حوار: محمد هزاع يوسف الشاروني ( 14 اكتوبر 1924) هو إحدي العلامات البارزة في الحركة الثقافية المصرية، باعتباره من الرواد الذين أسهموا في تغذية الوجدان العربي والمصري بكل الألوان الفكرية، بالبحث عن الجذور الأصيلة للتراث الأدبي، لاسيما في مجال العجائب والغرائب التي عرفها الرحالة العرب، الأمر الذى فتح النافذة أمام المعرفة لأماكن مهجورة في حياتنا الثقافية. تمتد رحلة الشاروني الأدبية إلي أكثر من نصف قرن، بدأها بالقصة القصيرة في الأربعينيات من القرن العشرين، ثم تلاها بما اطلق عليه "النثر الغنائي" في (مسائه الأخير) 1963 وكان سباقا لما عرف فيما بعد بقصيدة النثر. وما لبث أن خطا خطوته الثالثة نحو الدراسة الأدبية (1964) أو ما أطلق عليه "القراءة الايجابية". وكما تميزت قصصه بخصوصيتها فقد تميز نقده أيضا الذي ينتقل به من الفعل الارادي إلي الفعل الاندماجي ويصبح عنده العمل النقدي عملا إبداعيا شأنه شأن القصة. توصل أحد الأبحاث المقدمة عن أعمال الشاروني لينال درجة الماجستير الي أنه استطاع أن يحدث تحولا كبيرا في القصة القصيرة المصرية علي مستوي الشكل والمضمون، فمنذ أن بدأ رحلته مع الكتابة في منتصف الأربعينات من القرن الماضي وحتي الآن لم يتوقف عن محاولاته الجريئة في التجريب و التجديد معتبرا أن كل عمل ابداعي يكتبه ما هو الا محاولة جديدة في التكتيك وأيضا تمرد علي الأساليب التقليدية في القص مما جعل منه رائدا لهذا التطور وهذا التجديد. حصل علي ليسانس الآداب قسم الفلسفة جامعة القاهرة عام 1945. تدرج بالعمل في المجلس الأعلي لرعاية الفنون و الآداب والعلوم الاجتماعية (المجلس الأعلي للثقافة الآن) حتي أصبح وكيلا للوزارة به. ترجمت قصصه الي كثير من اللغات الاجنبية، وعمل استاذا غير متفرغ لمادة النقد الأدبي بجامعة القاهرة، كما عمل استاذا للترجمة. بعد هذا المشوار الأدبي الطويل للأديب الكبير يوسف الشاروني تري عزيزي القارئ كيف يحدثنا عن العوامل المختلفة التي وجهته الي الأدب ومتي بدأ الكتابة، وكيف اهتدي الي كتابة القصة علي نحو خاص؟ اذكر انني بدأت أتعامل مع الكتب في وقت مبكر ، ربما كان في سن الثالثة عشرة، في إجازة الصيف، مابين الأولي والثانية الثانوية (لم تكن هناك وقتئذ مرحلة إعدادية)، أذكر أن تدريس مناهج الأدب العربي، كان يعكس ما هو مقرر الآن، فتبدأ بالترتيب التاريخي، أي من العصر الجاهلي إلي الحديث، ووجدتني شغوفا في هذه السن بالأدب العربي، وكانت عند والدي مكتبة تجمع بين الناحيتين الدينية والأدبية، ومن أهم الكتب التي استوقفتني كتاب «كليلة ودمنة» وكتاب «مجاني الأدب في حدائق العرب» للأب لويس شيخو اليسوعي، وهو كتاب يضم مختارات من النوادر العربية الطريفة ومقطوعات من الشعر العربي، كنت أحاول أن أحفظها، وقد انعكست هذه القراءة في محاولاتي في مابعد لصياغة النادرة العربية بأسلوب معاصر في ما أطلق عليه «قصص في دقائق» أو قصص قصيرة جدا» ، إذ كانت هذه محاولة لربط القصة العربية الحديثة بجذورها القديمة عن طريق استلهام النادرة العربية، كما أنه كان من بين الكتب في مكتبة والدي كتاب «سياحة الحاج» المترجم عن الإنجليزية لجون بونيان الذي كتبه في القرن السابع عشر الميلادي، وفيه يروي قصة سياحة المؤمن في عالم الظلام، من أجل الوصول إلي المدينة السماوية بعد تغلبه علي مجموعة من المغريات والعقبات، يعبر نهر النسيان (أي الموت) ثم تلحق به زوجته وأولاده في الجزء الثاني من الكتاب. وقد ألحت علي فكرة السياحة، ومايبذل فيها من مجهود من أجل الوصول إلي الهدف في كل من قصصي ودراساتي، وهو هدف متواضع في العصر الحديث، حتي أصبح يتصل بمطلب الحياة الضرورية كالحب والعمل والسكن. وفي السنوات التالية، بدأت أقرأ ماكان يسمي سلسلة «روايات الجيب» وهي تتراوح بين روايات بوليسية، وأخري بأقلام كبار الكتاب العالميين مثل تولستوي، وديستويوفسكي، وهول كين، ورايدر هاجرد، وموريس لابلان، وآرثر كونان دويل، وكنت أدون في مفكرة صغيرة كل كتاب أقرأه، وعدد صفحاته، حتي أعرف حصيلة ما قرأت في نهاية الإجازة الصيفية، وأذكر أنها وصلت في إحدي الاجازات إلي ثمانين كتابا. وقبل دخولي الجامعة، كنت قد بدأت أقرأ عن طريق المكتبات العامة، ومكتبة الجامعة الأمريكية في القاهرة، التي كنت طالبا بالقسم العربي فيها، والذي ألغي في ما بعد، لكتابنا العرب المعاصرين مثل طه حسين، والعقاد، وميخائيل نعيمة، وسلامة موسي، ومحمد حسين هيكل، وحسين عفيفي المحامي، وتوفيق الحكيم، وإبراهيم المازني، وترجمات في «المقتطف» من شعر طاغور، كما كنت أقرأ في هذه المجلة المقالات العلمية، التي كان يكتبها في المقدمة، فؤاد صروف، عن التركيب الذري والنظرية النسبية وغيرها، وفي المرحلة الجامعية اتسعت اهتماماتي الفنية بحيث شملت الفنون التشكيلية والموسيقي، فتعرفت علي الموسيقي الغربية، عن طريق جماعة الجرامافون التي كان يشرف عليها الدكتور لويس عوض أستاذنا في اللغة الانجليزية في كلية الاداب. هل تري أن صلتك بالريف كانت قوية في أدبك؟ صلتي بالريف انعكست علي بعض ماكتبت، وترجع إلي أننا كأسرة كنا نقضي عطلاتنا الصيفية في قريتنا «جزيرة شارونة» في محافظة المنيا في صعيد مصر، حيث موطن جدي وجدتي لأمي، ولم يكن ارتياد شاطئ البحر المتوسط قد أصبح عرفا بعد في مصر الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وقد وصفت هذه الجزيرة الريفية في قصتي «الثأر» حيث كانت شبه جزيرة طوال فصول الخريف والشتاء والربيع، تحيطها مياه النيل من كل جانب ماعدا جهة واحدة يكون المجري فيها خلال هذه الفصول مليئا بالرمال الناعمة، يتيح الأطفال القرية اللهو فيه بأمان لاسيما في الليالي القمرية، ثم يأتي فيضان النيل كل صيف، كان ذلك قبل بناء السد العالي، فيركب الجزيرة علي حد تعبير أهلها، ويمتلئ الخور بالماء لتصبح شبه الجزيرة جزيرة مهددة بالغرق، وان لم تعد مهددة بلصوص الجبل الذين يغيرون عليها من خلال الخور الجاف، خلال الفصول الثلاثة الأخري. ومازلت أذكر كيف كان شباب القرية، بل وصبيانها يقومون علي حراسة ما أقاموه من جسور حول قريتهم خوفا من غدر ماء الفيضان وتسلله إلي بيوتهم، ويجعلها من أخصب الأراضي الزراعية. وفي هذه الزيارات الصيفية، استمعت إلي أساطير القرية ومواويلها واستمتعت بها، ومخاوفي ومخاوف أهلها وقلقهم وكفاحهم وطموحاتهم. وعايشت أعراسهم وأفراح ختان أطفالهم وأحزان فراق أحبابهم، وبهذا، اكتملت في وجداني معايشة مصر في طفولتي حيث تختزن كل الذكريات في ما تحت الوعي، ريفها مثل حضرها. باعتبارك تجاوزت الآن الخامسة والثمانين، حيث كرمتك وزارة الثقافة بإصدار معظم أعمالك التي امتد إبداعها إلي أكثر من نصف قرن تري لو أتيح لك أن تعيد النظر بهذا الانتاج الكبير هل تجد نفسك راضيا عنه أم لا؟ في لقاء مع الأديب الشاعر فاروق شوشة في إحدي أمسياته الثقافية التي كان يذيعها التليفزيون المصري، كشف لي من خلال مجموع ما وجهه لي من أسئلة خريطة رحلة حياتي الأدبية مابين إبداع قصصي ودراسات أدبية وديوان من النثر الغنائي، واهتمام بتراثنا العربي وبعض الترجمات، تشكل أكثر من خمسة وخمسين كتابا علي مدي أكثر من نصف قرن. والواقع أني لا أفكر لحظة في رضائي أو عدم رضائي عن هذا الإنتاج، لأنه بالنسبة إلي يكاد يكون نشاطا بيولوجيا، شأنه في ذلك شأن الطعام والنوم، ولكن من يحاورونني هم الذين يوقظون في حياتي هذا التساؤل. وهو تساؤل أشعر أنه يخص المحاور أكثر مما يخصني وأن عليه هو أن يجيب عليه، أما أنا فماض في حياتي، مؤمن أن الطموح الإنساني لاحدود له، لهذا قلما يرضي الإنسان بما وصل إليه، ان مايتحقق في حياة إنسان، هو مقدار ماقطعه من طريق في سبيل الوصول إلي غايته السرابية، لقد قررت في بداية حياتي أن أمارس الأدب كمجرد هواية، أركبها ولا تركبني، بمعني أن أترك نفسي علي سجيتها. لم تنج قصصك من «الكابوسية» التي تجثم علي صدور أبطالك، إلي أي حد أردت بذلك أن تعبر عن الواقع ؟ هذا صحيح، فالضغوط التي ينوء بها الإنسان المعاصر، تستحيل في قصصي إلي أسقف منخفضة، وأشخاص مقوسين أو محرومين حتي من حرية التبول، وإلي عيون لزجة، ومطاردات واتهامات معلقة، وآذان تقطر منها الدماء، ورؤية لتاريخنا المعاصر من خلال مؤخرة مواطن، ويظل في رحلة بحث دائبة عن ضرورات الحياة وأولوياتها: حب، عمل، مسكن. لقد حطمت ضغوط الحياة قواعد المنظور، فتمخضت المرئيات وتقوست الشخصيات، ولم يعد اللامعقول بسبب داخلي مثل شخصيات إدجار آلن بو التي تكون علي حافة الجنون أو اللاشعور، أو تعيش في جو أسطوري مثل القلاع الخالية والقصور القوطية مما يجعل رؤاها أقرب إلي الهذيان، بل انقلبت الآية اليوم، إذ أصبح الإنسان العادي يعيش في عالم غير عادي، وبدلا من أن يكون تجاوز الواقع انعكاسا لرؤية إنسان شاذ لعالم سوي، أصبح اللامعقول انعكاسا للعالم الشاذ في رؤيا الإنسان السوي في حضارتنا، وهكذا لم يعد التمرد علي الواقع نابعا من ذات إنسانية مريضة تبرره، بل واقعا مريضا يدركه كل إنسان سوي، بل يجثم عليه، فكاتب مثل إدجار ألن بو تكمن إضافته في أنه يلقي عبء الشذوذ علي شخصياته وما يحيط بها من ظروف خاصة. دليلا علي أنه لايزال يحتفظ بإيمانه بسلامة العالم الخارجي. أما اليوم ، فإن ماتعانيه الشخصيات من مناخ كابوسي يرجع إلي مايقع في العالم لاسيما عالمنا الثالث من أحداث تجانب كل تفكير معقول أو منطق سليم. وعلي الرغم من هذا، فإنها غير عابئة بدهشتنا أو استنكارنا أو فزعنا، ولاحتي بتنبؤاتنا بمصير هذه التصرفات مهما أثبتت الأيام صحة هذه التنبؤات. وماذا عن رحلتك مع القصة وإضافاتك؟ بدأت الكتابة في أواخر الأربعينيات بعد 1945 وكانت الخلفية لكتابتي لها أربع نقاط: الأولي: التغيير الحضاري بعد الحرب العالمية الثانية وأبرزها الزحام بسبب تقدم الطب وانخفاض الوفيات بينما استمرت المواليد كما هي في الزيادة. الثانية: سرعة المواصلات المختلفة: تليفون، تلغراف، حيث أصبح من الممكن أن يتلقي الإنسان خبرين متناقضين «فرح حزن في نفس الوقت، فكان لابد من وجود أسلوب يستوعب هذه العواطف المتناقضة. الثالثة: كانت هناك المدرسة السريالية خصوصا في الرسم التي ظهرت جماعتها في مصر أثناء الحرب العالمية الثانية، وكانت قد ظهرت في أوروبا في الحرب العالمية الأولي. الرابعة: ثم كانت ورائي نكبة فلسطين مما أبرز مدي تخلفنا الحضاري وتوجسي الدائم من أن تتكرر مرة أخري وهو ماحدث في 1967ووجدتني اكتب بالاسلوب التعبيري، فقد كان الاسلوب التقليدي هو المستخدم في الكتابه عند محمود تيمور و محمود البدوي ويوسف جوهر. وعن اضافتك للكتابة الابداعية. ما أعتقد أنني أضفته: استخدام أكثر من ضمير، ( كان الضمير في القص واحدا: ضمير الغائب غالبا) استخدام أكثر من زمن «ماض حاضر مستقبل»، استخدام أكثر من مستوي شعوري.. من الصحو إلي الحلم إلي الكابوسي مثل قصة «هذيان». تحطيم قواعد المنظور.. من خلال رؤية العالم الخارجي.. من داخل الإنسان.. مثل قصة «الزحام» نجد أن الأسقف منخفضة في الأتوبيس وفي السكن تعبيرا عن الضغوط الاجتماعية التي يعيشها الناس، والناس يمشون مقوسين. ومثل قصة «سياحة البطل» فهو يبحث عن بيت يعثر علي مالكه في قهوة وكل العاملين فيها والداخلين والخارجين يعرجون. (التحام الشكل بالمضمون): كان هناك الاتجاه الذي يدعو إلي الاهتمام بالموضوع علي حساب الشكل وكان ذلك يشبه الخطب أو الوعظ في قصة «الزحام» حذفت حروف العطف وأسماءالوصل حتي تتلاصق الجمل تلاصق الناس في الزحام. وكتبت القصة الكونية.. إيمانا مني بأن أزمتنا أزمة حضارية وليست مجرد أزمة اجتماعية. «وقصة نشرة الأخبار» عن بيت انهار في إحدي حارات القاهرة وصاحبة المقهي في الحارة كانت تفتح الراديو علي نشرة الأخبار وكانت النشرة تتحدث عن الذين صعدوا إلي القمر.. بينما عندها بيت ينهار. كيف تري النقد الأدبي؟ النقد نوعان: (أ) نقد تنظيري: وهو تقسيم الأدب إلي مراحل طبقا لطريقة توصيله وهي خمس: المرحلة الشفاهية التي تخاطب الأذن وكانت تتضمن التدوين. ثم مرحلة المطبعة التي تخاطب العين. ثم مرحلة التليفزيون التي تخاطب العين والأذن. ثم مرحلة الشريط السمعي والبصري التي يعتمد التلقي فيها علي الأذن والعين كالتليفزيون لكنك تختار وقت التلقي كما يحدث مع الكتاب المسموع. ونحن مقبلون علي مرحلة شبكة المعلومات (الانترنت). (ب) نقد تطبيقي وهو مصادقة العمل الأدبي وقراءته أكثر من مرة حتي تصل إلي أسراره. ثم مقارنة العمل بالأعمال الأدبية المحلية المشابهة، مثال ذلك قصة «الجيل» لفتحي غانم قارنتها بيوميات نائب في الأرياف «لتوفيق الحكيم. توفيق الحكيم كان يسخر من المتهمين الأغبياء ورغم ذلك لم يحصل منهم علي اعتراف بينما فتحي غانم انضم فعرف من الذي يسرق الآثار في «قرية الجرنة» لكنه لم يبلغ السلطة. في الحالتين.. السلطة لم تعرف لكن المحقق لم يعرف في يوميات نائب في الأرياف بينما عرف في قصة الجبل. وثالثا مقارنة العمل بالأعمال العالمية إن وجدت ففي قصة الرجل الذي فقد ظله لفتحي غانم تتكامل آراء الشخصيات الروائية الأربع، بينما عند المسرحي بيراندلو لاتوجد حقيقة.. كل هذه القراءات حول العمل تنتج حالة وجدانية بيني وبين العمل، وهذه الحالة الوجدانية تخلق بدورها حالة إبداعية. وهل تهتم بالتراث الإبداعي والفكري؟ اهتم بالتراث لأنه جذور أي كاتب وهو ذاكرتنا ومن فقد ذاكرته فقد شخصيته. ثمة رأي أن التقدير المادي يجب ألا يكون هو المقياس الوحيد لدور المبدع في الحياة الأدبية؟ هذا صحيح فكل مايقوم به المبدع من التواصل والإصرار يلقي أثناء مسيرته الإبداعية ألوانا من التقدير لم يكن يحلم بها كما يلقي من العقبات والمحبطات ألوانا لايتصورها الآخرون ففي عام 1976 كنت ضيفا في برلينالغربية قبل توحيد ألمانيا مع الصديق الدكتور عبدالغفار مكاوي بدعوة من إحدي الهيئات العلمية ولما كانت الهيئة الداعية تصدر سلسلة كتب تنشر فيها بعض إبداعات مدعويها من الأدباء فقد اقترحت علي عبدالغفار أن يتقدم إلي المسئول عن هذه السلسلة بنشر بعض قصصنا المترجمة إلي الألمانية وطلب المسئول إمهالنا أسبوعين حتي تتاح الفرصة لاتخاذ قراره بالنشر لكننا فوجئنا في صباح اليوم التالي بالناشر الألماني يتصل بعبد الغفار ويبلغنا أن قصصنا شائقة فلم ينم حتي أتم قراءتها ودعانا لمقابلته لتوقيع عقد نشر الكتاب. في عام 1944 اتصلت بي الباحثة البريطانية كيت فيكتوريا ماكدونالد دانيلز بجامعة لندن تطلب تحديد موعد للقائها بالقاهرة حيث أنها تعد رسالة عن إبداعي القصصي وعندما تقابلنا سألتها من باب الفضول من أشار عليك بدراسة مشواري الإبداعي وكان د. صبري حافظ هو المشرف علي رسالتها فأجابتني لا أحد، قرأتك ورأيت أن إبداعاتك جديرة بالدراسة وبعد عدة لقاءات في القاهرة حصلت الباحثة علي درجة الدكتوراة. تجربة وجودك بسلطنة عمان تسع سنوات ما الذي اضافته لك في مشروع الكتابة؟ أضافت لي أولا معرفة بمكان جديد اسمه سلطنة عمان، وقد أحضرت معي كتبا لكي أقرأ فيها، حيث ظننت أنه لاشيء سيشغلني هناك، ثم اكتشفت وأنا أعمل في شركة النفط كرئيس لقسم الترجمة، أن هناك مكتبة تراثية بالشركة، حيث عثرت في أحد الدواليب علي مجموعة هامة من كتب التراث، وفي الشعر الجاهلي والتراث الديني، وقد اهتممت بالجانب التاريخي والأدبي وبدأت القراءة في هذه الكتب وهذه المكتبة أعادت لي الرغبة في الكتابة.. وعشقت عمان وألفت عنها ثمانية كتب آخر هذه الكتب نشر في 2006 عنوانه (سلطنة عمان بين التراث والمعاصرة). ماذا تقول لأجيال جديدة تريد أن تعيش علي الكتابة؟ أنا رسالتي الأساسية في العالم العربي هي محو الأمية، فنحن لايزال (50%) منا لايعرفون القراءة والكتابة.. للأسف.. نحاول ولكن محاولاتنا غالبا فاشلة ولا أعرف السبب!.. كوبا علي سبيل المثال قام فيها كاسترو بمنح اجازة لمدة سنة لطلبة الجامعة ليقوم كل طالب بمحو أمية عشرين أو ثلاثين.. كوبا ليست أفضل منا، وهناك أيضا أمية (الكمبيوتر).. ونحن في العالم العربي من بين مهامنا الفاشلة إلي الآن محو الأمية.. في هذا الإطار لدي قصة بعنوان (الوقائع الغريبة لانفصال رأس ميم).. ميم هي مصر.. وتحكي عن شخص استيقظ في الصباح ليجد أن رقبته تطول ورأسه ينفصل عن الجسم، فحدث نزاع بين الرأس الذي يريد أن يسمع للموسيقي ويقرأ ويتأمل، الموسيقي وبين الجسم الذي يريد أن يشرب ويجري وراء النساء، وتنتهي القصة بأن الجسم (فطس). فالمثقفون في المجتمع يكلمون بعضهم بعضا كلاما جميلا، لكنه لايصل لعامة الناس، والمشكلة لاتقتصر علي محو أمية القراءة والكتابة فقط، لأن الناس أيضا أصبحت لاتقرأ الكتب، ولذا نحتاج لمحو أمية الثقافة، ففي أوروبا يقرأ الناس في المواصلات وفي كل مكان وتباع الكتب بالآلاف.. وهنا لاشيء .. أنا أكثر كتاب وزعته كان في أربع طبعات، كل طبعة 3 آلاف نسخة، أي 12 ألف نسخة. وعادة يطبع من الكتاب 3 آلاف نسخة في بلد فيه 58 مليون نسمة. هل الجري وراء (لقمة العيش) هو السبب في ذلك؟ نحن للأسف لسنا من الدول الأولي في الثقافة وأيضا في الجامعات، فجامعاتنا متأخرة وفق آخر التقييمات العالمية، بينما جامعات الغرب متقدمة، هذه يجب أن تكون مشكلتنا ومهمتنا الأولي. هذا كلام عام.. فما هي الجزئية التفصيلية بخصوص مهنة الكاتب في العالم العربي؟ هو يخاطب (الرأس)، فكيف يصل إلي شخص لايقرأ ولايكتب.. أيضا المتعلمون لايقرأون. هناك دكتور اسمه يوسف عز الدين توفي كان يكتب الرواية بالإضافة إلي كونه عالما.. يحكي قصة أنه كان في انجلترا وأثناء شربه للشاي في مقهي بالجامعة، كان هناك مجموعة من العلماء يتحدثون عن شكسبير، فظن أنهم أساتذة في كلية الآداب، اتضح لاحقا أنهم في كلية العلوم، الثقافة شيء عام والمتعلم عندنا لايقرأ في العموميات.. لهذا لايجد الكتاب رواجا عندنا. وإلي أي تيار إذن ينتمي إبداعك القصصي؟ إني أقسم الفن (والأدب من الفنون) إلي فن عيادة وفن احتجاج الفن العبادة نجده علي سبيل المثال في بناء المعابد عند مختلف الأديان، وفي الموسيقي الدينية، وفي لوحات العصور الوسطي الأوروبية، في شعر حسان بن ثابت مثلا، والفن المحتج هو الفن الثائر أبدا علي سليبات البشرية كما يؤمن أن كماليات اليوم ضرورات الغد وأظن أنك توافقني أن أدبي ينتمي بوضوح إلي هذا اللون الاحتجاجي وليس العبثي أو الرومانسي. بعد خمسين عاما مع القصة القصيرة كيف جاءت روايتك الأولي (الغرق) علي شكل تحقيق روائي؟ عندما أكتب لا أحدد لنفسي القالب الذي سأكتب عليه، لكن عندما بدأت كتابة رواية (الغرق) لم أكن أعرف بأنها ستكون رواية، ولكنني فوجئت بأنها خرجت علي شكل القصة القصيرة التي تعودت أن أكتبه، ومع ذلك فقد كتبت قصة قصيرة عن نفس الموضوع بعنوان: قصة الحية الميتة التي تروي بطريقة تعدد الأصوات أي تروي بأكثر من ضمير أو شخصية، وكانت مصدر هذه الرواية هي الصحافة وقد أثبت مصادري في نهاية الرواية، وكنت أحس أنها أشبه بلعبة المربعات التي إذا جمعتها بجوار بعضها كونت لك صورة مع إضافة مايمكن تسميته الرتوش أو الحذف، تلك الإضافات التي تحيل الواقع إلي عمل فني، وهكذا لم أقصد وأنا أكتب أن أقدم قالبا مختلفا، ولكن جاءت هذه الطريقة في الكتابة بطريقة عفوية، وهذا أجمل ما في العمل الأدبي أو الفني، أي أنه يأتي عفويا ودون تخطيط. وهي رواية صغيرة لم يتعد عدد صفحاتها 140 صفحة، وتدور حول غرق السفينة سالم إكسبريس، وسميتها في الرواية المحروسة كنوع من السخرية، وهي لاتتحدث فقط عن غرق العبارة ولكنها تنبه وتحذر من غرق البلد إذا استمرت تصرفاتنا المتسببة التي نتج عنها الغرق من عبارات في البحر إلي معديات في النهر، إضافة إلي كوارث القطارات وانهيار العمارات وتصادم الشاحنات بالأتوبيسات، وقد تنبأت من قبل بثورة يوليو في قصة الحذاء وبهزيمة 67 في قصة نظرية الجلدة الفاسدة وأيضا بانتصارات اكتوبر 73 في قصة الأم والوحش.. وواضح أن رواية العرق التي نشرتها عام 2006 كانت نبوءة وتحذيرا بما وقع في نهاية يناير 2011 وأقصد بها وقائع ثورة 25 يناير. أخيرا بعد هذه الرحلة الطويلة بين الأوراق.. هل أنت راض بما تحقق من مشروعك الإبداعي؟ أنا راض تماما عن هذه الرحلة الممتعة بين الأوراق والكتب؛ لسبب بسيط جدا، هو أنني في بداية حياتي، قررت بدلا من الجلوس في المقهي لشرب الشاي ولعب الطاولة، أن أجلس في بيتي وعلي مكتبي لقراءة الكتب والاتصال بالهيئات الثقافية وبالمثقفين والمبدعين؛ لأكتب دون التزام بشكل معين، مرة أكتب قصة، ومرة أكتب نقدا لكتاب قرأته وأعجبني أو ترجمة وهكذا تعددت كتاباتي، حتي بلغت حتي الان 56 كتابا، وهناك الكثير من الكتب لاتزال تنتظر دورها في النشر، وأنا لا أكتب معظم هذه الكتب في فترة واحدة، بل إنها كما أقول تؤلف نفسها بمعني أنني أكتب فصولها علي مدار سنوات عدة، ثم أقوم بترتيب هذه المجموعات وتجميعها في كتاب واحد. واعده للنشر، مثال ذلك كتاب (رحلة عمر مع نجيب محفوظ) الذي كتبت أول فصوله قصة قصيرة عام 1948. وكانت بعنوان مصرع (عباس الحلو)، وآخرها عرضا للكتب التي تناولت مسيرة هذا الروائي العظيم، مثل جمال الغيطاني «المجالس المحفوظية»، ورجاء النقاش في كتابه في حب نجيب محفوظ، وكتاب محمد سلماوي «المحطة الأخيرة»، وقد صدر عن المجلس الأعلي للثقافة بالقاهرة في ديسمبر 2010 بمناسبة احتفال المجلس بمئوية ميلاد نجيب محفوظ حتي ديسمبر 2011 . كلمات من داخل الحوار {تنبأت من قبل بثورة يوليو في قصة (الحذاء) وبهزيمة 7691 في قصة (نظرية الجلدة الفاسدة) وأيضا بانتصارات اكتوبر 3791 في قصة (الأم والوحش). { رواية (الغرق) التي نشرتها عام 6002 كانت نبوءة وتحذيرا بما وقع في نهاية يناير 1102، وأقصد وقائع ثورة 52 يناير { الكتابة الإبداعية تستمد مصداقيتها من واقع الأحداث ومن واقع حياة الناس، وتفقد أهم مقوماتها وهو الصدق إذا لم تأت معبرة عن قضايا المجتمع ومشكلاته { المشهد الراهن الذي تدور داخله أحداث ثورة شباب 52 يناير سبق أن عالجته في العديد من كتاباتي القصصية، وإذا لم أفعل ذلك كأديب أكون قد خالفت ضمير الوطنية الابداعية.