«التاريخ يتحرك بطرفه الخلفي.» وقعت على العبارة السابقة منذ سنوات عديدة، وجاءت على ما أذكر، ملاحظة عابرة في سياق مختلف لم تكن حركة التاريخ موضوعه الأساسي. بقيت في الذاكرة مع ذلك (رغم نسيان المرجع) فهي عندي تكشف وجهين جوهريين من أوجه حركة التاريخ الإنساني: طابعها الثوري، الانقلابي وغير التدريجي من ناحية، والمتناقض والمأزوم بل والمأساوي في أكثر الأحوال من ناحية أخرى. فالنهايات السعيدة في التاريخ البشري عادة ما تأتي متأخرة جدا، ويدفع الثمن مقدما، وفادحا. وهي عبارة صادمة لأن الصورة الشائعة للتاريخ البشري هي كخط بياني متواصل الصعود يبدأ عند الإنسان البدائي ويتحقق (أو يحقق نفسه) في تطور حضاري يقوم على التطور في قدرة الناس في التحكم في الطبيعة، من خلال التحسين التدريجي في التكنولوجيا والتنظيم الاجتماعي للعمل، وذلك عبر تراكم «حضارات» تركب الواحدة على أكتاف السابقة عليها، إلى أن تصل بنا إلى الحضارة الأوروبية الحديثة، أو الغربية كما أعيد تسميتها في عصر السيادة الأمريكية. المنشأ الأوروبي الحديث نسبيا لهذا التصور للتاريخ الإنساني ليس موضوعنا هنا على أية حال، وقد استنبطناه كعرب في عصر تنويرنا نقلا عن عصر تنوير من كانوا قد صاروا سادتنا وسادة العالم، فبقينا أسرى سؤال بلا معنى حقيقي، ألا وهو «لماذا تقدم الغرب وتخلفنا نحن؟» ومازال الكثيرون منا يبحثون عبثا عن اجابات تتراوح بين سخافات أسئلة الهوية والعالمية، والأصالة والمعاصرة، والعودة للماضي المجيد أو الإقبال على المستقبل السديد، أو الجمع الانتقائي وحسب المزاج الشائع بين هذا كله، فنستورد مصاعد على أحدث الطرز تتلو بصوت إلكتروني صيني اللكنة: «سبحان من سخر لنا هذا» صعودا وهبوطا. «الكرة الأرضية عمرها حوالي 5 آلاف مليون سنة، الجنس البشري أوبالإنسان العاقل»، أي نحن، تعود نشأته إلى إفريقيا منذ حوالي 200 ألف سنة، في حين يبدأ الناس في اكتشاف الزراعة وتدجين الحيوانات، وهي الثورة التكنولوجية الكبرى الأولى في التاريخ الانساني، من حوالي 12 ألف سنة، ويعود منشأ الكتابة لنحوالي 8000 سنة. الثورة الصناعية لم يمر عليها مائتي عام، الكمبيوتر الشخصي يعود لأواخر السبعينيات، الاستخدام الشعبى للانترنت إلى التسعينيات، ولم يمض على الفيس بوك أكثر من 10 سنوات. التاريخ البشري ثوري وعاصف، ولا اختيار في هذا فهو من طبائع الأشياء، رغم كل محاولات النخب الحاكمة والمتحدثين باسمها عبر العصور لإقناع الناس بمحاسن تدريجية التغير، فمن طبائع الأشياء أيضا ميل تلك الفئات في العادة لإقفال الباب ورائها، سدا للطريق على العواصف التي سبق أن فتحته أمامها. غير أن الطفرات الثورية الخاطفة ليست هي المظهر الوحيد أو الأكثر اثارة للاهتمام في حركة التاريخ الإنساني، فهذا يكمن في الحقيقة في أن تلك الطفرات لا تأتي ذروة لصعود متراكم سابق عليها، ولكن وفي الأساس كنتاج أزمات طاحنة عادة ما تأخذ شكل الانحدار والتدهور بل والانهيار. المثال البارز هو نشأة الرأسمالية في أوروبا، وهنا نتبنى منظور بلورة واحد من أهم المؤرخين العالميين، المؤرخ البريطاني موريس دوب. فوفقا لدوب شكلت ما أسماه بالأزمة العامة للاقطاع الأوروبي الأرض الضرورية تماما لنشأة الرأسمالية الحديثة، وقوامها الصناعة. تكثيف استغلال وإفقار مروع للفلاحين الأقنان ناتج عن اتساع هائل في حجم واستهلاك الطبقات الأرستقراطية (ساعد عليه اتساع نطاق التجارة العالمية) يدفع الفلاحين دفعا للتمرد وللهروب من الأرض، ليشكل هروبهم هذا أساس تحول البلدات الصغيرة المتناثرة هنا وهناك إلى مدن قوامها الحرف، فتنفصل الحرفة عن الزراعة، وتتحول العلاقة بين المالك والعامل من علاقة تبعية اقطاعية لعلاقة عمل مأجور، ومن ثم الرأسمالية الحديثة. بل ولعل وباء (الموت الأسود) أو الطاعون منتصف القرن الرابع عشر، وقد أتى على ما يترواح تقديرا بين 30-60% من سكان أوروبا، لعله (وفقا لمؤرخين عدة) قد ساهم بدوره في تعميق أزمة الاقطاع الأوروبي وفي إضعاف قبضة السيطرة الاقطاعية وفي «تحرير» العمل، تمهيدا وتعبيدا لنشأة وصعود الرأسمالية الحديثة. الطفرات الكبرى في التاريخ الانساني لا تأتي كنتاج تطور صاعد للقديم ولكن على أرض من تحلله وانهياره. التاريخ يتحرك بطرفه الخلفي. ثورات الربيع العربي هزمت واندحرت الواحدة تلو الأخرى، وليس في هذا من جديد تماما، فالثورات الكبرى في التاريخ تنهزم بأكثر كثيرا مما تنتصر،ولكنها تغير العالم مع ذلك. فلا جدال في أن الثورة الفرنسية هزمت، ولا جدال أيضا في أن الثورة البلفشية هزمت، ولكن يكون أحمق تماما من لا يرى أن الثورتين الكبريين وغيرهما العشرات والمئات من الثورات والانتفاضات والتمردات في أنحاء الأرض هي التي صنعت عالمنا اليوم، وأن ما أعلته تلك الثورات والتمردات من مبادئ وقيم وما طرحته من حلم بعالم أفضل أكثر عدالة وانسانية وتكافؤ وحرية باقية حية، تنتفض مجددا في كل انتفاض وتمرد ومقاومة يشنها المستضعفون في الأرض ضد قاهريهم. في هزيمة الثورات العربية يرى الكثيرون انبعاثا جديدا طاغيا لثنائية الدولة البوليسية والدولة الدينية التي أمسكت بخناقنا ثلاثة عقود ونيف، ولكنهم كثيرا ما يغفلون انه انبعاثا كاريكاتوريا، قوامه الهبوط إلى حالة من البربرية مطلقة العقال حيث لا قانون ولا عرف ولا عقل، وانما محض عنف متوحش، نموذجه الأكثر تبلورا داعش وبشار. قد ترون إنبعاثا، أما عن نفسي فلا أرى غير رقصة موت. فالتاريخ يتحرك بطرفه الخلفي. لمزيد من مقالات هانى شكرالله