رغم سبق مصر الصناعي من فجر الحضارة الفرعونية وحتى العصر الهيليني, ورغم ومضات وإنجازات مبكرة ومبادرة في العصور الوسطى الإسلامية, تأخرت مصر عن ركب الثورة الصناعية المبكرة. وسادها حينئذ ظلام زمن الانحطاط العثماني المملوكي. والحقيقة أنه في ظروف انحطاط الإنتاج الزراعي, وسيادة الاقتصاد الطبيعي, وتدهور المدن والحرفة, والتقلص المخيف لعدد السكان, والأهم بسبب فوضى الحكم, لم تتوافر لمصر المقدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للثورة الصناعية. وثمة نظريات ثلاث أخرى حاولت تفسير تأخر مصر في زمن الثورة الصناعية المبكرة. وتنطلق النظرية الأولى من زعم الدور الحضاري للاستعمار الأوروبي. وتتلخص هذه النظرية العنصرية الاستعمارية التي حاولت تبرير احتلال مصر وغيرها من البلدان في أن التطور الاقتصادي في بلدان الشرق قد راوح مكانه, حتى تفتحت عيون شعوب الشرق على الحضارة الغربية مع مجيء الاستعمار الأوروبي. وتتجاهل هذه النظرية حقيقة أن مصر لم تتأخر طويلا عن اللحاق بأوروبا في زمن الثورة الصناعية, وشهدت في أوائل القرن التاسع عشر تأسيس الصناعة الآلية الكبيرة على نطاق واسع نسبيا, باقامة محمد علي مصانعه الحكومية الإقطاعية, قبل عقود من الاحتلال البريطاني حين نشأ أول المصانع الرأسمالية الصناعية الكبيرة في نهاية القرن. وتستند النظرية الثانية إلى زعم سيادة نمط الإنتاج الآسيوي, وتفسر تأخر مصر عن اللحاق بأوروبا في زمن الثورة الصناعية بما يسمى السمات الآسيوية. وتتلخص النظرية في أن نمط الإنتاج الآسيوي, المهيمن في مصر قد حال دون تحول مدنها إلى مراكز صناعية وقواعد لنشأة رأس المال الصناعي في العصر الحديث. وهي النظرية التي تبناها أحمد صادق سعد في كتابه المهم في ضوء نمط الانتاج الآسيوي: تاريخ مصر الاجتماعي والاقتصادي. لكن نظريته تتداعى باعترافه هو نفسه بظهور نمط انتاج رأسمالي وإن وصفه بأنه غير أساسي في مصر في العصر الهيليني أو البطلمي قبل الميلاد ثم في العهد الفاطمي, وهو النمط الذي ظهر في مدن مصر الفرعونية في عصرها المتأخر وإن كان جنينيا كما نعرف من موسوعة سليم حسن مصر القديمة, وغيرها من البحوث العلمية المنشورة عن مصر القديمة. وتدعي النظرية الثالثة أن ضعف الطبقة الوسطى البورجوازية, حال دون سعيها لانتزاع السلطة من الاقطاع, وبدء تطوير المجتمع نحو الرأسمالية. وتقول النظرية كما تبناها فوزي جرجس في كتابه دراسات في تاريخ مصر السياسي منذ العصر المملوكي إن تخلف الطبقة الوسطى المصرية عن مثيلتها في أوروبا كان محصلة لوحدة مصر السياسية الداخلية, خلافا لما كان سائدا في الدول الإقطاعية, والمكاسب الكبيرة العائدة للدولة الإقطاعية المصرية في القرون الوسطى من تجارة الشرق العابرة قبل اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح, والضرائب الحكومية الخفيفة نتيجة لضخامة ضرائب الترانزيت. ولا جدال أن نخبة التجار والحرفيين قد تمتعت بقوة اقتصادية كبيرة نسبيا, كما يبين أندريه ريمون في بحثه الرائد الصادر في جزءين عن التجار والحرفيون في مصر في القرنين17 و18. لكن تطور الطبقة الوسطى البورجوازية قبل القرن التاسع عشر لم يصل إلى المستوى الذي تطرح فيه علي بساط البحث مسألة الإطاحة بالسلطة الإقطاعية المعرقلة لتطورها. والواقع أنه بجانب الطريق الثوري لميلاد الرأسمالية في الصناعة, حيث يظهر كبار الرأسماليين الصناعيين من بين صفوف الحرفيين, ورثت أوروبا عن العصور الوسطى شكلين متميزين من رأس المال نضجا قبل عصر الأسلوب الرأسمالي للانتاج, هما رأس المال الربوي ورأس المال التجاري. وكان رأس المال الربوي أداة قوية عملت على إيجاد الظروف المسبقة اللازمة لقيام رأس المال الصناعي, بقدر ما لعب دورا مزدوجا, هو تعظيم تراكم ثروة نقدية جنبا الى جنب مع ثروة التاجر, من جهة, وإفقار وإفلاس أصحاب العمل المستقلين من الحرفيين والفلاحين, من جهة أخرى. وبدوره, فإن تطور رأس المال التجاري كان مقدمة منطقية تاريخية لقيام الانتاج الرأسمالي, سواء بما تركز لديه من ثروة نقدية أتيحت لاحقا للاستثمار الرأسمالي الصناعي, أو لأنه بذاته لا غنى عنه للانتاج الرأسمالي, الذي يفترض الانتاج بهدف التجارة; أي البيع في السوق وعلى نطاق واسع. وقد ازدهرت المدن والموانيء المصرية في عهد الدولة الفاطمية, في زمن النهوض المبكر للمدن والموانيء الايطالية, قبل الثورة الصناعية. واستند هذا الازدهار الى تطور الزراعة بفضل توسع أعمال الري واستصلاح الأراضي وتوسع زراعة الكتان والحبوب وغيرها. وتجسد الازدهار في انفصال الحرفة عن الزراعة, وانتشار الورش الحرفية في البلاد, حيث عدم اقتصار الصناعات الحرفية على الموانيء, وتغلغل رأس المال التجاري في الصناعات الحرفية, التي تقدم تقسيم العمل داخلها خطوات ظاهرة. لكن مصر لم تعرف الطريق الثوري لميلاد الرأسمالية في الصناعة, حيث يظهر كبار الرأسماليين الصناعيين من بين صفوف الحرفيين. كما لم تعرف مصر تحول رأس المال الربوي ورأس المال التجاري إلى رأس المال الصناعي إلا استثناء, وكان الابتزاز المملوكي لرؤوس أموال التجار والحرفيين وأعيان الفلاحين عاملا حاسم الأهمية في تدمير الفرص المتاحة للتراكم الرأسمالي الصناعي. والواقع ان غياب المقدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية هو ما يفسر أكثر من غيره تأخر الانقلاب الصناعي في مصر, وهي المقدمات التي توافرت في عهد محمد علي. وقد توافرت المقدمات السياسية لمشروع محمد علي للتصنيع الحديث بعد قضاء محمد علي على فوضى الحكم المملوكي, وإقامته نظام حكمه المطلق, وتأسيسه لدولته الاقطاعية المركزية القوية. وتوافرت المقدمات الاقتصادية والاجتماعية لهذا الانقلاب الصناعي في مصر بفضل تطور قوي الانتاج, وخاصة بمضاعفة الأرض المزروعة نتيجة إحياء وتحديث أعمال الري وتعاظم الانتاج الزراعي, وتوسع الزراعة التجارية وخاصة بإدخال زراعة القطن وتضاعف صادراته ونمو المدن والموانيء التجارة الخارجية, وزيادة عدد السكان وتضاعف قوة العمل. وتجسد الانقلاب الصناعي أو الثورة الصناعية في عهد محمد علي (1805-1848) بتأسيس الصناعة الآلية الكبيرة على نطاق واسع نسبيا, وإن أخذ الانقلاب الصناعي طابعا خاصا تمثل في مصانع حكومية إقطاعية. وقد كانت الزراعة مصدرا مهما للفائض, الذي استولت عليه دولة محمد علي واستخدمته في تمويل مشروع للتصنيع. وحقق محمد علي مكاسب كبيرة من احتكاره للحاصلات الزراعية في ظل سياسة احتكار الدولة التي فرضها. وهكذا, على سبيل المثال, فقد مثلت فروق أثمان الحاصلات الزراعية, أي الفروق بين الأسعار الجبرية, التي تسلمت بها الدولة المحاصيل من الفلاحين, وأسعار بيعه للمحاصيل إلى التجار, حوالي 18% من ايرادات الدولة في عام1833, وفقا لما أورده محمد فهمي لهيطة في مؤلفه الرائد تاريخ مصر الاقتصادي في العصور الحديثة. وبهدف تغطية احتياجات تكوين الجيش والأسطول, اللازميّن لبناء امبراطورية ترث الامبراطورية العثمانية, أقام محمد علي عدد من المصانع الآلية الكبيرة. وقدرت تكلفة إقامة هذه المصانع بنحو12 مليون جنيه حتى عام.1838 وتتضح ضخامة حجم هذا الاستثمار الصناعي إذا لاحظنا أن الدخل السنوي للحكومة لم يتعد ثلاثة ملايين جنيه في عام1936, كما سجل أحمد أحمد الحتة في كتابه تاريخ مصر الاقتصادي في القرن التاسع عشر. وقد قدر سمير رضوان وروبرت مابرو, في كتابهما التصنيع في مصر, أن عدد المشتغلين بهذه المصانع بلغ حوالي60 ألف مشتغل إلي70 ألف مشتغل, أي نحو6 7% من قوة العمل في مصر آنذاك, بينهم30 ألف مشتغل الى 40 ألف مشتغل في مصانع الغزل والنسيج, كما يتضح حجم المصانع إذا لاحظنا أن عدد المشتغلين بلغ عدة مئات في المصنع الواحد, في بعض تلك المصانع وفقا لرؤوف عباس في مؤلفه عن الحركة العمالية في مصر. نقلاً عن صحيفة الأهرام المصرية