انطلاق حفل تكريم الفائزين في مسابقة ثقافة بلادي 2    شراكة استراتيجية بين جامعة بنها ومؤسسة أخبار اليوم لتأهيل جيل جديد من الإعلاميين    أكبر معرض زراعي بالشرق الأوسط.. انطلاق الدورة ال37 من صحارى 2025 في سبتمبر المقبل    محافظ بني سويف يفتتح موسم جني محصول القطن    محافظ المنوفية يترأس مجلس إدارة المنطقة الصناعية ويؤكد دعمه للاستثمار    الخارجية الإيرانية: الاحتلال الإسرائيلي يشكل تهديدا وجوديا لأمن واستقرار المنطقة    فاركو يختتم استعداداته لمواجهة الطلائع في الدوري    الصحة: إغلاق مركز غير مرخص لعلاج الإدمان في الشرقية    ضبط أصدقاء السوء بعدما تخلصوا من جثمان صديقهم بالعاشر    للكبد والكلى.. 907 موافقات من «الصحة» لزراعة الأعضاء خلال 2025    فقدان أجهزة كهربائية.. محافظ سوهاج يُحيل مخالفات المجمع الزراعي ببرديس للتحقيق    تعويضات بالملايين.. نزع ملكية بعض العقارات بمحافظة القاهرة لهذا السبب    إجراءات حاسمة من «التعليم» بشأن العقاب البدني وغياب الطلاب في العام الدراسي الجديد    أستراليا تلغي تأشيرة عضو بالكنيست وتمنعه من دخول أراضيها    رئيس الوزراء يشارك في قمة «تيكاد 9» باليابان    تنسيق الجامعات 2025.. اليوم إغلاق باب التسجيل لطلاب مدارس النيل والمتفوقين    سبورت: بافار معروض على برشلونة.. وسقف الرواتب عائقا    تمكين الشباب.. رئيس جامعة بنها يشهد فعاليات المبادرة الرئاسية «كن مستعدا»    الرقابة المالية: 3.5 مليون مستفيد من تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر حتى يونيو 2025    مواعيد انطلاق القطارات من بنها إلى الإسكندرية الاثنين 18 أغسطس    «ثقافة بلادي».. جسر للتواصل والتنوع بين طلاب الأزهر والوافدين    تووليت وكايروكي يحيون ختام مهرجان العلمين الجديدة (أسعار التذاكر والشروط)    تعرف على الفيلم الأضعف في شباك تذاكر السينما الأحد (تفاصيل)    جولة غنائية عالمية.. هيفاء وهبي تستعد لطرح ألبومها الجديد    هل المولد النبوي الشريف عطلة رسمية في السعودية؟    البحوث الفلكية : غرة شهر ربيع الأول 1447ه فلكياً الأحد 24 أغسطس    إصلاحات شاملة لطريق مصر - أسوان الزراعي الشرقي في إسنا    هل يتم تعديل مواعيد العمل الرسمية من 5 فجرًا إلى 12 ظهرًا ؟.. اقتراح جديد في البرلمان    تحذير رسمي.. عبوات «مجهولة» من «Mounjaro 30» للتخسيس تهدد صحة المستهلكين (تفاصيل)    "العدل": على دول العالم دعم الموقف المصري الرافض لتهجير الفلسطينيين من أرضهم    الليلة.. عروض فنية متنوعة ضمن ملتقى السمسمية بالإسماعيلية    أكرم القصاص: مصر قدمت 70% من المساعدات لغزة وقادرة على تقديم المزيد    نسف للمنازل وقصف إسرائيلي لا يتوقف لليوم الثامن على حي الزيتون    الصحة العالمية تقدم أهم النصائح لحمايتك والاحتفاظ ببرودة جسمك في الحر    "كان بيطفي النار".. إصابة شاب في حريق شقة سكنية بسوهاج (صور)    الشيخ خالد الجندي: مخالفة قواعد المرور معصية شرعًا و"العمامة" شرف الأمة    بالصور- محافظ المنيا يتفقد الأعمال الإنشائية بمدرسة الجبرتي للتعليم الأساسي    "قصص متفوتكش".. 3 رصاصات تنهي حياة لاعبة سموحة.. وتحرك عاجل لبيراميدز    الفنانة مي عز الدين تخطف الأنظار فى أحدث ظهور من إجازتها الصيفية    بعثة يد الزمالك تطير إلى رومانيا لخوض معسكر الإعداد للموسم الجديد    اليوم.. الأهلي يتسلم الدفعة الأولى من قيمة صفقة وسام أبو علي    الديهي يكشف تفاصيل اختراقه ل"جروب الإخوان السري" فيديو    المكتب الإعلامي الحكومي بغزة: دخول 266 شاحنة مساعدات منذ الجمعة والاحتلال سهل سرقة معظمها    رضا عبدالعال: خوان ألفينا سيعوض زيزو في الزمالك.. وبنتايج مستواه ضعيف    أيمن الرمادي ينتقد دونجا ويطالب بإبعاده عن التشكيل الأساسي للزمالك    ضبط أطراف مشاجرة بالسلاح الأبيض في المقطم بسبب خلافات الجيرة    في يومها الثالث.. انتظام امتحانات الدور الثانى للثانوية العامة بالغربية    أسعار البيض اليوم الإثنين 18 أغسطس في عدد من المزارع المحلية    وفاة شاب صدمته سيارة مسرعة بطريق القاهرة – الفيوم    «متحدث الصحة» ينفي سرقة الأعضاء: «مجرد أساطير بلا أساس علمي»    مدرب نانت: مصطفى محمد يستحق اللعب بجدارة    انطلاق امتحانات الدور الثاني للشهادة الثانوية الأزهرية بشمال سيناء (صور)    إسرائيل تقر خطة احتلال مدينة غزة وتعرضها على وزير الدفاع غدا    وزارة التعليم: قبول تحويل الطلاب من المعاهد الأزهرية بشرط مناظرة السن    قوة إسرائيلية تفجر منزلا فى ميس الجبل جنوب لبنان    أسفار الحج 13.. من أضاء المسجد النبوى "مصرى"    سامح حسين يعلن وفاة نجل شقيقه عن عمر 4 سنوات    مواجهة مع شخص متعالي.. حظ برج القوس اليوم 18 أغسطس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في حوار ينشر لأول مرة
حياة نجيب محفوظ بين القراءة والكتابة
نشر في الأهرام اليومي يوم 09 - 12 - 2011

في نهايات‏1998‏ طلب مني الصديق العزيز الكاتب الكبير سلامة أحمد سلامة حوارا موسعا مع أديبنا الأكبر نجيب محفوظ للعدد الأول من مجلة وجهات نظر أثناء الاستعداد لإصدارها‏.‏ ووافق الأستاذ نجيب محفوظ. لكن حالته الصحية لم تكن تسمح بإجراء حوار قد يمتد لساعات في جلسة واحدة, يستعرض فيه علاقته بالقراءة والكتابة منذ بداياته, لذا اتفقنا علي إلحاقه بلقاءنا الدائم مساء كل سبت الذي نجري فيه حديث الأهرام الأسبوعي, بأن نضيف إليه بعض الوقت لاستكمال حوار الكتب.
واستغرق الحديث وقتا أكثر مما كان مقررا له, فحين كنت أجد الأستاذ مرهقا أكتفي بحديث الأهرام, وفي فبراير1999 صدر العدد الأول من المجلة بدون الحوار الذي بقي مسجلا عندي بصوت أديب نوبل الكبير. ومنذ رحيل أديبنا الأكبر عدت إلي شريط الحوار, والشرائط الأخري التي سجلتها معه علي مدي الاثني عشر عاما الأخيرة من حياته وهي تزيد عن500 ساعة, لكني كلما سمعت صوته دفعتني شدة الانفعال إلي إيقاف التسجيل وإعادة الشريط إلي مكانه.
والآن بعد مرور أكثر من خمس سنوات علي رحيل نجيب محفوظ, وفي مئويته الأولي الاستثنائية التي تحل بعد غد, رأيت نشر الحديث لأول مرة في الأهرام, وسأضمنه مع وثائق أخري لم تنشر من قبل في كتاب في حضرة نجيب محفوظ, الذي طلبته الدار المصرية اللبنانية لهذه المناسبة, وسأهدي الشريط ومدته90 دقيقة مع متعلقات أخري- إلي متحف نجيب محفوظ الذي أعلنت وزارة الثقافة أنها ستقيمه, ليكون صوته متاحا لعشاقه بجانب أوراقه وكتبه.
هل تذكر يا أستاذ نجيب أول كتب قرأتها؟
نعم أذكرها جيدا. أول كتاب قرأته كان في المرحلة الابتدائية, ربما كنت في السنة الثانية أو الثالثة في عام1922 أو1923, ورأيته مصادفة مع زميلي في المدرسة يحيي صقر, الذي كنت أعتز بصداقته, وكان من عائلته لاعب الكرة المشهور آنذاك عبد الكريم صقر, وكنت أنا وقتها من المولعين بالكرة, وأذكر أنني في الفسحة وجدته يقرأ الكتاب, فسألته عنه فقال إنها رواية بوليسية ووعدني أن يعطيها لي لأقرأها بعد أن ينتهي منها, وظللت أسأله عن الرواية كلما رأيته, وكأنها الوحيدة في العالم, وفي النهاية أعطاها لي, وما زلت مدينا له بذلك, لأني من ذلك الوقت وحتي توقفت عن القراءة قبل بضع سنوات لضعف نظري, وأنا بي نفس الشغف للقراءة الذي تولد عندي بسبب تلك الرواية البوليسية التي لا قيمة لها, ومن وقتها ظللت مستمرا في قراءة الكتب بشكل منتظم.
هل من قبيل المصادفة وأنت الروائي العربي الأكبر أن يكون أول كتاب تقرأه في حياتك رواية؟
( ضاحكا) أحمد الله أنه لم يكن كتابا في علم الحشرات وإلا ربما تشكل مستقبلي بطريقة أخري.
هل تذكر اسم تلك الرواية ؟
بالطبع.. كانت رواية بوليسية مترجمة من سلسلة ابن جونسون.
وهي كانت سلسلة بوليسية شهيرة آنذاك وكان يترجمها حافظ نجيب, وكنا نقرأها ونحن أطفال, ففي ذلك الوقت لم تكن هناك كتب لصغار السن, وكان أقرب شيء يصلح لنا الروايات البوليسية, وبعد عشرات من الروايات التي كان بطلها جونسون, وزاد عددها عن العشرين انتهت السلسلة, لكن نجاحها دفع حافظ نجيب إلي إصدار سلسلة جديدة عن ابن البطل أسماها ابن جونسون, والحقيقة التي اكتشفتها لاحقا أنه لم تكن هناك سلسلة باسم ابن جونسون, لكن المترجم أراد استثمار نجاح السلسلة بعد انتهائها, ولما كان بطلها جونسون قد مات في الرواية الأخيرة رأي حافظ نجيب استكمالها بأن جعل للبطل ابنا يمكنه من إصدار الروايات, أي أنه كان يؤلف هذه الروايات كما علمت بعد ذلك, لكنه كان يضع عليها عبارة ترجمة حافظ نجيب لأن القراء كانوا يحبون الروايات البوليسية المترجمة والتي لم يكن في مصر من يكتبها, وكانت أحداث روايات جونسون تجري في فرنسا باعتبار المؤلف فرنسيا, لكن حافظ نجيب نقل أحداث روايات ابن جونسون إلي أمريكا اللاتينية. الطريف أنني في ذلك الوقت لم أكن أعرف جونسون ولا ابنه, لكني حين عرفت الابن في الرواية الأولي, وبقية سلسلة ابن جونسون, عدت إلي السلسلة السابقة عليها الخاصة ب جونسون نفسه, ثم توصلت بعد ذلك إلي سلاسل أخري ل ملفيل توب وروكامبول وغيرهما, وعن طريق كتب الأهرام المترجمة بدأت دائرة قراءتي تتوسع حيث كنت أتابع إعلانات هذه الكتب بالجريدة, وأسارع بشرائها ولم أعد بحاجة لاستعارة الكتب من صديقي العزيز يحيي صقر.
مع أي كتاب كانت المحطة الثانية؟
كتب المنفلوطي كانت المحطة الثانية,فانقلبت معي القراءة إلي مسألة جدية وليست مجرد تسلية, لأني كنت وصلت إلي مرحلة التشبع بالروايات البوليسية, وبدأت أسأل حولي عن شيء يقرأ فقيل لي المنفلوطي..
من دلك إلي المنفلوطي ؟
قريب لي كان يزورنا ولمست فيه اهتماما بالقراءة, ورشح لي كتابا كان قد صدر حديثا متضمنا أغاني الشيخ سلامة حجازي من أوبريت روميو وجولييت, وكتب المنفلوطي, وقرأت أغاني الأوبريت بسرعة, لكني أبحرت بعيدا جدا في كتابات المنفلوطي حيث شردت في كتبه وغرقت لدرجة لا تتخيلها, لقد كان انبهاري بأسلوبه الأدبي السبب الرئيسي في الابتعاد عن القسم العلمي الذي كنت أنوي الالتحاق به, واتجهت إلي القسم الأدبي, مع اني كنت متميزا في الرياضيات والعلوم, لكنني فجأة وجدت نفسي أترك كل هذا تحت سحر كلمات هذا الأديب العظيم وأذهب إلي القسم الأدبي, وكان ذلك قرارا خطيرا بالنسبة لي وللأسرة ولمستقبلي, لكنني كنت مقتنعا به, فقد كان المنفلوطي يتحدث عن القراءة والكتابة بقدسية شديدة بحيث لم يعد هناك شيء في نظري يعلو علي أي منهما.
هل تذكر أول كتاب قرأته للمنفلوطي؟
أعتقد أنه كان مقدمة النظريات, وأتذكر جيدا أنني قرأت ماجدولين مثلا ما لا يقل عن عشر أو خمسة عشر مرة.
لكن في تلك السن المبكرة الم تكن لغة المنفلوطي صعبة عليك, وهي التي تستعصي إلي اليوم علي بعض خريجي الجامعة؟
كانت في ذلك الوقت لغتنا العربية جيدة. ومع السنوات توالت قراءاتي, فعرفت بعد ذلك جيل الرواد الذي أدين له بالكثير, العقاد وطه حسين والمازني ومحمد حسين هيكل, وبعدهم توفيق الحكيم ويحيي حقي.
هل تذكر أول مرة قرأت فيها للعقاد ؟
كنت أعتبر عباس محمود العقاد كاتب الوفد, وذات يوم قرأت إعلانا عن ديوان شعري له, وسألت والدي: هل يمكن أن يكون العقاد كاتب الوفد هذا شاعرا؟, فقال لي ولم لا؟, فسارعت بشراء الديوان الذي أذكر أنني قرأته عدة مرات وكثيرا ما كنت أعود إليه, وهكذا انفتح الباب أمامي علي طه حسين والمازني وهيكل.
هل يمكننا القول إن الرواية البوليسية كانت دافعك لكتابة الرواية, واكتسبت منها الحبكة, وأخذت عن المنفلوطي اللغة والأسلوب الأدبي الذي كانت تفتقر إليه الرواية البوليسية؟
أعتقد ذلك, فقد تأثرت كثيرا بلغة المنفلوطي وبأسلوبه البليغ, ولقد كان المنفلوطي يقوم بالترجمة هو الآخر, لكنهم كانوا يترجمون له الرواية ثم يعيد كتابتها بأسلوب أدبي, كما إنني أخذت عنه أيضا الجانب الأخلاقي الذي أصبح له في كتاباتي بعد ذلك وجودا واضحا, وأعمال المنفلوطي كان البعد الأخلاقي فيها كبيرا, ورغم أن بعض موضوعاتها كانت أجنبية مثل رواية ماجدولين إلا أن روحها كانت إسلامية. إن كتاب ذلك الجيل من الرواد كان يغلب عليهم الفكر والنقد, وكل منهم أعطي مثالا برواية أو اثنتين أو بمجموعة قصصية, وهذا أقنعني أن الأدب وسيلة للفكر, لذلك حين وصلت لمرحلة اختيار تخصصي الدراسي اخترت الفلسفة.
أي إخترت الفلسفة بدافع حبك للأدب؟
نعم
لكن هذا عكس التصور السائد بأنك درست الفلسفة قبل أن تعشق الأدب؟
الحقيقة أنني عشقت الأدب قبل الفلسفة, لكني عشقت فيه الفكر لدرجة تصورت معها أن الفلسفة ستكون عملي الرئيسي, وأن الأدب سيكون عشقي, مثلما يعشق المرء الموسيقي أو السينما, لذلك كانت أغلب كتاباتي في الصحف والمجلات أثناء دراستي الجامعية في الفكر والفلسفة, وكنت أكتب المقالات واحدة وراء الأخري, ثم أستريح بكتابة قصة قصيرة, واستمر هذا الحال إلي أن تخرجت, وبعد سنتين طغي عشقي للأدب واستحوذ علي بدرجة كبيرة فأصبحت في أزمة وكان علي أن أختار, إما الأدب أو الفلسفة, أحدهما للحرفة والآخر للثقافة العامة, وكما قال جان بول سارتر الاختيار عذاب, وبالفعل كانت فترة عذاب بالنسبة لي, لكني في النهاية اخترت الرواية, وبعد أن أعددت نفسي للفلسفة واشتريت كثير من المراجع, وبدأت أنشر مقالاتي بصفة شبه منتظمة, وجدت أن القصة كانت تنغز وأخذ نغزها يزداد مع الوقت, ولم تعد تكتفي بأن أعود إليها كلما أردت أن أستريح قليلا من كتابة المقالات, وبدأت أدرس الرواية وانكببت علي قراءة برنامج متكامل من الروايات العربية والعالمية حتي ما كنت قرأته من قبل أعدت قراءته بعين جديدة, قراءة تحليلية ومنظمة, وتابعت عصور الرواية من بداياتها, وتطورها من دولة إلي أخري, فكنت أقرأ الرواية الروسية مثلا بكبار فرسانها, ثم الرواية الفرنسية أو الإنجليزية.. وهكذا, ونظرا لأن عدد الكتب التي كان علي قراءتها كان كبيرا فقد كنت أقرأ الكتاب مرة واحدة فقط, حتي الكتب التي كانت تعجبني كنت بدلا من أن أقرأها ثانيا كما كنت أتمني, كنت أقرأ بدلا منها كتابا جديدا, هذا طبعا باستثناء القرآن الكريم الذي يعتبر الكتاب الوحيد الذي كنت أعود إليه كثيرا, وحتي يومنا هذا فإني كثيرا ما أعود لقراءة القرآن.
وهل قرأت الكتب السماوية الأخري؟ إن من يقرأ أولاد حارتنا يشعر أنك قرأت الإنجيل والتوراة ؟
الحقيقة أنني عدت إلي الإنجيل والتوراة وأنا أكتب هذه الرواية وقد أفاداني بالفعل, وانا كنت قد قرأتهما من قبل, لكن قراءتي الثانية لهما كانت دراسية لأستفيد بهما في الرواية, وقرأت في أديان ليست سماوية أيضا, مثل الكونفوشية والبوذية.
متي بدأت تنشر القصص بدلا من المقالات؟
مع قراري الاتجاه للأدب بدأت أكتب قصصا أكثر من ذي قبل, وكنت أنشرها في المجلات الأدبية التي كانت منتشرة آنذاك مثل المجلة الجديدة الأسبوعية والشهرية والرسالة والرواية التي كان يصدرها الزيات والمعرفة التي كان يصدرها الإسلامبولي, وقبل ذلك كنت أكتب قصصا بجانب المقالات, لكن لأني لم أكن منتظما لم يكن أحد يعرفني ولم تكن تلك المجلات تقبل النشر لي, فكنت ألجأ إلي الجرائد القضائية وهذه كانت تنشر أساسا أحكام المحاكم, ولكن لكي يحصل صاحبها علي رخصة إصدار فقد كان يخصص صفحة يكتب بها أي شيء حتي لا يقال إنه يسترزق من الأحكام دون أن يكون بالجريدة أي مادة صحفية, فكنت أتصيد هذه الجرائد وأرسل لها مقالات وقصصا, وكانوا يرحبون جدا بهذه المادة المجانية التي لم تكن تكلفهم شيئا.
لكن هل كنت تتقاضي أجرا عن كتاباتك في أي من تلك الإصدارات ؟
لا في الجرائد ولا غيرها, فحتي المجلات الأدبية الكبري لم تكن تدفع شيئا, وكان الأجر الحقيقي هو النشر, والتواجد علي الساحة الثقافية, وهذا لم يكن يضايقني, فقد كنت موظفا لي راتب شهري يكفيني. ولاحقا حين بدأت أتلقي أجرا حدثت مشكلة,
فاذكر أن الأستاذ صلاح ذهني كان مسئولا عن مجلة الثقافة ودعاني لنشر قصصي فيها, وقال: إن مجلة الثقافة أخت الرسالة, فأرسلت له قصة أحدثت عندهم أزمة, فقد كانوا يتبعون نظاما ثابتا لم أكن أعرفه, وهو أن من ينشر لأول مرة يحصل علي جنيه واحد, أما الأساتذة الكبار فيحصلون علي جنيهين أو ثلاثة, لكنهم أثناء عمل الحساب الختامي للمجلة وجدوا فائضا في الميزانية قدره جنيها واحدا, فحدث إشكال وأتوا بالمحاسب وطلبوا منه أن يبحث قصة هذا الجنيه الذي يشير إلي خلل في الميزانية, وبعد البحث والمراجعة وجدوا أنه الجنيه الخاص بقصتي والذي لم أكن قد قبضته متصورا أن النشر ببلاش مثل باقي المجلات, فالقاعدة وقتها هي البلاش, لكن صلاح ذهني اتصل بي قائلا: يا أخي لقد سببت لنا دوشة في المجلة, فلك عندنا جنيها, سألته: جنيه إيه؟ فقال: أجر القصة, فقلت: وهل القصص لها أجر؟!, وكان الجنيه الأزمة هذا أول أجر أتقاضاه, وأنفقته بالكامل علي شلة العباسية الذين دعوتهم جميعا علي العشاء.
معقولة عشاء لشلة كاملة بجنيه واحد ؟!
نعم, كان الجنيه يكفي عشاء20 فردا, فقد كانت وجبة الكباب بأربعة قروش والسلطات كانت مجانية, وتخيل ما كان بمقدورك أن تفعله بالجنيه.
متي كان ذلك تقريبا ؟
لا أتذكر علي وجه التحديد, ربما في عام1935 أو.1936
هل كنت تحتفظ بالكتب التي كنت تقرأها؟
كنت أحتفظ بها لفترة ثم أقوم بعد ذلك بتوزيعها لأنها لم تكن مهمة في ذاتها, فحين بدأت أقرأ الكتب الجديدة أدركت أن الكتب البوليسية الأولي كانت للتسلية فقط.
وبعد جيل الرواد قرأت لمن؟
قرأت لتوفيق الحكيم ويحيي حقي, وحين وضعت لنفسي برنامجا للقراءة, قرأت الأدب العالمي, الإنجليزي والفرنسي والإغريقي القديم. لقد تكونت عقليتي الأدبية من الكتب والمقاهي, فالناس الذين عرفتهم أو شاهدتهم في المقاهي وفي الحواري التي عشت بها كانت مكونا مهما لتفكيري, وكذلك الكتب التي صقلت قدراتي الأدبية, فالكتب بجانب كونها متعة أساسية لي, كانت تعطيني الخلفية النظرية للرواية وأسلوب كتابتها والأسلوب والبناء الفني, فقد قرأت كل أنواع الأدب من الرومانسي والواقعي إلي التعبيري والعبثي, إلي أن توقفت أمام ما يسمي بالحداثة التي لم أجد من يشرحها لي إضافة إلي توقفي عن كتابة الرواية, أما المقاهي فتعطيني الشخصيات والمشاكل, وكنت لقاطا, أجلس أدخن الشيشة وأذني تستمع كل كلمة,( أشار الأستاذ إلي أذنه اليسري التي بها جهاز السمع) وقال لم تكن هذه أذني آنذاك, كنت في جلسة المقهي أشاهد الناس وحركتها, فأي مشهد يمكن أن لاستخدامه في رواية.
كيف كنت تنظم وقت قراءاتك؟
أساس التنظيم عندي عملي كموظف, فالحكومة كان لها في يومي ساعات محددة من الثامنة صباحا إلي الثانية بعد الظهر, وهذا وضع لم يكن يقبل المناقشة, وعلي أيامنا لم يكن هناك تزويغ, كان علينا جميعا أن نوقع في الساعة عند الحضور والانصراف, لذا لم يكن ممكنا أن أبدأ حياتي كأديب قبل الرابعة بعد الظهر, فبعد الغذاء أتسلطح شوية, وكنت أنظم وقتي بحيث أكتب ثلاث ساعات يوميا, ما عدا الخميس والجمعة حيث كنت أذهب لاستلهام المادة من المقاهي والشوارع, وهناك من انتقدوا النظام, لكني بدون هذا النظام ما كنت أنجزت شيئا, والحقيقة أن الوظيفة كانت أساس هذا النظام.
ألم تكن للوظيفة فائدة أخري في حياتك غير أنها نظمت وقتك ؟
لا. بل أفادتني أيضا في المادة الروائية تماما مثل المقاهي وأعطتني نماذجا كثيرة لبعض الشخصيات التي صورتها في رواياتي.
وما أهم الموضوعات التي كنت تقرأ فيها بانتظام ؟
أولا الأدب لأنه تخصصي, وكنت أحب الثقافة العلمية والكتب العامة في السياسة, في الحضارة.. إلخ, فالمعرفة كانت تشكل عندي مشكلة لأني كنت كمن أمامه محيط ويريد أن يشربه كله ولا يقدر.. ولا يقدر, فلم تكن لدينا وسيلة للمعرفة إلا القراءة, كانت هي الأساس, قراءة المجلة والكتاب.
وما البرنامج الذي وضعته لنفسك في قراءة الأدب؟
لقد سألت نفسي: هل أقرأ بالتسلسل الزمني, أي أبدأ بالقديم ثم الأحدث إلي أن أصل إلي الحاضر؟ لكني قلت إذا بدأت بالفرعوني ثم الإغريقي وهكذا, قد ينتهي العمر قبل أن أصل إلي القرون الوسطي, وفضلت أن أبدأ بالحديث وأعود إلي الماضي, لذلك كان من أوائل الروايات التي قرأتها ضمن برنامجي هذا رواية عوليس لجيمس جويس والتي كانت هي آخر مدرسة في ذلك الوقت بما اعتمدت عليه من تيار الوعي ومن بناء جديد تماما للرواية, ثم عدت بعد ذلك إلي بينت وجالزورثي, وكذلك في الفرنسية قرأت مارسيل بروست وأندريه موروا وغيرهم كثيرين, وكنت أبحث عن الرواية مترجمة إلي العربية فإذا لم أجدها أقرأ الترجمة الإنجليزية فإذا لم أجدها أجازف وأقرأها بالفرنسية.
هل كنت تقرأ الإنجليزية والفرنسية بسهولة؟
الإنجليزية لم تكن تشكل لي مشكلة, أما الفرنسية فقد كنت أقرأ بها مراجع الدراسة ولم يكن ذلك صعبا, لكن الأدب لغته أصعب, وإن كان هناك بعض الأدباء الفرنسيين الذين كانت لغتهم لا تستعصي علي مثل أناتول فرانس الذي قرأت أعماله بالفرنسية دون عناء, بل دعني أقول لك إنه كان أسهل من بعض العرب, فقد كان أسهل علي أن أقرأ أناتول فرانس بالفرنسية عن أن أقرأ الزيات بالعربية الذي كانت لغته رفيعة جدا وقوية جدا, أما فرانس فكانت لغته تنساب كالماء السهل الرقراق. لكني قرأت بلزاك وفلوبير ثم سارتر وكامي إلي أن وصلت إلي الرواية الجديدة التي كانوا يسمونها الرواية الضد, لكنها للأسف, رغم المجهود الكبير الذي بذلته فيها كانت المدرسة الروائية التي لم أستطع التعامل معها, قرأت ل آلان روب جرييه وناتالي ساروت وميشيل بوتور وغيرهم, لكني لم أستوعب ما كتبوه, الوحيدة التي كنت أستمتع بها كانت مارجريت دوراه والتي أعتقد أنها روائية كبيرة حقا ولست أفهم لماذا يتم تصنيفها مع كتاب الرواية الضد, أما في الرواية الألمانية فقد أعجبني توماس مان جدا, كما أني أعجبت بأشعار شيللر, وقرأت أيضا للإيطاليين من دانتي حتي ألبرتو مورافيا, وقرأت لمجموعة من الكتاب الذين كانوا يقاومون الفاشية وإن كنت لم أعد أتذكر أسماءهم الآن.
وماذا عن الرواية الروسية؟
الله علي الأدب الروسي الله!..( سرد أسماء كتابها بسعادة واضحة) دوستويفسكي وترجنيف وتولستوي وتشيخوف, إن الأدب الروسي أجمل الآداب جميعا لأنه أقربها لنا أفقا وموضوعا وفلسفة.
من الكاتب الذي تأثرت به أكثر؟
أنا لم أتابع كاتبا واحدا بشكل متصل حتي أتأثر به, فقد كنت أجيء لكل كاتب وأبحث عن رائعته الأشهر فأقرأها ثم أنتقل إلي رائعة الكاتب التالي وهكذا.
في الأدب العربي كنت أنت أكثر من طور الرواية علي مدي ما يقرب من قرن كامل منذ ثلاثينيات القرن العشرين, ما حدا بالمستعرب الأمريكي الكبير روجر آلان أن يقول إنه أصبحت هناك مدرسة روائية عربية بفضلك.. فما هي الرواية في نظرك؟
الرواية بكل بساطة هي حكاية, تقدم من خلالها شخصيات وقضايا اجتماعية أو نفسية أو فكرية, والرواية لها دائما فكر, فالرواية كما أعرفها هي الفكرة والشخصيات والسرد.
إذا اختفي أحد هذه الأركان الثلاثة هل تختل الرواية ؟
لا أتصور مثل هذه الرواية, مع احترامي لكل تجارب القرن العشرين التي حاولت ذلك, وتلك محاولات لا أستطيع أن أحكم عليها لأني لم أدرسها بالقدر الكافي بسبب امتناعي عن القراءة في سنواتي الأخيرة. لقد توقفت عند تيار الوعي الذي جسده جيمس جويس وتعبيرية كافكا والمدرسة السوريالية, لكن دعني أقول لك إن قيمة أي قالب فني هو إنسانيته, أي في قدرته علي التعبير عن الإنسانية جمعاء, والرواية كما عرفتها بأشكالها التقليدية عبرت عن كل ما يمكن التعبير عنه, فقد عبرت عن الفرد, وهناك روايات تدور حول شخصية واحدة, أو عن الثنائية أو أسرة أو شارع أو مدينة أو قارة كما فعل دوس باسوس الذي كتب عن أمريكا اللاتينية أو عن العالم ككل كما فعل جورج أورويل في رواية1948, أي أنها استوفت عملها تماما في التعبير عن كل شيء من الفرد إلي الإنسانية جمعاء.
قالت جائزة نوبل في حيثيات منحك أكبر جائزة أدبية في العالم أنك من خلال أعمالك التي ذخرت بالإيحاءات التي تراوحت ما بين الواقعية الصريحة والغموض الموحي صنعت فنا روائيا عربيا يعبر عن الإنسانية جمعاء؟
كعادته كلما امتدحه أحد سكت الأستاذ ولم يجب.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.