قال الفيلسوف الليبرالي ج.س.ميل من فلاسفة القرن التاسع عشر، "ان الحكومة الديمقراطية تتطلب مستوي متقدما من الحضارة".. وكان يعتقد ان البلدان غير الغربية غير قادرة علي ان تحكم نفسها، وانها تحتاج الي نظام حكم مطلق.. وكان هذا الرأي العنصري مميزا حتي لأكثر المفكرين استنارة في تلك الحقبة.. وعلي الرغم من أن بلوغ السكان مستوي من التعليم مفيد بلا شك للديقمراطية، في تضييق الفجوة بين الحكام والمحكومين، فإنه ليس ثمة دليل علي أن الافتقار الي تعليم متطور يجعل السكان غير قادرين علي فهم ومناقشة المسائل التي تمسهم، أو علي الاضطلاع بالمسئولية عن شئونهم الخاصة.. ويمكن ان يتصف السجل الطويل للحكم المطلق.. إمبرياليا كان أو داخليا.. عادلا كان أم ظالما، بأي شيء إلا ان يكون خيرا.. تذكر الفيلسوف الليبرالي ميل، عندما قرأت كتاب الصديق الدكتور محمد عفيفي الصادر مؤخرا عن المجلس الأعلي للثقافة وحمل عنوان "المستبد العادل".. وأثارت دهشتي الصفحات الأولي من الكتاب حيث انه بحسه التاريخي التقط جزءا من التاريخ الآخر لرائد من رواد عصر النهضة في القرن التاسع عشر وهو الامام محمد عبده.. التقط عفيفي توجها جديدا - ولكنه كان يبدو منزويا - من فكر الامام عن المستبد العادل وهو مقال كتبه الامام محمد عبده في مجلة الجامعة العثمانية بعنوان "انما ينهض بالشرق مستبد عادل" وقصد الامام من هذا المقال الرد عن من يقولون بأن اصلاح الشرق هو بالأخذ بالحياة النيابية وركز كعادته واعادة مدرسته علي التدرج في مشروع الاصلاح، حيث يري - كما يري ميل - ان الاسراع بالاخذ بالنظام النيابي دون تهيئة الناس علي كيفية تقبله ربما يؤدي الي انتكاسة خطيرة، بينما البدء بالمشروع التربوي والارتقاء بالامة الي المستوي المطلوب لممارسة الحياة النيابية هو افضل السبل.. اتصور ان عفيفي قد نجح في القاء حجر - قد يبدو - صغيرا في محيط متلاطم من الكتابات والكتب والسير وغيرها لينبهنا بأن فكرة المستبد - حتي وان كان عادلا - لم تكن وليدة المرحلة اليوليوية الناصرية في القرن العشرين بصعود الضباط الي السلطة عبر جنازير الدبابات وبهتافات المحتجين علي سياسات العصر السابق، وتفشي ظاهرة الكاريزمات البهلوانية، ولكنها فكرة اصيلة في وجدان مفكرين قبل ذلك بما يزيد عن الخمسين عاما، حيث مقال الامام كتب في مايو 1899م. حتي - وللصدفة العجيبة - قال الإمام في ثنايا مقاله "هل يعدم الشرق كله مستبدا من أصله، عادلا في قومه، يتمكن به العدل أن يصنع في خمس عشرة سنة ما لا يصنع العقل وحده في خمسة عشر قرنا". ويستند عفيفي في تحليله للاطار النظري لفكرة "المستبد العادل" ان تشاء الظروف ان يمكث عبدالناصر في السلطة مستبدا - بغض النظر عن كونه عادلا أم لا - في الفترة 1952 - 1967 وهي الفترة الانتقالية التي حددها الامام بخمسة عشر سنة. ورغم اللقطة العبقرية التي التقطها الدكتور عفيفي - بحسه التاريخي - وهي رؤية مغايرة لما عرف عن الامام من ايمانه الشديد بالاصلاحات السياسية.. ومحاولة التوفيق بين الاسلام والحداثة في مرحلة مظلمة من تاريخ مصر الحديث خاصة في ظل سيطرة البعد الاسلامي علي مصر في تلك المرحلة واستئثار الخليفة العثماني أو السلطان بجميع المقاليد.. وايضا هزيمة الثوار العسكريين علي يد عرابي وتقويض الاصلاحيين وعلي رأسهم شريف باشا ودخول الانجليز مصر، خاصة وان هذا المقال كتب بعد دخول البريطانيين مصر علي اكتاف اخطاء العرابيين بنحو 18 عاما. أقول رغم هذه اللقطة التي تمثل وجها آخر للامام الاصلاحي.. إلا انني استبعد ان يكون قد وضع اطارا نظريا سواء بشكل ارادي أو لا ارادي لفكرة المستبد العادل، لما حدث بعد ذلك في القرن العشرين، رغم ان مقاله حمل عنوان "المستبد العادل". خاصة ان الفترة التي تلت كتابة هذا المقال، شهدت حركات ديمقراطية- وسياسية ونيابية علي مدي واسع وظهرت فكرة التعددية السياسية وظهور الاحزاب المدنية والعلمانية رغم ان مصر لم تكن كاملة السيادة - كما شهدت مصر في الفترة منذ بدايات القرن العشرين وحتي منتصفه بصعود الضباط حيوية سياسية. ولكن الالتباس كما اتصوره هو التباس بين الليبرالية - ليست كأيديولوجية ولا شعار - بقدر ما هي وعاء معرفي يتحمل جميع الايديولوجيات الاخري بتفاعلاتها وتأثيراتها السلبية والايجابية، وبين الديمقراطية كشكل من اشكال النظم السياسية. فالديمقراطية مسألة نسبية تتعلق بمدي تحقق مبدأي الرقابة الشعبية والمساواة السياسية، وبمدي الدنو من المثل الأعلي للمساواة في المشاركة في اتخاذ القرارات الجماعية. وقد تعارفنا علي اطلاق صفة "الديمقراطية" علي الدول التي تكون فيها الحكومة مسئولة امام الشعب من خلال الانتخابات التنافسية للمناصب العامة، ويكون جميع الراشدين فيها متساوين في الحق في الاقتراع وفي الترشيح للانتخابات، وتكون الحقوق المدنية والسياسة مكفولة قانونا. بيد ان أيا من هذه الدول لا تحقق أي الممارسة مبدأي الرقابة الشعبية والمساواة السياسية علي الوجه الاكمل الذي ينبغي لها. ومن ثم فإن جهود تحقيق الديمقراطية لا تنتهي ابدا، والديمقراطيون في كل مكان منهمكون في نضال من اجل دعم وتوسيع نطاق المباديء الديمقراطية، أيا كان نظام الحكم أو النظام السياسي الذي قدر لهم ان يعيشوا في ظله. وهذا ما كان سائدا منذ بداية القرن العشرين وحتي 1952. اما الليبرالية فهي تختلف جذريا، فمعظم الدول الغربية اصبحت ليبرالية قبل ان تصبح ديمقراطية. أي انها اقامت نظاما دستوريا ليبراليا قبل ان تمنح حق الاقتراع العام أو تنشيء احزابا سياسية كبيرة، وقد كانت السمات الرئيسية لهذا النظام هي: اخضاع الحكومة أو السلطة التنفيذية للقوانين التي يقرها برلمان منتخب "سيادة القانون"، وكفالة حقوق الأفراد في الدعاوي القضائية وفقا للقانون، وفي حرية التعبير والاجتماعات والانتقال، ووجود سلطة قضائية مستقلة عن الحكومة وعن البرلمان بما يكفي لتكون حارسا علي القانون وعلي هذه الحقوق الفردية. وقد ثبت تاريخيا ان الديمقراطيات التي تم فيها منح حق الاقتراع العام وانشاء الاحزاب السياسية الجماهيرية دون دعم سابق لهذه السمات الدستورية الليبرالية ديمقراطيات مزعزعة جدا. وهذا ما حدث ايضا بصعود الضباط بعد عام 1952 واستطاعوا ان يجهزوا علي التراث الديمقراطي - وليس الليبرالي - الذي تراكم عبر نصف القرن الأول من القرن العشرين.