أندهش جدا عندما أري بعض المفكرين أو الكتاب يتحدث في مسألة فتح مصر، محاولا ان يصور الأمر علي أنه لم يكن غزوا. وأنه كان انقاذا لأهلها من الحكم الروماني، وأنه كان بداية الخير لأهلها. ويزيد بعضهم ويقول إن الاقباط ساهموا في هذا الفتح تخلصا من الحكم الروماني، وأن من حارب منهم في صفوف الرومان كان مضطرا. ودهشتي ليست بسبب محاولة إعادة تفسير التاريخ فذلك حق لكل مفكر. وليس من عمل حقيقي لدارسي التاريخ أهم من إعادة إلقاء الضوء وتفسير ما غمض علينا في التاريخ أو أظهاره مرة أخري. ومن المتفق عليه حتي الآن أن ما نسميه التاريخ ليس إلا سير العظماء والحكام وأن تاريخ ما صنعته الشعوب لا يزال غائبا ومن ثم نفرح جدا بالكتب التي تحاول ان تمسك بالتاريخ من زاوية الشعوب وما فعله كثير من المجهولين منهم. لكن حتي الآن لا تزال الكتب التي تتحدث في ذلك محدودة. لقد بذل بعض المؤرخين المصريين من اليسار، علي الاقل في بداية حياتهم أو من القريبين منه يوما ما، وقدموا في ذلك كتبا رائعة مثل محمد انيس وعبد العظيم رمضان وطارق البشري ورفعت السعيد وصلاح عيسي وسيد عشماوي وعاصم الدسوقي واخرين. وطبعا لا ننسي ايام لها تاريخ لأحمد بهاء الدين ومصر من تاني لمحمود السعدني من خارج المؤرخين. لكن لا يزال التاريخ المصري والعربي والتاريخ في العالم كله هو تاريخ الحكام والدول .العودة لتفسير التاريخ لا يمكن ان تكون صحيحة مائة في المائة لأنها تعتمد علي كتب كتبها اصحابها في ذلك العصر الذي نعود إليه وعلي وثائق وعلي آثار إن وجدت. لكن الذين صنعوا ذلك كله لم يعودوا موجودين ولن تتاح لنا الفرصة لنراهم ونستمع منهم. وفي تاريخ مصر عادة فرعونية قديمة هي محاولة الحاكم الجديد محو آثار الحاكم القديم أو إطلاق الفرصة للمفكرين من اتباعه او ممن ظلموا من قبل في إدانة الحاكم السابق وعصره كله هل يكون هذا احد أسباب تمسك الحكام في البقاء في الحكم أطول فترة ممكنة ربما - علي أي حال ليس هذا موضوعنا ولكن أعود الي محاولة تفسير التاريخ التي لا تجد مكانها غير ما تركه كتاب الماضي أو الآثار والوثائق الناجية التي تتحدث عن ذلك. وأعود إلي موضوع فتح مصر او غزو مصر أو ماتشاء فلا يهمني. لماذا لا يهمني؟ لأن كلمة الغزو لم تكن مخيفة واستخدمها المؤرخون المسلمون القدامي في كتبهم وكانت الغزوات في بداية العصر الإسلامي لنشر راية الدين الجديد وكانت الدولة الاسلامية قوية ولم تفعل الا ما فعلته الدول السابقة واللاحقة في توسيع مجالها الحيوي ومحاولة السيطرة علي ما تستطيع من العالم القديم رافعة راية الإسلام. بمقاييس الحضارات، لم يخترع المسلمون جديدا في الحديث عن العدل وتحرير الشعوب من ظلم الفرس أو الرومان، وهي الشعارات نفسها التي رفعتها الامبراطوريات السابقة واللاحقة. الحركة الاستعمارية الأوروبية للعالم كله رفعت الشعارات الدينية والعبودية في أمريكا كانت تحت شعارات دينية وهلاك الهنود الحمر أيضا. ولكن السؤال هنا ما معني أن نناقش ذلك بعد أكثر من ألف سنة. سأسلم مع القائلين بالغزو والاحتلال لمصر ويبقي السؤال هل ظلت مصر قبطية أم تغيرت؟. الإجابة تغيرت. حتي لو كان التغيير بالقوة. النتيجة هي ما نراه الآن. مسلمين وأقباطا. هل المسلمون الموجودون الآن كلهم عرب من الجزيرة العربية. طبعا لا .أصولهم مصرية وقبطية وفرعونية وحتي القبائل العربية التي تركت الجزيرة وجاءت بعد الغزو تغيرت عاداتها وتقاليدها ودخلت في الحياة المصرية فزرعت وصنعت وتغير لبسها وعانوا جميعا من الحكم الأجنبي مملوكي أو أيوبي أو عثماني أو ما تشاء ممن حكموا مصر.. لا تحدثني عن قبائل الصحراء التي تعيش علي الهامش ومشكلتها الحقيقية هي أنها مهمشة لا تجد الفرصة في الدخول إلي قلب الدولة ولا يمكن أن تقوم هي ذلك بل كان هذا التهميش مفروضا عليها فلا أحد من قبائل الصحراء الغربية أو الشرقيه يكره العلم ولا الصناعة ولا الزراعة.. المشكلة ان ذلك لم يصل إليهم. لقد دخلت مصر إلي الإسلام كدين دان به أغلب سكانها وحلت اللغة العربية مكان اللغة القبطية أو المصرية التي لم تكن أيضا فرعونية خالصة. بل كانت خليطا من اليونانية والفرعونية. فما معني ان يدافع أحد عن دخول المسلمين إلي مصر ويشتط في الدفاع ليقول إنه كانت في مصر قبل الإسلام قبائل عربية كبيرة اكثر من أهلها ويشتط أكثر ليقول إن المسلمين كانوا هم أهل البلاد الاصليين. يحاول أن يصور الغزو أو الفتح أو ما تشاء علي أنه كان انقاذا لمصر. هل يعرف ماذا كان سيحدث لمصر لو لم يحدث الغزو العربي. هل كان سيعرف حال مصر الآن. خيرا او شرا. إذا كان يعرف فليقارن بين حال مصر بعد أن دخلها العرب وحالها بعده. وقبل أن ينتفض ويعلن استنكاره أحب ان اقول له إن ذلك الانحطاط الذي جري علي مصر لم يكن أبدا بسبب الدين الجديد ولكن بسبب الحكام ونظم الحكم والاعتراف به لا يقلل من قيمة الدين. فالدين الجديد، الإسلام، مثله مثل الدين السابق المسيحية لم يكن ولا يجب ان يكون مشكلة للمصريين لسبب واحد هو أن المصريين هم أول وأقدم من عرف الآلهة وعرف التوحيد. ولم يكن ترحيبهم بأي دين مشكلة فهي صناعتنا ردت إلينا. كانت المشكلة دائما هي الحكم والحكام. والذي تعاقب علي مصر بعد الفتح أو الغزو أو ما تشاء من دول وحكام لم يكن لهم من عمل إلا نهب البلاد ونهب خيراتها. هذا سلوك الحكام وليس الدين الإسلامي ولا المسيحي. الدولة العثمانية مثلا كان أول عمل لها بعد احتلال مصر هو حمل صناعها وحرفييها إلي الأستانة وتركها بلا حرفيين أو صناع حتي استطاعت بقدرته الطبيعية أن تعود إلي ذلك. اريحونا اراحكم الله من الحديث عن الأديان ومحاولة إعادة وضع مصطلحات جديدة وانظروا إلي الحقيقة الماثلة الآن وهي أن علي ارض مصر شعباً طيب الأعراق مسلمين ومسيحيين كانت أفضل فترات حياتهم هي التي تراجعت فيها النظرة الدينية إلي الآخر وحلت بدلا منها النظرة الطبيعية وهي المصرية وكان ذلك بعد بداية الدولة الحديثة في عصر محمد علي وبلغ غايته بعد ثورة 1919 التي رفض فيه المصريون شق صف الأمة الي اقباط ومسلمين في مواجهة الاحتلال البريطاني ولم تنحط مصر أبدا إلا في عصور التمييز الديني بين سكانها بسب حكامها وليس بسبب الدين والآن بسبب هذه الأفكار التي للأسف يحمل لواءها مفكرون مصريون يقومون بدور عجز الاحتلال البريطاني عن القيام به وهو شق صف الأمة.