«مستقبل وطن».. أمانة الشباب تناقش الملفات التنظيمية والحزبية مع قيادات المحافظات    تفاصيل حفل توزيع جوائز "صور القاهرة التي التقطها المصورون الأتراك" في السفارة التركية بالقاهرة    200 يوم.. قرار عاجل من التعليم لصرف مكافأة امتحانات صفوف النقل والشهادة الإعدادية 2025 (مستند)    سعر الذهب اليوم الإثنين 28 أبريل محليا وعالميا.. عيار 21 الآن بعد الانخفاض الأخير    فيتنام: زيارة رئيس الوزراء الياباني تفتح مرحلة جديدة في الشراكة الشاملة بين البلدين    محافظ الدقهلية في جولة ليلية:يتفقد مساكن الجلاء ويؤكد على الانتهاء من تشغيل المصاعد وتوصيل الغاز ومستوى النظافة    شارك صحافة من وإلى المواطن    رسميا بعد التحرك الجديد.. سعر الدولار اليوم مقابل الجنيه المصري اليوم الإثنين 28 أبريل 2025    لن نكشف تفاصيل ما فعلناه أو ما سنفعله، الجيش الأمريكي: ضرب 800 هدف حوثي منذ بدء العملية العسكرية    الإمارت ترحب بتوقيع إعلان المبادئ بين الكونغو الديمقراطية ورواندا    استشهاد 14 فلسطينيًا جراء قصف الاحتلال مقهى ومنزلًا وسط وجنوب قطاع غزة    رئيس الشاباك: إفادة نتنياهو المليئة بالمغالطات هدفها إخراج الأمور عن سياقها وتغيير الواقع    'الفجر' تنعى والد الزميلة يارا أحمد    خدم المدينة أكثر من الحكومة، مطالب بتدشين تمثال لمحمد صلاح في ليفربول    في أقل من 15 يومًا | "المتحدة للرياضة" تنجح في تنظيم افتتاح مبهر لبطولة أمم إفريقيا    وزير الرياضة وأبو ريدة يهنئان المنتخب الوطني تحت 20 عامًا بالفوز على جنوب أفريقيا    مواعيد أهم مباريات اليوم الإثنين 28- 4- 2025 في جميع البطولات والقنوات الناقلة    جوميز يرد على أنباء مفاوضات الأهلي: تركيزي بالكامل مع الفتح السعودي    «بدون إذن كولر».. إعلامي يكشف مفاجأة بشأن مشاركة أفشة أمام صن داونز    مأساة في كفر الشيخ| مريض نفسي يطعن والدته حتى الموت    اليوم| استكمال محاكمة نقيب المعلمين بتهمة تقاضي رشوة    بالصور| السيطرة على حريق مخلفات وحشائش بمحطة السكة الحديد بطنطا    بالصور.. السفير التركي يكرم الفائز بأجمل صورة لمعالم القاهرة بحضور 100 مصور تركي    بعد بلال سرور.. تامر حسين يعلن استقالته من جمعية المؤلفين والملحنين المصرية    حالة من الحساسية الزائدة والقلق.. حظ برج القوس اليوم 28 أبريل    امنح نفسك فرصة.. نصائح وحظ برج الدلو اليوم 28 أبريل    أول ظهور لبطل فيلم «الساحر» بعد اعتزاله منذ 2003.. تغير شكله تماما    حقيقة انتشار الجدري المائي بين تلاميذ المدارس.. مستشار الرئيس للصحة يكشف (فيديو)    نيابة أمن الدولة تخلي سبيل أحمد طنطاوي في قضيتي تحريض على التظاهر والإرهاب    إحالة أوراق متهم بقتل تاجر مسن بالشرقية إلى المفتي    إنقاذ طفلة من الغرق في مجرى مائي بالفيوم    إنفوجراف| أرقام استثنائية تزين مسيرة صلاح بعد لقب البريميرليج الثاني في ليفربول    رياضة ½ الليل| فوز فرعوني.. صلاح بطل.. صفقة للأهلي.. أزمة جديدة.. مرموش بالنهائي    دمار وهلع ونزوح كثيف ..قصف صهيونى عنيف على الضاحية الجنوبية لبيروت    نتنياهو يواصل عدوانه على غزة: إقامة دولة فلسطينية هي فكرة "عبثية"    أهم أخبار العالم والعرب حتى منتصف الليل.. غارات أمريكية تستهدف مديرية بصنعاء وأخرى بعمران.. استشهاد 9 فلسطينيين في قصف للاحتلال على خان يونس ومدينة غزة.. نتنياهو: 7 أكتوبر أعظم فشل استخباراتى فى تاريخ إسرائيل    29 مايو، موعد عرض فيلم ريستارت بجميع دور العرض داخل مصر وخارجها    الملحن مدين يشارك ليلى أحمد زاهر وهشام جمال فرحتهما بحفل زفافهما    خبير لإكسترا نيوز: صندوق النقد الدولى خفّض توقعاته لنمو الاقتصاد الأمريكى    «عبث فكري يهدد العقول».. سعاد صالح ترد على سعد الدين الهلالي بسبب المواريث (فيديو)    اليوم| جنايات الزقازيق تستكمل محاكمة المتهم بقتل شقيقه ونجليه بالشرقية    نائب «القومي للمرأة» تستعرض المحاور الاستراتيجية لتمكين المرأة المصرية 2023    محافظ القليوبية يبحث مع رئيس شركة جنوب الدلتا للكهرباء دعم وتطوير البنية التحتية    خطوات استخراج رقم جلوس الثانوية العامة 2025 من مواقع الوزارة بالتفصيل    البترول: 3 فئات لتكلفة توصيل الغاز الطبيعي للمنازل.. وإحداها تُدفَع كاملة    نجاح فريق طبي في استئصال طحال متضخم يزن 2 كجم من مريضة بمستشفى أسيوط العام    حقوق عين شمس تستضيف مؤتمر "صياغة العقود وآثارها على التحكيم" مايو المقبل    "بيت الزكاة والصدقات": وصول حملة دعم حفظة القرآن الكريم للقرى الأكثر احتياجًا بأسوان    علي جمعة: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم أمرٌ إلهي.. وما عظّمنا محمدًا إلا بأمر من الله    تكريم وقسم وكلمة الخريجين.. «طب بنها» تحتفل بتخريج الدفعة السابعة والثلاثين (صور)    صحة الدقهلية تناقش بروتوكول التحويل للحالات الطارئة بين مستشفيات المحافظة    الإفتاء تحسم الجدل حول مسألة سفر المرأة للحج بدون محرم    ماذا يحدث للجسم عند تناول تفاحة خضراء يوميًا؟    هيئة كبار العلماء السعودية: من حج بدون تصريح «آثم»    كارثة صحية أم توفير.. معايير إعادة استخدام زيت الطهي    سعر الحديد اليوم الأحد 27 -4-2025.. الطن ب40 ألف جنيه    خلال جلسة اليوم .. المحكمة التأديبية تقرر وقف طبيبة كفر الدوار عن العمل 6 أشهر وخصم نصف المرتب    البابا تواضروس يصلي قداس «أحد توما» في كنيسة أبو سيفين ببولندا    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النهضة الصناعية وحركة التنوير
نشر في الشروق الجديد يوم 23 - 03 - 2009


التقدم ظاهرة اجتماعية:
تؤكد الدراسات العلمية أن الجماعات الإنسانية متماثلة بيولوجيا وأنهم يتمتعون بصفة عامة بنفس القدرات الذهنية والبدنية وأنه لا تميز لجنس على آخر. وليس معنى ذلك أن جميع الأفراد متماثلون، فهناك الذكى والأقل ذكاء كما أن هناك القوى والضعيف. فالأفراد ليسوا متساوين فى القدرات والمهارات، وإن كانت الجماعات تتقارب وتتشابه فى نسب الذكاء والإبداع كما فى الكسل والخمول.
كذلك ليس صحيحا أن التقدم والتأخر هو وليد الوفرة أو الندرة فى الموارد الطبيعية. فأكثر الدول تقدما اقتصاديا حاليا هى الولايات المتحدة واليابان، وهما على طرفى نقيض من حيث الندرة أو الوفرة فى الموارد الطبيعية. فتتمتع الولايات المتحدة الأمريكية بالوفرة فى كل مصادر الموارد الطبيعية تقريبا فى حين لا تكاد تتمتع اليابان بأى منها. كذلك علمنا التاريخ أن حظوظ الدول من الرقى والانحطاط كانت متغيرة، فكم من دولة عرفت ازدهارا فى فترة لكى تقع بعد ذلك فى تدهور وانحطاط، رغم أن مواردها الطبيعية لم تتغير بين المرحلتين.
وهكذا فإن الرقى والانحطاط لا يرجع إلى خصائص بيولوجية فى البشر ولا إلى وفرة أو ندرة فى الموارد وإنما إلى ظروف مجتمعية تدعو إلى التقدم والرقى فى حالة أو إلى التدهور والانحطاط فى حالة أخرى. وتعتبر تجربة أوربا والغرب بصفة عامة مثيرة فى هذا الصدد.
أوربا تتسيد العالم مع الثورة الصناعية:
تسيطر أوربا، والغرب بصفة عامة، على معظم الإنجازات الاقتصادية والتكنولوجية وهى تقود التقدم منذ أقل من ثلاثة قرون، وإن كانت بوادر الوهن قد بدأت تظهر عليها. فحتى القرن السابع عشر كانت حضارة الصين هى الأكثر رقيا وتقدما، وكانت أوروبا ممزقة تجاهد للتخلص من تبعات ظلام العصور الوسطى والتى سادت منذ سقوط الدولة الرومانية فى نهاية القرن الخامس الميلادى. وبعد ذلك بقليل قامت الحضارة الإسلامية وازدهرت بدءا من القرن الثامن وحتى نهاية القرن الثانى عشر ثم عرفت انتفاضة جديدة مع ظهور الدولة العثمانية وتوسعها حتى منتصف القرن السابع عشر. وفى كل هذا كانت أوروبا نائمة حتى نهضت مع الثورة الصناعية منذ النصف الثانى للقرن الثامن عشر، وأخضعت معظم مناطق العالم لنفوذها.
الثورة الصناعية ورخاء الشعوب:
يذهب الاتجاه الغالب، خصوصا بين الاقتصاديين، إلى أن الصحوة الأوروبية التى أخرجتها من سباتها إنما ترجع إلى «الثورة الصناعية» والتى بدأت فى انجلترا فى منتصف القرن الثامن عشر ومنها انتقلت إلى معظم الدول الأوروبية الغربية، وإلى الولايات المتحدة الأمريكية فى نهاية القرن التاسع عشر.
وليس هناك من شك فى أن «الثورة الصناعية» تمثل أهم وأخطر تطور فى حياة البشرية. ولايرجع ذلك لأن هذه الثورة أفرزت أنماطا هائلة من التقدم التكنولوجى الذى أدى إلى زيادة إنتاجية البشر. فالحقيقة أن البشرية عرفت فى معظم تاريخها أشكالا متنوعة من التقدم التكنولوجى. فالإنتاجية كانت تتزايد باستمرار قبل وبعد الثورة الصناعية. ولكن الفارق بين الثورة الصناعية وما قبلها هو أن نتائج التقدم التكنولوجى مع هذه الثورة لم تنحصر فى تحسين أحوال الأقليات الحاكمة، وإنما انتشرت بدرجات متزايدة للارتفاع بمستوى المعيشة للغالبية.
عرفت البشرية تقدما تكنولوجيا كبيرا مع اكتشاف الزراعة قبل حوالى عشرة آلاف سنة مما أدى إلى ظهور حضارات عريقة فى مصر الفرعونية أو فى بلاد ما بين النهرين أو فى الصين والهند، ومع ذلك ظل التحسن فى الأوضاع المعيشية بعيدا عن العامة ومحصورا فى الأقليات الحاكمة، يستوى فى ذلك فرعون مصر وحاشيته من أمراء ونبلاء وكهنة، أو ملوك الفرس وبلاط كسرى وبطانته من رجال دين، بل إن ديمقراطية أثينا والمدن الإغريقية كانت محصورة فى أقلية من الأحرار فى وسط جموع غفيرة من العبيد والأجانب. فالعالم لما قبل الصناعة كان عالم الأقليات المحظوظة والغالبية المطحونة والتى تعيش عند مستوى الكفاف. فالتقدم التكنولوجى لما قبل الثورة الصناعية اقتصر على توفير مظاهر الترف، إن لم يكن الإسراف، للأقلية المحظوظة من الحكام والكهنة فى حين ظلت الغالبية العظمى من أفراد الشعوب تعيش فى فقر مدقع وجهل تام وغالبا أمراض متوطنة. فالجديد هو أنه مع الثورة الصناعية أدت الزيادة فى الإنتاجية إلى مزيد من الرفاهية لأعداد متزايدة من الشعوب. فتوسعت الطبقة المتوسطة فى دول أوروبا الغربية وخاصة منذ القرن التاسع عشر كما تحسنت أحوال الجماهير الواسعة فى معظم شعوب الدول الصناعية فى القرن العشرين. ولذلك فإن أهمية الصناعة ترجع إلى اتجاهها إلى توسيع قاعدة المستفيدين من زيادة الإنتاجية مما أدى إلى تحسن مستوى معيشة الغالبية من السكان.
علم الاقتصاد ولد مع الثورة الصناعية:
لعله من دواعى السخرية أن الاقتصادى الإنجليزى مالتس والذى كتب فى بداية القرن التاسع عشر مبشرا أو بالأحرى منذرا بأنه لا مجال للارتفاع بمستويات المعيشة للفقراء، لأن كل زيادة فى الأجور للطبقة العاملة لن تلبث أن تؤدى إلى زيادة فى عدد السكان تلتهم أية زيادة فى الإنتاجية. ووجه الغرابة فى نظرية مالتس هو أنها ظهرت مع بداية الثورة الصناعية فى إنجلترا بلد هذه الثورة والتى أدت إلى فصم العلاقة بين زيادة الإنتاجية وبالتالى الأجور وبين الزيادة السكانية. فلأول مرة فى التاريخ تؤدى الزيادة فى الإنتاجية الناجمة عن «الثورة الصناعية» إلى الارتفاع بمستوى المعيشة لدى العامة. فمالتس كان يصف فى الواقع دون أن يدرى المجتمعات ما قبل الصناعية، وحيث تؤدى كل زيادة فى الموارد الغذائية إلى زيادة مقابلة فى السكان.
فنظرية مالتس تتحدث عن الكائنات الحية بصفة عامة دون تمييز خاص للبشر. «فالاقتصاد المالتسى» هو على هذا النحو «اقتصاد حيوانى» يفسر أوضاع المجتمعات البشرية على نحو لا يختلف كثيرا عما يحدث فى عالم الحيوانات من أرانب أو فئران أو غيرها، وحيث تتحدد أعدادها بحجم الموارد الغذائية المتاحة. وهو أمر لم يعد صحيحا بعد «الثورة الصناعية» والتى أدت إلى تحسين أحوال الغالبية. وإذا كان مالتس هو بذلك، صوت الماضى، فقد كان آدم سميث وهو يتحدث عن «ثروة الأمم» هو الاقتصادى الذى أدرك طبيعة الاقتصاد الصناعى وقدرته على زيادة الإنتاجية وتوسيع قاعدة الإفادة منها ورفع مستويات المعيشة لأعداد متزايدة من السكان. فالاقتصاد يبحث فى زيادة الإنتاجية وتحسين الأحوال المعيشية للبشر.
الثورة الصناعية وليدة حركة التنوير:
لم تبدأ الثورة الصناعية فجأة لأن عددا من الأفراد قرروا تجريب وسائل جديدة للإنتاج، أو قبول بعض المغامرة فى مجالات مختلفة لنشاطهم، وإنما لأن هناك جوا فكريا تخلص إلى حد بعيد من سطوة القديم والتقاليد مع قبول الجديد والمبتكر، وبوجه خاص الثقة فى العلم والتجريب. وكلها أمور غريبة عن المجتمعات التقليدية الراكدة.
بدأت فى أوروبا، وخصوصا منذ القرن السادس عشر، حركة فكرية تعارض الأوضاع القائمة وتطرح أسئلة وتساؤلات عن التقاليد السائدة. ولعل أبرز هذه الحركات ما بدأ مع دعوات الإصلاح الدينى مع مارتن لوثر وكالفن فى القرن السادس عشر. وكان المجتمع الأوروبى يعيش فى بيئة منغلقة خاضعة تماما للتقاليد تحت رعاية وإشراف الكنيسة، بحيث كان رجل الدين هو المرجع فى كل شىء، وكانت حياة المرء محكومة كليا بالكنيسة منذ المهد إلى اللحد. وكان من أوائل من حاولوا الخروج على هذا الخط الحديدى إرازموس الهولندى، وكان كاثوليكيا ورعا، وقد راعه ما رأى من تسلط الكنيسة على حياة الأفراد فكتب ضد انحرافاتها مما كلفه الطرد من الكنيسة (بعد وفاته)، على يد البابا بولس الرابع. على أن بداية الهجوم على الأسس الفكرية لهذا المجتمع التقليدى بدأت مع الفيلسوف الفرنسى ديكارت والذى عاش فى أغلب أوقاته طريدا فى هولندا حيث بين أن العلم يبدأ «بالشك» فيما يصادفه العالم من مقولات، وعليه محاولة إقامة البرهان بالتجربة والتحليل الرياضى على صحة هذه المقولات. وقد ظل ديكارت مع ذلك على عقيدته المسيحية مؤكدا أنها لا تتنافى مع العقل السليم.
ثم جاء الهولندى سبينوزا ووجه أخطر هجوم على النسق الفكرى السائد وذلك بإنكار الكتب المقدسة والوحى والمعجزات، والتأكيد على وحدة الوجود وأبديته. ورغم هذا، أنكر سبينوزا إلحاده وأكد إيمانه بالخالق. ومع ذلك ظلت تهمة الإلحاد لاصقة به. وإذا كان سبينوزا يمثل الجناح الأكثر راديكالية وتطرفا، فقد عرفت الحركة التنويرية رموزا أقل تطرفا، ومع تأكيدها على أهمية العقل والعلم والتجربة فإنها لم تذهب إلى إنكار الأديان. وكان من أهم هؤلاء ليبنز الفيلسوف والرياضى الألمانى والذى اكتشف مع نيوتن التحليل الرياضى. وقد رفض ليبنز إلحاد سبينوزا. ويمكن القول بأن المجتمع الأوروبى انقسم لفترة طويلة بين مؤيد لنيوتن ومناصر لليبنز. وإن كان يمكن القول بأن المفكرين الإنجليز والذين جاءوا متأخرين إلى الساحة التنويرية ربما يكونوا قد كسبوا الجولة الأخيرة خاصة مع نيوتن وجون لوك. فمع نيوتن بلغ «العلم»، خصوصا فى الفيزياء، أعلى درجات الاحترام، ولكن نيوتن لم يصل إلى إنكار الأديان مبينا أن هناك مجالا للعناية الإلهية. فالعلم وفقا له يفسر الظواهر ولكنه لا يصل إلى أسبابها وجوهرها. فنحن نتعامل مع قوانين الجاذبية مثلا، ولكننا لا نفهم ولا نعرف أسباب هذه الظاهرة أو غايتها. وهكذا جاء نيوتن رافعا لشأن العلم دون أن ينكر الأديان. وبالمثل أرسى لوك أهم مبادئ حقوق الإنسان وحريته دون تشكيك فى الأديان، وكان فرانسيس بيكون قد أرسى من قبل أهمية التجربة فى تقدم العلوم.
وهكذا يتضح أن «الثورة الصناعية» لم تبدأ من فراغ ولا هى قامت مباشرة على أنقاض المجتمعات التقليدية للعصور الوسطى، بل تطلب الأمر مرحلة تنويرية وسطى من تغيير المفاهيم والقضاء على التراث الثقافى التقليدى واستعادة اعتبار العلم والعقل والاعتراف بحقوق وحريات الإفراد الأساسية ومهاجمة نظم الحكم القديمة ومؤسساتها فى الحكم المطلق وتسلط الكنيسة فيما عرف «بحركة التنوير». وجاءت آخر حلقات هذه الحركة التنويرية مع الفلاسفة الفرنسيين من فولتير ومونتسكيو وروسو وأصحاب الموسوعات من أمثال ديدرو ودالمبير، وتوج كل ذلك بقيام الثورة الفرنسية. وهكذا يتضح أن «الثورة الصناعية» لم تولد من فراغ وكان لابد لها من أرضية فكرية تنويرية سليمة.
بين حركة التنوير الأوروبية والمجتمع العربى المعاصر:
هناك ملاحظتان تستوقفان الباحث عند النظر فى «حركة التنوير» الأوربية. الملاحظة الأولى، هى أن هذه الحركة كانت حركة فكرية «أوروبية»، بمعنى أنها لم تنحصر فى دولة أو دول محددة بل شارك فيها معظم الدول الأوروبية، وساهم كل منها بشكل أو بآخر. ويرتبط بهذا أنه وبصرف النظر عن جنسية المفكر، الذى قد يكون هولنديا أو فرنسيا أو ألمانيا أو غير ذلك، فإن أفكاره لن تلبث أن تنتشر على اتساع القارة الأوروبية. فما إن يظهر كتاب جديد حتى يترجم وينتشر ويناقش فى مختلف الدول الأخرى. فالحركة فى جوهرها أوروبية رغم انقسام أوروبا حينذاك إلى ممالك وإمارات متناحرة فى حروب مستمرة وتحالفات متغيرة. فرغم هذا الانقسام السياسى وأحيانا الدينى بين كاثوليك وبروتستانت وأحيانا أرثوذوكس، فقد جاءت «حركة التنوير» حركة شاملة لمعظم القارة الأوروبية. ولعل هذا التراث الفكرى المشترك هو الذى يبرر ما نراه اليوم من تقارب وتوحد فى أوروبا وبعد أكثر من ثلاثة قرون من الصراع والحروب. هناك أرضية ثقافية مشتركة.
أما الملاحظة الثانية فهى أن حركة التنوير الأوروبية كانت موجهة بالدرجة الأولى ضد الكنيسة. فالكنيسة وكذا الملكية المطلقة كانت متسلطة على الأفكار والقيم وقواعد السلوك، وكانت سيطرتها على العقول شبه كاملة. فالكتاب المقدس لم يكن متاحا إلا باليونانية أو اللاتينية، ولم توجد ترجمات باللغات المحلية إلا فى أوقات متأخرة، بحيث كان الفرد يتقيد بتعاليم دينية تفرضها الكنيسة وبلغة لا يستطيع أن يفهمها. ولم يكن غريبا والحال كذلك أن تأتى حركة التنوير مناهضة فى بعض توجهاتها ليس للكنسية فقط بل وأحيانا للأديان أيضا.
وفى ضوء هاتين الملاحظتين يتضح لنا أن الوضع العربى الحالى يتفق فى جانب مع هذا التاريخ الأوروبى ويختلف فى جانب آخر.
فإذا نظرنا إلى المجتمع العربى المعاصر نجد أنه مشتت بين عدد من الدول المتناحرة والمتنازعة أحيانا على المستوى السياسى، ولكن هناك بالمقابل، وحدة ثقافية إلى حد بعيد، تتجاوز الحدود السياسية. فشوقى وطه حسين ورفاعة الطهطاوى ومحمد عبده وخليل جبران ونقولا زيادة وجورج زيدان ونجيب محفوظ ونزار قبانى والجواهرى ومالك بن نبى وساطع العصرى وقاسم أمين وغيرهم هم رواد الفكر العربى المعاصر، كما أن أم كلثوم وسيد درويش وعبد الوهاب وفريد الأطرش وفيروز وأسمهان والريحانى وجورج أبيض هم رواد الغناء والمسرح، والقائمة طويلة. وقد جاءت السينما والراديو وأخيرا التليفزيون لتوثيق هذه الروابط الثقافية بشكل أكبر. ولعل الميزة الكبرى للثقافة العربية هى أنها تستند إلى لغة عربية واحدة. ومن هذه الناحية يمكن القول بأن المجتمع العربى المعاصر لا يختلف كثيرا عن المجتمع الأوروبى إبان حركة التنوير. حقا، هناك انقسام وتشتت سياسى، ولكن هناك وحدة ثقافية إلى حد بعيد، تدعمها وحدة اللغة العربية.
وأما الملاحظة الثانية فهى أنه نظرا لأن الدين الإسلامى لا يعرف كنسية ولا كهانة تتدخل فى الحياة اليومية للبشر، لذلك لم يأخذ الفكر العربى التنويرى باتجاهات معادية للإسلام كما كان الحال مع حركة التنوير الأوروبية، بل إن عددا من رواد التنوير العربى كانوا من رجال الدين. ومع ذلك ورغم عدم وجود كنيسة فى الإسلام فإن ذلك لم يمنع من ظهور اتجاهات فكرية سلفية تعارض الجديد باسم الدين والتقاليد.
وقد بدأت حركة التنوير العربية على حياء منذ منتصف القرن التاسع عشر وتعمقت فى النصف الأول من القرن العشرين، لتتراجع فى النصف الثانى من ذلك القرن نتيجة لغلبة النظم السياسية القمعية مما ساعد أيضا على غلبة العقلية الشمولية وبالتالى بروز التيارات المناوئة للحرية.
بدون حركة تنوير حقيقية توفر حرية الرأى والاعتقاد وترسِّخ النظرة العلمية وتقوم على التسامح واحترام حقوق الآخر، فإنه يصعب تحقيق أى نهضة حقيقية، ويظل الحديث عن «ثورة صناعية» عربية مجرد ثرثرة. والله أعلم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.