وزير التعليم العالي يشهد حفل تخريج أول دفعة من خريجي جامعة المنصورة الجديدة الأهلية    متحدث النيابة الإدارية: التصويت الإلكتروني للأندية الرياضية ضمانة قضائية للتعبير عن آراء الناخبين    السردين يسجل 110 جنيهات، أسعار الأسماك اليوم بمحافظة البحيرة (فيديو)    تدعيم أسطول النقل بشركات نقل الركاب التابعة للشركة القابضة ب 529 أتوبيس جديد    شراكة اقتصادية تتوسع وتبادل تجاري متزايد بين روسيا وإفريقيا.. خبير بمعهد الاستشراق بموسكو يحلل    القوات المسلحة الأردنية تعلن مشاركتها في الضربات التي استهدفت تنظيم داعش    مواجهات عنيفة بين الجيش السوداني والدعم السريع في جنوب كردفان    البنك الأهلي يحدد شروطه للاستغناء عن أسامة فيصل في الانتقالات الشتوية    تشكيل بيراميدز في مواجهة الجونة بكأس العاصمة    وزير الرياضة يفتتح ملعب قانوني بمركز شباب البرشا بملوي    أمم أفريقيا 2025.. 4 لاعبين في صدارة الأكثر مشاركة في ال «كان»    الأمن يكشف تفاصيل فيديو الرقص بسلاح أبيض في البدرشين ويضبط المتهم    أمن الجيزة يلقي القبض على "راقص المطواة" بالبدرشين    مصرع شاب وإصابة آخر في حادث انقلاب سيارة داخل ترعة بقنا    عزاء سمية الألفي الإثنين بمسجد عمر مكرم    وزيرتا التخطيط والتنمية المحلية ومحافظ الأقصر يتفقدون تطوير كورنيش ومناطق إسنا    وزير التعليم العالي: الجامعات الأهلية تحظى بدعم كبير من القيادة السياسية    87 ألف طن قمح رصيد صوامع الغلال بميناء دمياط اليوم    مواجهة نارية على لقب البريميرليج.. مانشستر سيتي يصطدم بوست هام اليوم    وزير الإسكان يختتم جولته اليوم بتفقد مشروع طريق محور سفنكس    ماذا جاء في وثائق إبستين عن ترامب؟    انهيار مبنيين متضررين من قصف للاحتلال الإسرائيلي على غزة    تعليم جنوب سيناء تعلن جدول امتحانات الفصل الدراسي الأول لمرحلة الثانوية العامة صباحي ومسائي    محافظ أسوان يبحث توصيل الخدمات والمرافق ل40 مصنعا.. اعرف التفاصيل    500 ألف نسمة في 4 أشهر.. الإحصاء: عدد سكان مصر بالداخل يصل 108.5 مليون    المركز القومي للمسرح والموسيقي والفنون الشعبية يطلق الدورة الأولى من مسابقة زكريا الحجاوي لدراسات الفنون الشعبية    خبير: إسرائيل حولت الهدنة إلى حرب صامتة ومخطط قوة الاستقرار تخدم أهدافها    النيابة الإدارية تواصل تلقى طلبات التعيين بوظيفة معاون نيابة إلكترونيا.. المواعيد    محمد عنتر: الزمالك "اختياري المفضل" دائما على حساب الأهلي.. والأندية الشعبية في خطر    بعد إعلان ارتباطه رسميا.. هذا هو موعد زفاف أحمد العوضي    رئيس هيئة التأمين الصحي في زيارة تفقدية لمبنى الطوارئ الجديد بمستشفى 6 أكتوبر    رئيس هيئة التأمين الصحى فى زيارة تفقدية لمبنى الطوارئ الجديد بمستشفى 6 أكتوبر    ضبط طن ونصف استربس دواجن وبسطرمة مجهولة المصدر بشبرا الخيمة    الأقصر تحتضن ظاهرة تعامد الشمس السنوية تزامنا مع بدء فصل الشتاء    سحب 666 رخصة لعدم تركيب الملصق الإلكترونى خلال 24 ساعة    الركراكي: أي نتيجة غير الفوز بأمم أفريقيا ستكون فشلاً    وزارة العمل: 664 محضرا خلال 10 أيام لمنشآت لم تلتزم بتطبيق الحد الأدنى للأجور    محكمة باكستانية تقضي بسجن عمران خان وزوجته 17 عاما في قضية فساد    دار الإفتاء تعلن نتيجة رؤية هلال شهر رجب لعام 1447 هجريا بعد المغرب    روسيا تعلن تحرير بلدتين جديدتين شرق أوكرانيا    وزير الزراعة يبحث مع وفد صيني مستجدات إنشاء مصنع متطور للمبيدات بتكنولوجيا عالمية في مصر    مستشار الرئيس للصحة: الوضع الوبائي مستقر تمامًا ولا يوجد خطر داهم على أطفالنا    مدرب جزر القمر: مواجهة المغرب أشبه بتسلق جبل إيفرست    دار الإفتاء توضح علامات الاستخارة وتحذر من ربطها بالأحلام فقط    المستشار حامد شعبان سليم يكتب عن : لعنة الله على تلك .. المسماة " ديمقراطية !?    فوز الدكتور أحمد طه بجائزة الطبيب العربى 2025.. وعميد قصر العينى يهنئه    ضمن مبادرة صحح مفاهيمك، أوقاف الإسماعيلية تواصل التوعية ضد التعصب الرياضي    المبادرات الرئاسية تعيد كتابة التاريخ الصحي لمصر    أزهري يعلق علي مشاجرة الرجل الصعيدي مع سيدة المترو: أين هو احترام الكبير؟    نشرة أخبار طقس اليوم السبت 20 ديسمبر| الأرصاد تحذر من أجواء شديدة البرودة    ذكرى ميلاده ال95.. صلاح جاهين يصرخ عام 1965: الأغنية العربية في خطر!    مواقيت الصلاه اليوم السبت 20ديسمبر 2025 فى المنيا    محمد معيط: روشتة صندوق النقد الدولي عادة لها آلام وآثار تمس بعض فئات المجتمع    الأنبا فيلوباتير يتفقد الاستعدادات النهائية لملتقى التوظيف بمقر جمعية الشبان    القبض على إبراهيم سعيد لاعب كرة القدم السابق وطليقته داليا بدر بالقاهرة الجديدة    نائب وزير الخارجية يلتقي الممثل الخاص لسكرتير الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث    متحف القرآن الكريم بمكة المكرمة ُيقدم تجربة تفاعلية تحاكي نزول الوحي    طائرات ومروحيات أمريكية تشن هجوما كبيرا على عشرات المواقع لداعش وسط سوريا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النهضة الصناعية وحركة التنوير
نشر في الشروق الجديد يوم 23 - 03 - 2009


التقدم ظاهرة اجتماعية:
تؤكد الدراسات العلمية أن الجماعات الإنسانية متماثلة بيولوجيا وأنهم يتمتعون بصفة عامة بنفس القدرات الذهنية والبدنية وأنه لا تميز لجنس على آخر. وليس معنى ذلك أن جميع الأفراد متماثلون، فهناك الذكى والأقل ذكاء كما أن هناك القوى والضعيف. فالأفراد ليسوا متساوين فى القدرات والمهارات، وإن كانت الجماعات تتقارب وتتشابه فى نسب الذكاء والإبداع كما فى الكسل والخمول.
كذلك ليس صحيحا أن التقدم والتأخر هو وليد الوفرة أو الندرة فى الموارد الطبيعية. فأكثر الدول تقدما اقتصاديا حاليا هى الولايات المتحدة واليابان، وهما على طرفى نقيض من حيث الندرة أو الوفرة فى الموارد الطبيعية. فتتمتع الولايات المتحدة الأمريكية بالوفرة فى كل مصادر الموارد الطبيعية تقريبا فى حين لا تكاد تتمتع اليابان بأى منها. كذلك علمنا التاريخ أن حظوظ الدول من الرقى والانحطاط كانت متغيرة، فكم من دولة عرفت ازدهارا فى فترة لكى تقع بعد ذلك فى تدهور وانحطاط، رغم أن مواردها الطبيعية لم تتغير بين المرحلتين.
وهكذا فإن الرقى والانحطاط لا يرجع إلى خصائص بيولوجية فى البشر ولا إلى وفرة أو ندرة فى الموارد وإنما إلى ظروف مجتمعية تدعو إلى التقدم والرقى فى حالة أو إلى التدهور والانحطاط فى حالة أخرى. وتعتبر تجربة أوربا والغرب بصفة عامة مثيرة فى هذا الصدد.
أوربا تتسيد العالم مع الثورة الصناعية:
تسيطر أوربا، والغرب بصفة عامة، على معظم الإنجازات الاقتصادية والتكنولوجية وهى تقود التقدم منذ أقل من ثلاثة قرون، وإن كانت بوادر الوهن قد بدأت تظهر عليها. فحتى القرن السابع عشر كانت حضارة الصين هى الأكثر رقيا وتقدما، وكانت أوروبا ممزقة تجاهد للتخلص من تبعات ظلام العصور الوسطى والتى سادت منذ سقوط الدولة الرومانية فى نهاية القرن الخامس الميلادى. وبعد ذلك بقليل قامت الحضارة الإسلامية وازدهرت بدءا من القرن الثامن وحتى نهاية القرن الثانى عشر ثم عرفت انتفاضة جديدة مع ظهور الدولة العثمانية وتوسعها حتى منتصف القرن السابع عشر. وفى كل هذا كانت أوروبا نائمة حتى نهضت مع الثورة الصناعية منذ النصف الثانى للقرن الثامن عشر، وأخضعت معظم مناطق العالم لنفوذها.
الثورة الصناعية ورخاء الشعوب:
يذهب الاتجاه الغالب، خصوصا بين الاقتصاديين، إلى أن الصحوة الأوروبية التى أخرجتها من سباتها إنما ترجع إلى «الثورة الصناعية» والتى بدأت فى انجلترا فى منتصف القرن الثامن عشر ومنها انتقلت إلى معظم الدول الأوروبية الغربية، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية فى نهاية القرن التاسع عشر.
وليس هناك من شك فى أن «الثورة الصناعية» تمثل أهم وأخطر تطور فى حياة البشرية. ولايرجع ذلك لأن هذه الثورة أفرزت أنماطا هائلة من التقدم التكنولوجى الذى أدى إلى زيادة إنتاجية البشر. فالحقيقة أن البشرية عرفت فى معظم تاريخها أشكالا متنوعة من التقدم التكنولوجى. فالإنتاجية كانت تتزايد باستمرار قبل وبعد الثورة الصناعية. ولكن الفارق بين الثورة الصناعية وما قبلها هو أن نتائج التقدم التكنولوجى مع هذه الثورة لم تنحصر فى تحسين أحوال الأقليات الحاكمة، وإنما انتشرت بدرجات متزايدة للارتفاع بمستوى المعيشة للغالبية.
عرفت البشرية تقدما تكنولوجيا كبيرا مع اكتشاف الزراعة قبل حوالى عشرة آلاف سنة مما أدى إلى ظهور حضارات عريقة فى مصر الفرعونية أو فى بلاد ما بين النهرين أو فى الصين والهند، ومع ذلك ظل التحسن فى الأوضاع المعيشية بعيدا عن العامة ومحصورا فى الأقليات الحاكمة، يستوى فى ذلك فرعون مصر وحاشيته من أمراء ونبلاء وكهنة، أو ملوك الفرس وبلاط كسرى وبطانته من رجال دين، بل إن ديمقراطية أثينا والمدن الإغريقية كانت محصورة فى أقلية من الأحرار فى وسط جموع غفيرة من العبيد والأجانب. فالعالم لما قبل الصناعة كان عالم الأقليات المحظوظة والغالبية المطحونة والتى تعيش عند مستوى الكفاف. فالتقدم التكنولوجى لما قبل الثورة الصناعية اقتصر على توفير مظاهر الترف، إن لم يكن الإسراف، للأقلية المحظوظة من الحكام والكهنة فى حين ظلت الغالبية العظمى من أفراد الشعوب تعيش فى فقر مدقع وجهل تام وغالبا أمراض متوطنة. فالجديد هو أنه مع الثورة الصناعية أدت الزيادة فى الإنتاجية إلى مزيد من الرفاهية لأعداد متزايدة من الشعوب. فتوسعت الطبقة المتوسطة فى دول أوروبا الغربية وخاصة منذ القرن التاسع عشر كما تحسنت أحوال الجماهير الواسعة فى معظم شعوب الدول الصناعية فى القرن العشرين. ولذلك فإن أهمية الصناعة ترجع إلى اتجاهها إلى توسيع قاعدة المستفيدين من زيادة الإنتاجية مما أدى إلى تحسن مستوى معيشة الغالبية من السكان.
علم الاقتصاد ولد مع الثورة الصناعية:
لعله من دواعى السخرية أن الاقتصادى الإنجليزى مالتس والذى كتب فى بداية القرن التاسع عشر مبشرا أو بالأحرى منذرا بأنه لا مجال للارتفاع بمستويات المعيشة للفقراء، لأن كل زيادة فى الأجور للطبقة العاملة لن تلبث أن تؤدى إلى زيادة فى عدد السكان تلتهم أية زيادة فى الإنتاجية. ووجه الغرابة فى نظرية مالتس هو أنها ظهرت مع بداية الثورة الصناعية فى إنجلترا بلد هذه الثورة والتى أدت إلى فصم العلاقة بين زيادة الإنتاجية وبالتالى الأجور وبين الزيادة السكانية. فلأول مرة فى التاريخ تؤدى الزيادة فى الإنتاجية الناجمة عن «الثورة الصناعية» إلى الارتفاع بمستوى المعيشة لدى العامة. فمالتس كان يصف فى الواقع دون أن يدرى المجتمعات ما قبل الصناعية، وحيث تؤدى كل زيادة فى الموارد الغذائية إلى زيادة مقابلة فى السكان.
فنظرية مالتس تتحدث عن الكائنات الحية بصفة عامة دون تمييز خاص للبشر. «فالاقتصاد المالتسى» هو على هذا النحو «اقتصاد حيوانى» يفسر أوضاع المجتمعات البشرية على نحو لا يختلف كثيرا عما يحدث فى عالم الحيوانات من أرانب أو فئران أو غيرها، وحيث تتحدد أعدادها بحجم الموارد الغذائية المتاحة. وهو أمر لم يعد صحيحا بعد «الثورة الصناعية» والتى أدت إلى تحسين أحوال الغالبية. وإذا كان مالتس هو بذلك، صوت الماضى، فقد كان آدم سميث وهو يتحدث عن «ثروة الأمم» هو الاقتصادى الذى أدرك طبيعة الاقتصاد الصناعى وقدرته على زيادة الإنتاجية وتوسيع قاعدة الإفادة منها ورفع مستويات المعيشة لأعداد متزايدة من السكان. فالاقتصاد يبحث فى زيادة الإنتاجية وتحسين الأحوال المعيشية للبشر.
الثورة الصناعية وليدة حركة التنوير:
لم تبدأ الثورة الصناعية فجأة لأن عددا من الأفراد قرروا تجريب وسائل جديدة للإنتاج، أو قبول بعض المغامرة فى مجالات مختلفة لنشاطهم، وإنما لأن هناك جوا فكريا تخلص إلى حد بعيد من سطوة القديم والتقاليد مع قبول الجديد والمبتكر، وبوجه خاص الثقة فى العلم والتجريب. وكلها أمور غريبة عن المجتمعات التقليدية الراكدة.
بدأت فى أوروبا، وخصوصا منذ القرن السادس عشر، حركة فكرية تعارض الأوضاع القائمة وتطرح أسئلة وتساؤلات عن التقاليد السائدة. ولعل أبرز هذه الحركات ما بدأ مع دعوات الإصلاح الدينى مع مارتن لوثر وكالفن فى القرن السادس عشر. وكان المجتمع الأوروبى يعيش فى بيئة منغلقة خاضعة تماما للتقاليد تحت رعاية وإشراف الكنيسة، بحيث كان رجل الدين هو المرجع فى كل شىء، وكانت حياة المرء محكومة كليا بالكنيسة منذ المهد إلى اللحد. وكان من أوائل من حاولوا الخروج على هذا الخط الحديدى إرازموس الهولندى، وكان كاثوليكيا ورعا، وقد راعه ما رأى من تسلط الكنيسة على حياة الأفراد فكتب ضد انحرافاتها مما كلفه الطرد من الكنيسة (بعد وفاته)، على يد البابا بولس الرابع. على أن بداية الهجوم على الأسس الفكرية لهذا المجتمع التقليدى بدأت مع الفيلسوف الفرنسى ديكارت والذى عاش فى أغلب أوقاته طريدا فى هولندا حيث بين أن العلم يبدأ «بالشك» فيما يصادفه العالم من مقولات، وعليه محاولة إقامة البرهان بالتجربة والتحليل الرياضى على صحة هذه المقولات. وقد ظل ديكارت مع ذلك على عقيدته المسيحية مؤكدا أنها لا تتنافى مع العقل السليم.
ثم جاء الهولندى سبينوزا ووجه أخطر هجوم على النسق الفكرى السائد وذلك بإنكار الكتب المقدسة والوحى والمعجزات، والتأكيد على وحدة الوجود وأبديته. ورغم هذا، أنكر سبينوزا إلحاده وأكد إيمانه بالخالق. ومع ذلك ظلت تهمة الإلحاد لاصقة به. وإذا كان سبينوزا يمثل الجناح الأكثر راديكالية وتطرفا، فقد عرفت الحركة التنويرية رموزا أقل تطرفا، ومع تأكيدها على أهمية العقل والعلم والتجربة فإنها لم تذهب إلى إنكار الأديان. وكان من أهم هؤلاء ليبنز الفيلسوف والرياضى الألمانى والذى اكتشف مع نيوتن التحليل الرياضى. وقد رفض ليبنز إلحاد سبينوزا. ويمكن القول بأن المجتمع الأوروبى انقسم لفترة طويلة بين مؤيد لنيوتن ومناصر لليبنز. وإن كان يمكن القول بأن المفكرين الإنجليز والذين جاءوا متأخرين إلى الساحة التنويرية ربما يكونوا قد كسبوا الجولة الأخيرة خاصة مع نيوتن وجون لوك. فمع نيوتن بلغ «العلم»، خصوصا فى الفيزياء، أعلى درجات الاحترام، ولكن نيوتن لم يصل إلى إنكار الأديان مبينا أن هناك مجالا للعناية الإلهية. فالعلم وفقا له يفسر الظواهر ولكنه لا يصل إلى أسبابها وجوهرها. فنحن نتعامل مع قوانين الجاذبية مثلا، ولكننا لا نفهم ولا نعرف أسباب هذه الظاهرة أو غايتها. وهكذا جاء نيوتن رافعا لشأن العلم دون أن ينكر الأديان. وبالمثل أرسى لوك أهم مبادئ حقوق الإنسان وحريته دون تشكيك فى الأديان، وكان فرانسيس بيكون قد أرسى من قبل أهمية التجربة فى تقدم العلوم.
وهكذا يتضح أن «الثورة الصناعية» لم تبدأ من فراغ ولا هى قامت مباشرة على أنقاض المجتمعات التقليدية للعصور الوسطى، بل تطلب الأمر مرحلة تنويرية وسطى من تغيير المفاهيم والقضاء على التراث الثقافى التقليدى واستعادة اعتبار العلم والعقل والاعتراف بحقوق وحريات الإفراد الأساسية ومهاجمة نظم الحكم القديمة ومؤسساتها فى الحكم المطلق وتسلط الكنيسة فيما عرف «بحركة التنوير». وجاءت آخر حلقات هذه الحركة التنويرية مع الفلاسفة الفرنسيين من فولتير ومونتسكيو وروسو وأصحاب الموسوعات من أمثال ديدرو ودالمبير، وتوج كل ذلك بقيام الثورة الفرنسية. وهكذا يتضح أن «الثورة الصناعية» لم تولد من فراغ وكان لابد لها من أرضية فكرية تنويرية سليمة.
بين حركة التنوير الأوروبية والمجتمع العربى المعاصر:
هناك ملاحظتان تستوقفان الباحث عند النظر فى «حركة التنوير» الأوربية. الملاحظة الأولى، هى أن هذه الحركة كانت حركة فكرية «أوروبية»، بمعنى أنها لم تنحصر فى دولة أو دول محددة بل شارك فيها معظم الدول الأوروبية، وساهم كل منها بشكل أو بآخر. ويرتبط بهذا أنه وبصرف النظر عن جنسية المفكر، الذى قد يكون هولنديا أو فرنسيا أو ألمانيا أو غير ذلك، فإن أفكاره لن تلبث أن تنتشر على اتساع القارة الأوروبية. فما إن يظهر كتاب جديد حتى يترجم وينتشر ويناقش فى مختلف الدول الأخرى. فالحركة فى جوهرها أوروبية رغم انقسام أوروبا حينذاك إلى ممالك وإمارات متناحرة فى حروب مستمرة وتحالفات متغيرة. فرغم هذا الانقسام السياسى وأحيانا الدينى بين كاثوليك وبروتستانت وأحيانا أرثوذوكس، فقد جاءت «حركة التنوير» حركة شاملة لمعظم القارة الأوروبية. ولعل هذا التراث الفكرى المشترك هو الذى يبرر ما نراه اليوم من تقارب وتوحد فى أوروبا وبعد أكثر من ثلاثة قرون من الصراع والحروب. هناك أرضية ثقافية مشتركة.
أما الملاحظة الثانية فهى أن حركة التنوير الأوروبية كانت موجهة بالدرجة الأولى ضد الكنيسة. فالكنيسة وكذا الملكية المطلقة كانت متسلطة على الأفكار والقيم وقواعد السلوك، وكانت سيطرتها على العقول شبه كاملة. فالكتاب المقدس لم يكن متاحا إلا باليونانية أو اللاتينية، ولم توجد ترجمات باللغات المحلية إلا فى أوقات متأخرة، بحيث كان الفرد يتقيد بتعاليم دينية تفرضها الكنيسة وبلغة لا يستطيع أن يفهمها. ولم يكن غريبا والحال كذلك أن تأتى حركة التنوير مناهضة فى بعض توجهاتها ليس للكنسية فقط بل وأحيانا للأديان أيضا.
وفى ضوء هاتين الملاحظتين يتضح لنا أن الوضع العربى الحالى يتفق فى جانب مع هذا التاريخ الأوروبى ويختلف فى جانب آخر.
فإذا نظرنا إلى المجتمع العربى المعاصر نجد أنه مشتت بين عدد من الدول المتناحرة والمتنازعة أحيانا على المستوى السياسى، ولكن هناك بالمقابل، وحدة ثقافية إلى حد بعيد، تتجاوز الحدود السياسية. فشوقى وطه حسين ورفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وخليل جبران ونقولا زيادة وجورج زيدان ونجيب محفوظ ونزار قبانى والجواهرى ومالك بن نبى وساطع العصرى وقاسم أمين وغيرهم هم رواد الفكر العربى المعاصر، كما أن أم كلثوم وسيد درويش وعبد الوهاب وفريد الأطرش وفيروز وأسمهان والريحانى وجورج أبيض هم رواد الغناء والمسرح، والقائمة طويلة. وقد جاءت السينما والراديو وأخيرا التليفزيون لتوثيق هذه الروابط الثقافية بشكل أكبر. ولعل الميزة الكبرى للثقافة العربية هى أنها تستند إلى لغة عربية واحدة. ومن هذه الناحية يمكن القول بأن المجتمع العربى المعاصر لا يختلف كثيرا عن المجتمع الأوروبى إبان حركة التنوير. حقا، هناك انقسام وتشتت سياسى، ولكن هناك وحدة ثقافية إلى حد بعيد، تدعمها وحدة اللغة العربية.
وأما الملاحظة الثانية فهى أنه نظرا لأن الدين الإسلامى لا يعرف كنسية ولا كهانة تتدخل فى الحياة اليومية للبشر، لذلك لم يأخذ الفكر العربى التنويرى باتجاهات معادية للإسلام كما كان الحال مع حركة التنوير الأوروبية، بل إن عددا من رواد التنوير العربى كانوا من رجال الدين. ومع ذلك ورغم عدم وجود كنيسة فى الإسلام فإن ذلك لم يمنع من ظهور اتجاهات فكرية سلفية تعارض الجديد باسم الدين والتقاليد.
وقد بدأت حركة التنوير العربية على حياء منذ منتصف القرن التاسع عشر وتعمقت فى النصف الأول من القرن العشرين، لتتراجع فى النصف الثانى من ذلك القرن نتيجة لغلبة النظم السياسية القمعية مما ساعد أيضا على غلبة العقلية الشمولية وبالتالى بروز التيارات المناوئة للحرية.
بدون حركة تنوير حقيقية توفر حرية الرأى والاعتقاد وترسِّخ النظرة العلمية وتقوم على التسامح واحترام حقوق الآخر، فإنه يصعب تحقيق أى نهضة حقيقية، ويظل الحديث عن «ثورة صناعية» عربية مجرد ثرثرة. والله أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.