أمام محكمة التاريخ أزعم أن سلطة محمد علي المطلقة.. لم تكن مفسدة مطلقة, وهو ما ينطبق علي الملوك الفراعنة المؤسسين للدولة والحضارة في مصر. وقد أشرت في مقال سابق الي حقيقة أن تنصيب محمد علي علي مصر جاء تتويجا لكفاح طويل, وثورة شعبية فرضت إرادة المصريين. وقد أقام محمد علي نظام حكم مطلق, وأسس دولة استبدادية اقطاعية مركزية قوية, واحتكر الزراعة والصناعة والتجارة. لكن الشعب المصري جني ثمار إنهاء فوضي النظام المملوكي المتخلف وتحرر من سجن الإمبراطورية العثمانية المحتضرة, وما ترتب علي هذا وذاك من خراب لمصر. والأمر أن دولة محمد علي, التي ولدت من رحم إنهاء فوضي الحكم وحققت الاستقرار السياسي, قد عكست اتجاه ما أصاب الاقتصاد والسكان والمجتمع والثقافة في مصر من تدهور مخيف. وتمكنت مصر في عهد مؤسس الأسرة العلوية- رغم مثالب وضحايا احتكار الدولة الزراعة والصناعة والتجارة- من تطوير قوي الانتاج الزراعي والصناعي والتجاري تطويرا ثوريا, نتيجة التوسع في أعمال الري, ومضاعفة الأرض المزروعة, والإندماج الواسع في التجارة الدولية بتوسع الزراعة التجارية للقمح والقطن. كما تضاعف عدد سكان مصر مع تعاظم الانتاج الزراعي, وتضاعفت قوة العمل مع توسيع فرص العمل المنتج, ونمت المدن والموانيء وبدأت الإسكندرية تعود الي سالف مجدها. وتوفرت المقدمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للانقلاب الصناعي في مصر, فكانت المبادرة بأول محاولة لتصنيع مصر في زمن الثورة الصناعية. وتتضح مآثر محمد علي إذا تذكرنا أن سكان جميع مدن مصر كانت- أيام الحملة الفرنسية- لم يكن يزيد عددهم كثيرا عن نصف سكان القاهرة; نتيجة التناقص الرهيب للسكان في الريف والأقاليم. ووفقا لوصف علماء الحملة الفرنسية كانت مصر في مطلع القرن التاسع عشر تتكون من بضع مدن لا تعدو قري كبيرة, وكانت القاهرة مدينة نصف خربة, ولم يتجاوز عدد سكان الاسكندرية ثمانية آلاف نسمة. وبين القاهرةوالاسكندرية امتدت الصحراء; عدا قري متناثرة لا يتعدي متوسط سكان كل منها نحو خمسمائة نسمة, ولم يتعد إجمالي سكان مصر حوالي مليونين ونصف مليون نسمة. وتتأكد لنا حقيقة هذا الوصف لحالة التدهور والتخلف التي كان عليها الاقتصاد والمجتمع في مصر, إذا رجعنا الي وصف الجبرتي لحالة مصر عشية الحملة الفرنسية, إذ يقول: إن النيل قد واصل الهبوط, والفتن قد استمرت, واشتد ابتزاز الأموال, وأكل الفلاحون- الهاربون بنسائهم وأطفالهم من الجوع والظلم- الزبالة والميت من الحمير نيئا, وقل التعامل إلا فيما يؤكل, وشحت النقود في أيدي الناس, وكان سمرهم الحديث عن الأكل! ويقول الجبرتي إنه في أثناء مجاعة1784, ترك الفلاحون قراهم نتيجة لعجزهم عن سداد ضرائبهم, أو دفع الإتاوات التي فرضها البكوات, وذهبوا إلي المدينة يصرخون من الجوع, ويأكلون ما يتساقط في الطرقات, واشتد بهم الحال حتي أكلوا الميتة من الخيل والحمير والجمال. وأعقب هذه السنة انتشار الطاعون عام1785 حتي قتل ما يقرب من سدس عدد السكان, ثم عاد الطاعون عام1791, وتبعته مجاعة أكثر سوءا في عام.1792 وتدني الإنتاج الزراعي بسبب الأوبئة والمجاعات, وبقي قسم كبير من الأرض بغير زراعة نتيجة للافتقار إلي الفلاحين اللازمين لفلاحة الأرض. وادي تناقص عدد السكان قد أدي إلي تدهور عام في الزراعة, وقدر القنصل الفرنسي الأرض المتروكة بغير زراعة بنحو ثلاثة أرباع المساحة الكلية للأرض الزراعية! وكانت القاهرة معقل المماليك: ففيها كانوا يبتزون الأموال من الحرفيين والتجار علي الرغم من تمرد الأهالي عليهم بصورة دورية. وكانت الإجراءات التي تتخذ في القاهرة أكثر عنفا منها في الريف, حيث كان يمكن لجميع الأهالي في قرية ما إن يتهربوا مؤقتا من جامع الضرائب بالاختباء في الكهوف أو التلال. وأما في القاهرة, فقد كان يمكن للبكوات المماليك أن يحطموا ويدخلوا أي منزل باستخفاف متناه. وقد انهارت التجارة الداخلية وتجارة العبور بسبب افتقاد الأمن البري والنهري, وكانت التجارة الخارجية في صراع غير متكافيء مع منتجات الثورة الصناعية التكنولوجية الأوروبية. وعاني إنتاج الصناع الحرفيين من عمليات الابتزاز المتزايد من المماليك, ولم تتبق لديهم أموال تسمح بأي تحسين تقني أو توسع استثماري, وانخفضت الإنتاجية في الصناعات الحرفية إلي مستوي متدن لم تبلغه من قبل, وكان كل اجتهاد من جانب الصناع الحرفيين يواجه بضريبة زائدة. ولعل الفوضي, التي تحدث عنها مؤلفو كتاب وصف مصر ومعاصروهم, والتي تجلت في حركات التمرد والعصيان, كانت تعبيرا عن المقاومة الوطنية للنهب, بعد فقدان السيطرة المركزية علي المناطق الريفية. وبالمثل, كانت حركات التمرد في القاهرة من جانب الصناع الحرفيين, وسيلة لمقاومة حياة لم تعد محتملة. وقد عانت البلاد عشية تولية محمد علي حالة حرب أهلية شبة دائمة, أدت إلي أزمة مالية عنيفة, كانت راجعة كذلك إلي سلسلة من الأوبئة والمجاعات التي حلت بالبلاد. وإذا كان مزيج من الثورة الشعبية والانقلاب العسكري قد أتي بمحمد علي حاكما لمصر, فقد أتي مؤسس مصر الحديثة بنظام سياسي واقتصادي واجتماعي جاء نسخة جديدة من الطغيان الشرقي وعلما حديثا علي الأوتوقراطية المطلقة. لكن سياسته في التعليم الحديث وإيفاد البعثات إلي أوروبا خلقت طبقة المثقفين العصريين, وفي طليعتهم الطهطاوي, الذي نقل الي الصفوة المصرية مثل الثورة الفرنسية في الحرية والليبرالية والجمهورية والديموقراطية, كما يسجل صاحب شخصية مصر, وهو منظر الثورة الناصرية التي أطاحت بالأسرة العلوية. وكانت ثورة المصريين, التي أتت بمحمد علي واليا, قد تفجرت بعد أن دمرت الأوبئة والمجاعات مصر, وتدهورت محاصيلها الزراعية, وعانت سبع سنوات من الاقتتال, وكادت تتجرد تماما من كل الثروات. بيد أنه- وبغير جدال- وبرغم الكوارث, فقد استمرت مصر قبل محمد علي في إنتاج الحبوب, وفي إظهار ومضات من الوفرة الكامنة فيها, بمحاصيلها الزراعية الوافرة المعهودة, وتربتها البنية الغنية, وفلاحيها الكادحين الصبورين, وكانت مصر تملك مقومات التجارة وتقع باسطة قدميها علي شبكة من الطرق التجارية التي كانت تؤدي دورها رغم كل الاختلالات. وقد كتب كبير علماء الحملة مونج يقول: لو أن20 ألف أسرة فرنسية استوطنت هذه البلاد, ليعمل أفرادها بالمشروعات التجارية والمؤسسات الصناعية.. إلخ, لأصبح هذا البلد أجمل مستعمراتنا وألمعها وأفضلها موقعا. ومن قبل رأي البارون دي توت أن مصر مستعمرة مثالية لخصوبة أرضها وصلاح مناخها لإقامة المستعمرين الفرنسيين. لكن مصر بفضل سياسات دولة محمد علي لم تكن بحاجة الي المستعمرين الفرنسيين, فقد بدأ- فور تحقيق الإستقرار السياسي والقضاء علي الفوضي- في استصلاح البور, حتي وإن ارتبط هذا بإرساء نواة الإقطاع الحديث, بفضل ما أقطعه محمد علي من أبعاديات وشفالك وووسايا وعزب والرزق بما في ذلك شيوخ البدو لتوطينهم وتهدئتهم. وقد وجه محمد علي جهده نحو خلق سلطة مركزية قوية, وكان فرض القانون واستقرار النظام حجر الزاوية في سياسة محمد علي الداخلية, فأنشأ دولة حديثة, وحقق سيطرة علي التجارة الداخلية والخارجية, وقاد ثورة في الري والزراعة, وأسس الصناعة الآلية الحديثة, وانشأ جيشا وأسطولا وطنيين, وإمبراطورية مصرية مترامية الأطراف. وللحديث بقية. [email protected] المزيد من مقالات د. طه عبد العليم