية أوليس أصواتاً، ولا نرى وجوهاً، حسب تعبير الناقد الإنجليزي ادموند ولسون. مجموعة أصوات داخلية، مونولوجات، تعبث بخط السرد التقليدي. يتم النيل كلياً، من الحدث، عنصر التشويق، لصالح الحفر الذاتي بمجهر عملاق. تنعدم الحركة في أوليس، محدثة انعطافة ضخمة، في الرواية؛ التخلي عن مسرح الوصف. هدم الصورة، على حسابها يحل الصوت. وبينما كانت الرواية تعيش مرحلة ازدهارها السردي، في القرن التاسع عشر، مع بروست وجويس في العقود الأولى من القرن العشرين، شهدت إعلان احتضار مدوٍ للسرد. بطريقة ما، يقوم الفن، بخروقات تتجاوز متطلبات الذوق السائد، أحياناً تخدشه بعنف، لمصلحة فضاء تعبيري مبتكر، عوالم جديدة. في الموسيقى، قام ايجور سترافنسكي، بإعلان آخر لاحتضار اللحن، التمرد على كل ما يمت بصلة، للغنائية الرومانسية.
عندما ذهب الجمهور لمشاهدة عرض باليه «الربيع المقدس»، تحت تأثير شظايا الرومانسية، اعتقدوا أن موسيقى عن الربيع ستحاكيه بعذوبة غنائية، لكن سترافنسكي الشاب خيب جمهور باريس، بموسيقى عنيفة، أصوات حادة، إيقاعات صاخبة، مفرطة في الضجيج. موسيقى مشاغبة في هدمها للحن؛ احتلت النفخيات فيها مساحة شاسعة. تحول العرض الأول إلى مشهد مأساوي، صار الجمهور رماة يلقون أي شيء على المسرح. الفضاءات الجديدة، تعني اللامألوف. كان الجمهور ضمّن العمل مسبقاً؛ أحكامه الخاصة عن الربيع. تفاجأ بشلال عنيف من الإيقاعات والأصوات الحادة. مع الوقت تحول العمل، إلى لحظة كلاسيكية في تطور الموسيقى العالمية.
1
موضوع موسيقى «الربيع المقدس»، يعيدنا إلى روسيا الوثنية قبل دخول المسيحية، حين كان الروس يقدمون فتاة كقربان للآلهة مع قدوم الربيع، في طقس ديني وثني. تستعيد أوليس جيمس جويس، أوديسة هوميروس. أوديسوس حسب التسمية الإغريقية، يسد آذان بحارته بالشمع، ويتركهم يوثقونه إلى صارية السفينة، حتى تعبر بهم شاطئ السيرينات، كانت السيرينات حوريات يسحرن البحارة بغنائهن، ليلقوا بأنفسهم في البحر. صار أوليس الوحيد الذي استمع إلى غنائهن ونجا. يشبه الفن، ذلك الاستثناء الأوديسي. صوت الإغواء، ومقاومته. مغامرة مميتة، تجعلنا استثناء. غناء السيرينات المميت بالنسبة للفنان، هو إغواء كل ما هو مألوف، التعلق بالأطر المميتة. إننا في حال اعتبرنا الفن مجرد طقس وثني محض، فإن قربان الفنان، هو حرق المحظور في مذبح ربات الفن.
يشرق أمامنا سؤال: هل يتحدد شكل العمل الفني في سياق تطور ما كقانون، بمعنى أن موت السرد صار التزاماً روائياً، أو موت اللحن قانون موسيقي. في الواقع، ينجو الفن بنفسه من الركود، في تطلعاته نحو أفق غير منظور، نحو اللامتوقع. والتحديثات الفنية، قد يحولها النقد إلى قوانين راسخة، لكنها تحمل قوارب النجاة، بفسح مساحات جديدة، للإضافات، والخلق. إننا نستعين بمفهوم ميشيل فوكو حول المؤرخ: أن يصبح خبير حفريات للماضي ينبش في بقاياه. والفنان يقوم بالحفر في تاريخ الفن. أو ما تسميه ما بعد الحداثة (إعادة ترتيب العناصر القديمة في متحف المعرفة الحديثة).
2
في العصور الحديثة، تحول الفن، من مرآة للمجتمع، إلى عمل مرجعُه الذات. ظلت فكرة أفلاطون، «الفن محاكاة للواقع»، مسيطرة على عالمنا لقرون. لكن مثل هذا الاستنزاف الواقعي لجماليات الفن، أنتج موقفاً مضاداً. في تحليله لموسيقى بيتهوفن، كانت وجهة نظر سترافنسكي، مخيبة لأفكار تبدو بنظر البعض طوباوية عن الموسيقى، كتب يقول: «الأعمال الضخمة التي اشتهر بها إنما هي النتيجة المنطقية للطريقة التي يستخدم بها الآلات الصوتية». ويفسر ذلك، أن بيتهوفن عندما كتب سيمفونيته الثالثة، لا يهم إن كانت بوحي من بونابرت الجمهوري، أو الإمبراطور. المهم فيها فقط هو الموسيقى. وأضاف: «الآلة الموسيقية، هي التي تلهمه وتحدد أفكاره الموسيقية».
يقول الفيلسوف الألماني هيجل أن الموسيقى «تحتل مكانتها كفن حقيقي عندما تنجح في التعبير عن تلك المشاعر الروحية والأحاسيس». يناهض سترافنسكي، الموقف الجمالي الكلاسيكي والرومانسي. يقول أن الموسيقى «عاجزة في التعبير عن أي شيء، سواء أكان شعوراً، موقفاً، أو حالة نفسية». هل حقاً الموسيقى لا تثير المشاعر؟ لكنه يستدرك فكرته بدقة أكثر قائلاً: علة وجود الموسيقى لا تكمن كفاءتها في التعبير عن المشاعر. عادة ما تحمل الأفكار الثورية مبالغاتها، ويمكن تبريرها في سياق هدمها للمسلمات. أهمية ذلك الموقف، ليست في كونه اكتشافاً، بل في خدشه لمسلمة ظلت ترتبط بعلاقة الانسان بالموسيقى حتى اليوم، باعتبارها تعبيراً عن المشاعر.
في العصور الحديثة، تحول الفن، من مرآة للمجتمع، إلى عمل (مرجعه الذات). ظلت فكرة أفلاطون، الفن «محاكاة للواقع»، مسيطرة على عالمنا لقرون. لكن مثل هذا الاستنزاف الواقعي لجماليات الفن، أنتج موقف مضاداً
كثيراً ما تُفسد الأفكار ذائقة الفن. كان موقف سترافنسكي، ضد الاعتباط الفكري أو الأدبي للموسيقى، أو ما أسماه وضع نهاية احتكار رجال الأدب لتفسير الموسيقى، وقال: «لنترك ذلك لمن يستمع فيها موسيقى فقط». موقف مضاد، لتأويلات ترى في الفن محتوى فكريّاً خالصاً، وهو ما جعل الشاعر الفرنسي مالارميه يحاول إنقاذ الشعر من كل إغراءات المعنى بقوله: «القصيدة لا تتألف من أفكار بل من كلمات».
3
يتعرض الفن لصيغة استيلاء منظمة عبر أكوام من التفسيرات، بحسب الكاتبة الأمريكية سوزان سونتاج، والتي تختزله إلى مضمونه، قسره إلى إطار مفهومي، فمثلاً يتحول تداخل الظل والنور في أعمال رسامي النهضة، ومن تلاهم، إلى مفهوم لوني، حسب كثير من التأويلات، لصراع الخير والشر. ويمكن عبرها قراءة نفسية، أو فلسفية. كما أن مفردات الهولندي فرمير المشرقة، ستكون تعبيراً كليّاً عن انتصار النور المرادف للخير. يقول الرسام الانطباعي سيزان: «لا ينبغي على اللوحة أن تمثل شيئاً سوى الألوان». تشكل النظرة الانطباعية الانعزال الصاخب عن الأفكار، باعتبار الفنان مجرد جهاز تسجيل للمدركات الحسية. هل يجب علينا فقط أن لا نرى في الفن سوى أدواته؟ حسب وصية الشاعر الفرنسي بودلير. لا نقرأ في الرواية، إلا الرواية. الموسيقى تحكمها الآلات.
4
البعض يرى في الفن تعويضاً عن ما نفتقده في الواقع، مثل تلك التعريفات التي تأخذ منحىً مجازياً. لماذا نحتاج للشعر، الموسيقى، السينما؟ كثير من التساؤلات تفتح الباب لتفسيرات لا نهاية لها عن قيمة الفن، وأهميته في حياتنا. واحد من أكثر التفسيرات ذكاءً يتجلى في مقولة الفرنسي جان كوكتو «الشعر ضرورة، وآه لو أعرف لماذا». تكمن أهمية المقولة، في عدم معرفة لماذا. استهلت تلك العبارة كتاب (ضرورة الفن) لأرنست فيشر، لكن بصورة مخيبة، يذهب الكتاب، إلى البحث للإجابة عن لماذا، حد تفضيل حضوره كخادم اجتماعي، وأحياناً في تلك التعابير الملائمة عن واقع الثورة، أو الوضع الطبقي.
يقول فيشر: لقد كشفت الطبيعية عن التفتت والقبح والقذارة التي تطفو على سطح العالم البرجوازي. ويقصد بها أعمال كتاب مثل الفرنسي جوستاف فلوبير. لكنها «لم تستطع المضي أبعد وأعمق، فتتعرف على تلك القوى التي كانت تتهيأ لتغيير ذلك العالم وإقامة الاشتراكية». في مقالها (ضد التأويل) تقول سوزان سونتاج: التأويل هو انتقام الفكر من الفن. وصورة الانتقام الفكري تتجلى في إدانة فن أدبي، كونه لم يتعرف على القوة التي سوف تغير العالم، وتقيم الاشتراكية. هل يجب على الفن معرفة ذلك.
أكثر ما يشوه الفنان أن تُحبس أعماله في تضخم فكري على حساب الطاقة الجمالية، ويتجسد ذلك في عملية ابتزاز تعرض لها كُتاب: تلفيق للمعاني، جعل كافكا مناصراً للاشتراكية، أو بصورة قديس ينجو بالخلاص. ويمكن تفسير عمل فني، كمرجع لقراءة سيكولوجية عن الفنان.
5
كل التزام سياسي أو فكري، أو اجتماعي، قد ينعكس سلبياً على المحتوى الجمالي. يرسم دافيد هارفي في كتاب «حالة ما بعد الحداثة»، صورة فشل الفن الملتزم، يقول: التزمت السريالية والبنائية والواقعية الاشتراكية بإعلاء شأن البروليتاريا درجة الأسطورة. لكن النتائج برأيه «لم تكن متماسكة ولا منسجمة» فقد أُدينت أفكار الاشتراكية الواقعية باعتبارها «تخدم حداثية برجوازية». و«لم تؤسس ثقافة توحد البروليتاريا». مع ذلك، من السذاجة الإيمانُ بأن للفن فعالية تأسيس ثقافة تخدم طبقة ما، أو فئة معينة. إنه يعجز عن تأسيس هذا النوع من الثقافة، وما أن يصبح لديه هذا التوهم، حتى يتنازل عن حساباته الجمالية، أو يختار مبدئياً أن يكون فنّاً رديئاً ومباشراً. من وجهة نظر فلوبير، ليس على الروائي قول أحكام، وهي ربما رغبة لتجنب كل ما هو مباشر وتقريري.
يخالف الفن وصية كارل ماركس، التي ترى خلق فن وعلم خاليين من الخرافة، كمطلبين يمكن أن يكونا جزءاً حقيقياً من الكفاح الاجتماعي الواسع. استعاد الفن الخرافة والأسطورة، من أجل قيم جمالية خاصة به، لا علاقة لها بكفاح معين، أو حالة اجتماعية. الحضور الأيدلوجي، حاول توظيف الفن في ترويج قيمه، وأفكاره. أعمال كثيرة سقطت في الحفرة الدعائية. كثير من الشعر الثوري خنقته الهتافات، على حساب شعريته.
6
يتفوق الفن، على أي فكرة، أو شعور، أو مضمون، باعتباره طاقة جمالية، شهوة تحرر خالصة. قيمته تكمن في عجزه التعبيري المباشر لفكرة أو شعور واضح، عبر التواءاته التعبيرية ومساراته اللولبية يصنع الفارق الجمالي. وعبر قراءاتنا نمنح ذلك العجز تصورنا التعبيري.
كثير من الأعمال الفنية، التي التزمت بقضية فكرية وسياسية، مارست خيانة جمالية. فأعمال سارتر الأدبية، رواياته ومسرحياته، حاولت تقديم مفاهيم فلسفية وجودية بصورة مباشرة، مارس فيها قسراً فكرياً مسبقاً.. طغيان للفلسفة، تتخلى عنه رواية (الغريب) لألبير كامو، الذي تصبغ أعماله الحالة الوجودية.
سمات التفوق لأعمال كألف ليلة وليلة، ودون كيشوت، خروجها عن القاعدة الوعظية، التي التزمت بها كثير من الأعمال التقليدية. الابتكار الحقيقي لهما، اكتشاف العالم، كمسرح لعب ضخم. وليس مجرد صراع بين، الخير والشر، النور والظلام. يقول نيتشة: للفن والمشاعر الجمالية قدرة على تجاوز الخير والشر معاً.
نعيش بعد مراحل متعاقبة من تدمير للعقلانية، بكل سماتها القائمة على موازين متناسبة، ومنسقة. العقل المنذور برؤية شاملة لفهم العالم. يطلق نيتشة روح الفرد، «العالم طاقة جامحة»، «سباحة في بحر من عدم الانتظام». لم يعد الجمال، كل ما هو نظام دقيق منسق. كل ما هو منسق ومتجانس، إما مستبد، أو وهمي، بنظرة فوكو. ومن هذا المفهوم يبرز ذلك الاحتفال بالتعدد، أي أن العالم متحف مفتوح لكل القيم والأشكال الفنية، والأفكار.
7
في أطفال منتصف الليل، تتولد عاطفة حب عبر ستارة مثقوبة بقطر سبعة إنشات. يعالج طبيب كشميري فتاة في مجتمع مسلم، يحرم أبوها كشفها، ويفحص أماكن مرضها عبر الثقب، وفي كل استدعاء يتغير موضع المرض، وعند كل أنش من جسدها، كان الحلم يثير تصوراته عن الوجه، يمر الثقب كل أجزاء جسدها. يتولد الحب من حلم يعبر ثقب الستارة، ليكون الوجه آخر موضع يسقط منها. يعالج الموقف الحشمة الإسلامية، لكن جمالياً يتعدى الأمر الحالة الاجتماعية. خلق عوالم من جزئية صغيرة، لشغل مسرح حب..
يستثمر الفن الواقع لمصلحته الجمالية. فالحشمة الإسلامية، التي تملي على الواقع قيودها الخاصة، تعيش عوالمها الجمالية، وابتكارها الخيالي في الرواية عبر الستارة المثقوبة.. لكن لا يحتمل الصلات التي يصنعها الفن مع الواقع، تعبر ثقوب لتأسيس فضاء مخيلاتها.
8
تميل كثير من الانطباعات العامة، للفن كقيمة أخلاقية. تعيش مدام بوفاري حالة عدم رضا، تبحث عن ذاتها في الهرب داخل علاقات محرمة، وتنتهي بصورة مأساوية. خدشت رواية جوستاف فلوبير (مدام بوفاري) حينها الذائقة العامة، خالفت قوانين عصرها، القرن التاسع عشر المثقل بالتعاطف، والنزعات الإنسانية. وجه أحدهم نقداً للرواية، باعتبار أن شخصياتها لا تثير التعاطف. الحارس الأخلاقي، دفع بها إلى محاكمة، تحت ذريعة تهتكها غير المحتشم.
في الواقع، الفن هو تحدي الممكن، بمستحيلات أكثر إيحاء وعبثية. واحدة من الإنجازات الجمالية لرواية المحاكمة، بدايتها التي تقول: (لا بد أن أحدهم افترى الأكاذيب على جوزيف ك، لأنه من دون أن يقترف شيئاً، تم القبض عليه في صبيحة يوم مشمس). تدخل تلك العبارة مباشرة إلى جو العمل الروائي، بصورة لم تكن مسبوقة. تخلق رواية المحاكمة لفرانز كافكا، عالماً فانتازياً، رجل يحاكم على جريمة لم يرتكبها، حتى إنه لا يعرف ما هي التهمة الموجهة إليه.. العالم مسرح من العبث، ينقله كافكا، بفانتازيا محكمة، لا تشبه الواقع بحرفيته، لكنها تعيد خلقه ضمن تصوراتها.
9
ناهضت حداثة سترافنسكي في القرن العشرين، رومانسية القرن التاسع عشر. طرد الغنائية اللحنية من الموسيقى كطرد السرد من الرواية. كان يبحث عن الأصوات الحادة، إظهار أصوات غير مألوفة في الآلة، جمل موسيقية جافة، ضجيج عارض مفاجئ. كما الرواية لم تعد مبنية على حدث، حركة تشويق بروابط غنية من الوقائع، يكون فيها كاتب الرواية، صاحب مقدرة كلية، تنبعث منه كل المعطيات والأفكار. قد تبنى الرواية من لاحدث، لاحركة، وربما حدث بسيط، يتم البناء عليه، كقطعة سيمفونية، مصحوبة بتيارات صوتية، وتحولات غير مترابطة، وأحيانا بفجوات رهيبة تحمل رؤيتها الجمالية الخاصة. يقوم بيكاسو بتحطيم الأشكال. في بورتوريه لعشيقته، لا نجد صورة امرأة واضحة، طبع امرأة في مفردات عامة، لوجه وجسد بملامح لعبية، غير حقيقية.
يلعب الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، في رواية الغرينغو العجوز، على لعبتين صوتيتين: (وحيدة تجلس الآن وتتذكر)، و(جاء الغرينغو العجوز المكسيك ليموت). عبارتان يقوم بتكرارهما كلازمة موسيقية، بتغير لفظي، تبديل ترتيب مفردات العبارة. صوتين عارضين يقتحمان النص كصدى، يتشظى كمقولة جمعية، أو رهان جمعي في عبارة: جاء الغرينغو العجوز ليموت. وصيغة فردية في عزلة المرأة: وحيدة تجلس الآن وتتذكر. تكرار يحضر كقواطع تكبح أي تدفق سردي. لا وجود لخيط حدثي نتبعه، يتشظى الحدث في الحفر الشعري، في التلاعب باللغة، لتتحول إلى بطل حقيقي.
الفن هو تحدي الممكن، بمستحيلات أكثر إيحاء وعبثية. واحدة من الإنجازات الجمالية لرواية المحاكمة، بدايتها التي تقول: (لا بد أن أحدهم افترى الأكاذيب على جوزيف ك، لأنه من دون أن يقترف شيئاً، تم القبض عليه في صبيحة يوم مشمس)
10
يؤكد الكاتب الارجنتيني أرنستو ساباتو، أنه لا يمكن تفضيل الفن، بمدى حداثته. نستطيع في الفيزياء تأكيد أن نظرية اينشتاين، أفضل من نظرية ارشميديس. لكن في الأدب، لا نستطيع اعتبار أوليس جيمس جويس أفضل من أوديسة هوميروس لأنها أحدث. يصيغ بودلير مفهوماً للحداثة، ضمن صورة لا ترفض وجهة نظر ساباتو، الذي يرفض فكرة تطور الفن. فالحداثة، بالنسبة له؛ هي المؤقت والزائل، وهي نصف الفن، بينما الأبدي والدائم، هو النصف الآخر. وضع الفن بين الزائل والدائم، اللحظة والأبدية، يُمكننا تفهم معنى بقاء أعمال كل هذي القرون، مثلت في عصورها الحداثة. أعلنت تلك المقولة الحداثية، أهمية أن يكون الفنان انعكاساً لعصره.
تعيد التصورات الجمالية إنتاج نفسها، بإعادة اكتشاف كتابات وأعمال قديمة. السورياليون أعادوا اكتشاف رسام عصر النهضة الألماني واشنطن. تحتفي ثقافتنا الحديثة بكل ما هو متهكم، ولُعبي. استعادة روح الخفة، وضعت الفرنسي ديدرو في مقدمة عصره، بعد أن احتل فولتير وروسو نجومية عصر التنوير لأكثر من قرن. ينفتح النص، في مفهوم ما بعد الحداثة، على مجموعة أخرى من النصوص، ينتج عنه قراءات ونصوص أخرى. عصرنا بحسب جيل دولوز، ينتج فصامات، كما ينتج شامبو وسيارات. مع ذلك، بعض المفاهيم تمارس ألاعيب في اللغة، لتكون نظرتها. يقوم عمل الفنان على تلك الألاعيب، نقل زاويته الخاصة التي يرى منها العالم، وليس نقل العالم الذي نراه.
يتجلى الفن، في استمراريته الأبدية، نبشه الدائم في التاريخ، وراء عناصر جديدة، كطريقة لصياغة متحف جمالي حديث. تعايش «عدد من العوالم المتشظية الممكنة» في «فضاء مستحيل»، هو ما تحاول القيم الجديدة للرواية تحقيقه، بحسب منظري ما بعد الحداثة. العيش داخل المتشظي، والمتقطع والفوضوي. رفض الماورائيات، نبذ صورة الكمال، والتقاط الجزئي، احتواء كل ما هو منبوذ، وعرضي. يقدم الاختلاف في عصرنا رهاناً على هدم مركزية الأيدلوجيات، في فضاء لغة غير قطعية، تستقصي التعدد وتصادم الأفكار، خلالها لا يجب على اللغة إملاء واجبات معينة، أو طرح حلول شاملة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.