عندما يتذكر المرء كيف كانت حفلات سيدة الغناء العربي أم كلثوم وكيف كان حضورها يستمعون في نشوة صامتة وكأنهم في طقس تعبدي مقدس مشحون بالإيمان. وعندما تهامس آذانه موسيقي جندول عبد الوهاب وكليوباتراه في شبه صخب ملحمي مستوعب لأفق تاريخي يشعر به الفنان وينفعل. ثم وهو يصغي إلي أنات المبدع فريد الأطرش صاحب أشجي ألحان العربية وأطرب أصواتها إذ كانت دقات عوده تكاد تخلع القلوب من مواضعها إلي حيث تتحرك الأوتار. وبالذات عندما تخايله صورة الفنان العظيم عبد الحليم حافظ في حالته' الصوفية' فاقدا الشعور بالوجود المادي من حوله, مندمجا إلي حد التماهي في الكلمة التي ينطقها, ومنتشيا إلي درجة التوهج باللحن الذي يصاحبه, فيأتي صوته بالصدق اللانهائي. وأخيرا عندما تلتاع روحه مع فيروز تلك الروح النبيلة وهي تناجي مدينتنا السليبة زهرة مدائن التاريخ والأديان رمزا لشرف الأمة الضائع في همس صاخب كأنه صوت الضمير الذي لا يعلوه صوت آخر. عندما يتذكر المرء ويخايل هؤلاء بالذات ومن حولهم كثيرون يشابهونهم أو يقتربون منهم, يدرك كيف كانوا يفهمون الغناء كعمل مقدس, وكما أن لكل مقدس طقوسه التعبدية التي تصل بمؤمنيه إلي حالة النشوة الروحية, فقد كان لكل من هؤلاء طقوسه التعبيرية بدءا من اختيار الكلمة بعد تدقيق, إلي اللحن عبر إحساس, وحتي الأداء بكل صدق أمام جمهور متذوق ينطبع بدرجة من الاحترام الصادق وصولا إلي النشوة الفنية الكاملة. ولا شك في أن هذا الطقس الفني المتسامي هو ربيب التصور الحداثي لدور الفنان باعتباره ذاتا مبدعة لقيم وجدانية, وعقلية تجعل منه مشرعا جماليا, وفكريا وكذلك لدور الجمهور باعتباره متلقيا لهذه القيم بدافع نهمه إلي الرسائل العاطفية والوطنية التي تحملها. ذلك أن الفنان المشرع هو الابن الطبيعي للحداثة وما أنتجته فلسفاتها من ذات إنسانية اكتسبت موقعا مركزيا في بنية الوجود المادي والتاريخ الإنساني معا باعتبارها خالقة للمعاني النهائية والفضائل الاجتماعية, وأنها صانعة تاريخها المفترض له أن يحمل هذه المعاني والفضائل التي يتم تأسيسها وتعديلها وممارستها دخل هذا التاريخ نفسه وعلي نحو يضمن له, ولها, نوعا من الاستمرارية وهو الطقس الذي جسدته في الثقافة الغربية أعمال الموسيقيين العظام خصوصا في عصر الباروك( وهو العصر الممتد في القرنين السابع, والثامن عشر, بين عصر النهضة وموسيقاه التي كان لا يزال يغلب عليها الطابع الديني والموسيقي الكنسية حتي نهاية السادس عشر, وبين العصر الحديث مطلع القرن التاسع عشر) وخصوصا أعمال يوهان سباستيان باخ, وجورج فردريك هيندل, وهايدن وفولفجانج موتسارت, والفرنسيين مارك أنطوان شاربانتييه, وكوبران, ورامو, وجان باتيست لولي, والإيطاليين مونتيفردي الذي عاش بين عامي(1657 1643) ومثل جسرا بين عصر النهضة وعصر الباروك, وأليساندرو سكارلاتي, وأركانجيلو كوريللي, أنطونيو فيفالدي صاحب الكونشيرتو الشهير' الفصول الأربعة' في القرن الثامن عشر, ثم بارتولدي مندلسون, لودفيج فان بيتهوفن, وريتشارد فاجنر, وموديست موسورسكي في القرن التاسع عشر بالذات. وعلي العكس من ذلك, فإن النظرية الثقافية المروجة لما بعد الحداثة والنافية لمطلقات الحداثة وعلي رأسها مركزية الذات الفردية إنما تنفي أولوية المبدع ودوره في التشريع الجمالي والأخلاقي, الإجتماعي والوطني, إذ يمكننا أن نسحب مقولة رولان بارت عن' موت المؤلف' بسهولة ودون قسر إلي الفنان مؤلف' الطقس الفني' بقدر ما تنسحب مقولة' حياة القاريء' إلي' حياة المستمع' متلقي' الطقس الفني' والذي اكتسب حرية أكبر في تذوقه, وبالأحري في نزوعه الي خلق طقس جديد لهذا الفن حتي لو اندفع مع المطرب إلي جنونية الروك أند رول, أو صخب الجاز في طقس فني غير متسامي نشأ في سياق غربي وتنامي منذ ستينيات القرن العشرين في إطار تصاعد حركات التمرد وثورات الشباب متباينة المشارب والنزوعات والتي عمت العالم آنذاك, ضمن ظواهر أخري علمية وتكنولوجية, اعتبرت جميعها الإرهاص العملي والسلوكي لما تمت صياغته بعد ذلك نظريا وفلسفيا من منهجيات وتيارات ما بعد حداثية خاصة ذلك التيار الذي ينادي ب' فلسفة الحياة اليومية' بحيث تصبح لغة الحياة اليومية وسلوكياتها هي مركز العملية الفكرية, ونقطة إلهام العملية الفنية اقترابا من الحركة الدائبة للواقع, وتجاوبا مع اللغة اليومية للشارع, وابتعادا عن الأنظمة الفلسفية الكبري, والسرديات/ الأبنية الفكرية والتاريخية الحاكمة لمناهج المعرفة ومعايير التذوق الجمالي والأخلاقي الحداثي. وتجاوبا من الثقافة العربية مع هذه الروح ما بعد الحداثية منذ الثمانينات بدأ طقس فني جديد يحتل ساحة الغناء في القاهرة وبيروت خاصة وينتشر من كلتيهما إلي معظم البلدان العربية بديلا للطقس الفني المتسامي لرواد حداثتنا الفنية تمت تسميته في البداية وربما في طوره الأول ب' الأغنية الشبابية' وهي تسمية خاطئة لأنها تستمد منطقها من معيار جيلي لا فني يقع خارج العملية الإبداعية, وربما كان الأوفق تسميته بالأغنية الصاخبة التي شهدت ركض المطرب علي خشبة المسرح ورقص الجمهور الذي يجلس بل يقف أمامه في قاعاته وبين مقاعده, قبل أن يتحول في طوره الثاني إلي أغنية' الفيديو كليب' والتي يمكن تسميتها أيضا ب'الأغنية الراقصة' التي جعلت من الحركة الإيقاعية بل الرقص الشرقي, وكذلك الإخراج السينمائي جزءا مركزيا يصعب تذوقها بدونه, ثم كان التحول الثالث نحو' الأغنية العارية' التي تقوم علي دمج واضح بين الفن الحداثي وبين فن أماكن اللهو, ويستدعي عالم ومثل الكباريه الراقص في لوحات تعبيرية راقصة تشاهد ولا تسمع. وما بين هذه الأطوار الثلاثة تم تقويض' المسرح التقليدي' باعتباره الأساس المكاني للفن الحداثي والذي كان الفنان قد أعتبره المنبر الأساسي لإعلان رسالته الفنية الجمالية والأخلاقية. ثم كان تقويض المكونات الفكرية والجمالية الملهمة لهذا الفن بزحف لغة الشارع ومشاهده اليومية التي فرضت نفسها حتي علي مسمي أغنياته من قبيل' قم أقف وأنت بتكلمني' و'هاتلي حد كبير أكلمه' و' هابطل سجاير' و'بحبك ياحمار' وغيرها من الأعمال التي قد تختلف اختلافا واسعا بين مصادر إنتاجها, وفي قنوات ترويجها, ولكنها تتفق في ملمحين أساسيين يؤسسا لنمط جديد من النشوة الفنية لا يعتمد معيار الصدق الفني الحداثي القائم علي إبداع قيم عقليه ووجدانية وجمالية, ولكن معيار آخر هو التشظي الفني ما بعد الحداثي; الأول: هو ذبول قيمة المطرب ودوره الذي يتراجع من موقع' المبدع' النهائي للرسالة الفنية, إلي موقع' المنظم' للطقس الفني, فلا فضل له إلا الإعلان بصعوده إلي خشبة المسرح عن جاهزية المكان, إذ بمجرد صعوده يبدأ الطقس وينهمك الجمهور في الرقص, متجاوبا مع حضور المنظم وصانعا لنشوته الفنية الخاصة دونما انتظار لتلقيها, يلي ذلك قيام المطرب المنظم بتلقي التهنئة علي هذا الدور المحدود, وبغض النظر عن جمال اللحن, أو معني الكلمات, أو طبيعة الصوت, حيث صار المعيار تنظيميا لا فنيا. أما الثاني: فهو بروز دور الجمهور كمشارك أساسي في الطقس الفني تتحقق نشوته لا بفضل هذا المطرب/ المنظم الذي تم نزع' مركزيته', وإنما بنجاحه في إنزال هذا المطرب من موقعه المتعالي, كمشرع جمالي وأخلاقي, إلي موقع الإنسان' محل الاختبار' الذي يتوقف نجاحه علي متلقيه, حيث يتم توظيفه لصالح نزعات هؤلاء المتلقين المختلفة في طقس أشبه بحفلات الزار الجماعي الصاخبة التي يستطيع كل فرد فيها التعبير بحرية ملموسة عن هواجس وآلام وإحباطات إنسانية, أو عن خواء روحي يشعر به لدوافع ثقافية أو سياسية أو حتي اجتماعية, ولكنه لا يرغب في أن يتحاور حولها موضوعيا إما ليأسه من إمكانية حلها, وإما للتعبير عن احتجاجه علي السلطة الأخلاقية المعنية بمناقشتها, ولذا فليس غريبا أن يكون الشباب في سن المراهقة أو أكبر قليلا هو العمود الفقري لجمهور هذا الطقس الفني حيث المرحلة العمرية, والسياق التاريخي, وربما الظرف السياسي جميعها عوامل تحرك لديه ملكة التمرد ليس فقط علي السلطة السياسية, ولكن أيضا علي كل سلطة أخلاقية أو فكرية, بل وعلي الحضور الموضوعي للعقل ذاته. ثم كان التطور الأخطر متمثلا في ذلك الاختلاط العبثي بين مطربي الأفراح والفنادق, وأماكن اللهو الذين طالما اعتبروا مطربي مناسبات وجمهور خاص, وبين مطربي التيار' العام', فإذا بالمطرب يبدأ ليلته في مسرح وأمام جمهور عام, وينهيها في فرح أو ملهي ليلي مع جمهور خاص, وهو التطور الذي كسر دوائر النقد الفني وفتح الباب أمام علاقة مباشرة بين الجمهور وبين كل من لديه القدرة علي رفع' عقيرته' ليتحول إلي ظاهرة رائجة بمعايير العائد والجمهور وغيرهما من المعايير التجارية التي تكاد ترتبط بعلاقة عكسية مع المعايير الفنية المعتبرة والذوق الفني السليم, وهو ما يبرر وصف وضعية الفن العربي راهنا ب' الأزمة' إذ يتآكل ما يمكن تسميته ب' التيار الرئيسي' الذي كانت تقوم علي إنتاجه المؤسسات الحديثة المرتبطة بالثقافة' العالمة' علي منوال الكونسرفتوار, ومعهد الموسيقي العربية, ودار الأوبرا المصرية وحتي الإنتاج الكلاسيكي للإذاعة والتليفزيون, وتسهم في ترويجه مهرجانات جرش, وقرطاج, وبيروت, والقاهرة, أمام التيار الجديد الراقص/ العاري الذي تساهم في ترويجه الفضائيات التجارية, وأماكن اللهو الليلي, والذي يكاد يتحول الآن إلي النغمة الأساسية في الفن العربي, وتلك كارثة ثقافية, وليس فقط فنية, لمثل الحداثة العربية.