الدفاع الروسية: اعتراض 13 مسيرة أوكرانية فوق مقاطعتي روستوف وبيلجورود    424 مرشحًا يتنافسون على 200 مقعد.. صراع «الشيوخ» يدخل مرحلة الحسم    اتحاد الدواجن يكشف سبب انخفاض الأسعار خلال الساعات الأخيرة    بسبب خلافات الجيرة في سوهاج.. مصرع شخصين بين أبناء العمومة    الحقيقة متعددة الروايات    بعد الزلزال.. الحيتان تجنح ل شواطئ اليابان قبل وصول التسونامي (فيديو)    "بعد يومين من انضمامه".. لاعب الزمالك الجديد يتعرض للإصابة خلال مران الفريق    بالأسماء| ننشر حركة تنقلات وترقيات قيادات وضباط أمن القاهرة    بمحيط مديرية التربية والتعليم.. مدير أمن سوهاج يقود حملة مرورية    نقيب السينمائيين: لطفي لبيب أحد رموز العمل الفني والوطني.. ورحيله خسارة كبيرة    رامي رضوان ودنيا سمير غانم وابنتهما كايلا يتألقون بالعرض الخاص ل «روكي الغلابة»    الطعام فقط ومكافأة حماس.. هل يعترف ترامب بدولة فلسطين؟    ترامب: أبرمنا اتفاقا تجاريا مع باكستان وسنعمل معًا على تطوير احتياطياتنا النفطية    سعر التفاح والبطيخ والفاكهة بالأسواق اليوم الخميس 31 يوليو 2025    «الصفقات مبتعملش كشف طبي».. طبيب الزمالك السابق يكشف أسرارًا نارية بعد رحيله    إيرادات أزور تتجاوز 75 مليار دولار ومايكروسوفت تحقق أرباحا قياسية رغم تسريح الآلاف    الحد الأدني للقبول في الصف الأول الثانوي 2025 المرحلة الثانية في 7 محافظات .. رابط التقديم    اصطدام قطار برصيف محطة "السنطة" في الغربية.. وخروج عربة من على القضبان    أول تصريحات ل اللواء محمد حامد هشام مدير أمن قنا الجديد    من بيتك في دقائق.. طريقة استخراج جواز سفر مستعجل (الرسوم والأوراق المطلوبة)    مذكرات رجل الأعمال محمد منصور تظهر بعد عامين من صدور النسخة الإنجليزية    المهرجان القومي للمسرح المصري يعلن إلغاء ندوة الفنان محيي إسماعيل لعدم التزامه بالموعد المحدد    هذه المرة عليك الاستسلام.. حظ برج الدلو اليوم 31 يوليو    يعشقون الراحة والسرير ملاذهم المقدس.. 4 أبراج «بيحبوا النوم زيادة عن اللزوم»    لحماية الكلى من الإرهاق.. أهم المشروبات المنعشة للمرضى في الصيف    د.حماد عبدالله يكتب: إحترام "العدو" العاقل واجب!!    في حفل زفاف بقنا.. طلق ناري يصيب طالبة    مصرع شاب وإصابة 4 في تصادم سيارة وتروسيكل بالمنيا    التوأم يشترط وديات من العيار الثقيل لمنتخب مصر قبل مواجهتي إثيوبيا وبوركينا فاسو    ختام منافسات اليوم الأول بالبطولة الأفريقية للبوتشيا المؤهلة لكأس العالم 2026    المصري يواجه هلال مساكن فى ختام مبارياته الودية بمعسكر تونس    إغلاق جزئى لمزرعة سمكية مخالفة بقرية أم مشاق بالقصاصين فى الإسماعيلية    الوضع في الأراضي الفلسطينية وسوريا ولبنان محور مباحثات مسؤول روسي وأمين الأمم المتحدة    نشرة التوك شو| انخفاض سعر الصرف.. والغرف التجارية تكشف موعد مبادرة خفض الأسعار..    التنسيقية تعقد صالونًا نقاشيًا حول أغلبية التأثير بالفصل التشريعي الأول بالشيوخ    بعد 20 سنة غيبوبة.. والد الأمير النائم يكشف تفاصيل لأول مرة (فيديو)    سعر طن الحديد والأسمنت بسوق مواد البناء اليوم الخميس 31 يوليو 2025    حدث ليلًا| مصر تسقط أطنانا من المساعدات على غزة وتوضيح حكومي بشأن الآثار المنهوبة    القبض على 3 شباب بتهمة الاعتداء على آخر وهتك عرضه بالفيوم    «أمطار في عز الحر» : بيان مهم بشأن حالة الطقس اليوم: «توخوا الحذر»    مدير تعليم القاهرة تتفقد أعمال الإنشاء والصيانة بمدارس المقطم وتؤكد الالتزام بالجدول الزمني    هل يعاني الجفالي من إصابة مزمنة؟.. طبيب الزمالك السابق يجيب    "تلقى عرضين".. أحمد شوبير يكشف الموقف النهائي للاعب مع الفريق    وزير الرياضة يتفقد نادي السيارات والرحلات المصري بالعلمين    هل تتأثر مصر بزلزال روسيا العنيف، البحوث الفلكية تحسمها وتوجه رسالة إلى المواطنين    مونيكا حنا: علم المصريات نشأ فى سياق استعمارى    فوضى في العرض الخاص لفيلم "روكي الغلابة".. والمنظم يتجاهل الصحفيين ويختار المواقع حسب أهوائه    شادى سرور ل"ستوديو إكسترا": بدأت الإخراج بالصدفة فى "حقوق عين شمس"    ترامب: وزارة الخزانة ستُضيف 200 مليار دولار الشهر المقبل من عائدات الرسوم الجمركية    تنسيق المرحلة الأولى 2025.. لماذا يجب على الطلاب تسجيل 75 رغبة؟    عيار 21 يعود لسابق عهده.. أسعار الذهب تنخفض 720 للجنيه اليوم الخميس بالصاغة    حياة كريمة.. الكشف على 817 مواطنا بقافلة طبية بالتل الكبير بالإسماعيلية    أسباب عين السمكة وأعراضها وطرق التخلص منها    ما المقصود ببيع المال بالمال؟.. أمين الفتوى يُجيب    ما حكم الخمر إذا تحولت إلى خل؟.. أمين الفتوى يوضح    الورداني: الشائعة اختراع شيطاني وتعد من أمهات الكبائر التي تهدد استقرار الأوطان    أمين الفتوى يوضح آيات التحصين من السحر: المهم التحصن لا معرفة من قام به    الشيخ خالد الجندي: الرسول الكريم ضرب أعظم الأمثلة في تبسيط الدين على الناس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



لماذا فشلت مشاريع النهضة العربية ؟
نشر في القاهرة يوم 19 - 01 - 2010

ما الفائدة من الركض إذا لم يكُن في الاتجاه الصحيح؟ سؤال ألماني طريف يعكس وربما يلخص اشكالية النهضة في بلاد العرب،فالشعوب تتقدم وتبدع والعرب يتراجعون،ويستوردون ،والعلم يتكتل، والاقطار العربية تتجه الي مزيد من التفكك والتفتت انه السير عكس الاتجاه! الذي دفعنا بالضرورة الي طرح السؤال مجددا عن سر غياب مشروع نهضوي عربي ؟ هل العيب يكمن في نشوء الدولة الوطنية الحديثة علي انقاض الخلافة العثمانية أم ان السبب هو غياب مشروع فكري يجمع العرب من المحيط الي الخليج؟ وكيف يمكن ان نؤسس مشروعا نهضويا وحضاريا جديدا لاسيما وان كثيرين مازالوا يقفون عند مشروعي محمد علي "القرن التاسع عشر" وعبد الناصر"القرن العشرين" باعتبار ان العامل الاجنبي كان سبب تقويضهما وليس العامل الداخلي؟
تعالوا نتعرف - بداية- علي مفهوم التقدم او النهضة في الادبيات الفكرية حيث يري الدكتور عبد الوهاب المسيري، أن (التقدم) مرتبط بمرحلة محددة في التاريخ الغربي، وهو الركيزة الأساسية للمنظومة المعرفية المادية الغربية الحديثة، وهو عملية حتمية تتم رغم إرادة الأفراد ولا يمكن لأحد إيقافها، وهو يؤدي إلي حتمية الإيمان بالتغيير فيصبح الجديد إيجابياً والقديم سلبياً.
ويعرف منير شفيق المشروع النهضوي بأنه منظومة فكرية شاملة، أو نسق متكامل وشامل لكل فئات المجتمع وقطاعاته، يحمل رؤية كلية للإنسان وعلاقاته بالآخرين والإله والطبيعة، يوجه السلوك البشري نحو تحقيق أفضل إشباع للحاجات البشرية، بأقل كلفة اقتصادية واجتماعية وبيئية ممكنة.
من هنا يذهب الباحثون إلي أن التجربة النهضوية العربية الأولي بدأت مع محمد علي ، فبعض الماركسيين عدّوا تجربته اشتراكية رائدة، والليبراليون عدّوها نموذجاً للنهضة المطلوبة، وعدَّها أحد الباحثين، وهو ذوقان قرقوط، أولَ محاولة في التاريخ الحديث لبناء الدولة العربية في المشرق والمغرب.
ولكن ثمة آراء أخري مهمة، منها رأي أرنولد توينبي، يقول بأن محمد علي طَبَّقَ عملية تغريب منظمة علي سكان مصر.
وأما الدكتور فؤاد زكريا فيقرر أن محمد علي أول عَلماني حقيقي في العالم العربي الحديث، وصاحب أول مشروع نهضة متكامل قوامه التحديث الشامل علي النمط الأوروبي.
ويشبه برهان غليون الباشا المصري (محمد علي) بنابليون بونابرت من حيث أنه خلق طبقة أرستقراطية علي مقاس حكمه الأوتوقراطي، إذ أحاط نفسه بعصبية جديدة سائدة فوق عصبية الممالك البائدة، ليؤسس علي أنقاضها أرستقراطيته الخاصة، والحال نفسه مع مشروع عبد الناصر"1952-1970"فقد اعتبره البعض اهم مشروع قومي له طابع وحدوي وتقدمي واعتبره اخرون هو سبب الكارثة التي تعيشها الامة حتي اليوم وهي تمكين الكيان الصهيوني من اراض عربية لم تقع يوما في مخيلتهم.
والخلاف يمتد بين المثقفين العرب حول مأزق النهضة العربية فثمة من يرد الازمة الي ما يسمي بالغزو الثقافي. وهذا المصطلح لا يروق لمحمد عابد الجابري باعتبار أنه عماد الخطاب السلفي في الوطن العربي، ويفضل عليه مصطلح (الاختراق الثقافي) الذي يمارسه الغرب بقصد خلق عملية استتباع حضاري، أي فرض نمط حياة معين وخاصة في مجال الاستهلاك والإنتاج من أجل السيطرة علي أسواق الآخرين ونهب ثرواتهم وقمع قدراتهم الإنتاجية.
وهكذا يبدو أن فشل النهضة العربية عبر أكثر من قرن من الزمان يعود إلي عوامل داخلية تتضمنها شخصية العربي المليئة بالقصور العلمي والمعرفي، العامرة بالغيبيات والخرافات والاتكالية، ووجود مفكرين عرب يدعون إلي تقليد الغرب واتباعه،.. وعوامل خارجية تتعلق بالغزو الإعلامي الثقافي والغزو العسكري المباشر، وهذا التوصيف يعني ضمنيا أن احتمالات النهضة لا تزال مفتوحة أمام الأمة العربية، شريطة أن يهبَّ أبناؤها المخلصون لوضع الأسس النظرية والمعرفية لنهضة خاصة بهم تستفيد من الآخرين ولا تتبع لهم.
فما هي هذه الأسس؟
سوف نتناول افكار بعض مفكري هذا العصر لجهة نظرتهم الي مقومات النهضة مقارنة بالنماذج العالمية في الشرق والغرب.
ماهية مشروع النهضة؟
الدكتور طيب تزيني هو واحد من أهمّ المفكّرين والفلاسفة، الذين أغنوا المكتبة العربية بمشاريع فكرية لا تنتهي، اهمها مشروعه الفكري " من التراث إلي النهضة"وهو يرصد التحولات التي انطلقت من الأسباب الثلاثة الشهيرة التي كانت مقدّمة لنشأة النظام العالمي الجديد، وأعني: ثورتَي المعلومات الاتصالات ونتائج حرب الخليج، ثم التحوّلات التي أخذت تطرح نفسها علي صعيد أوروبا وأمريكا وأفضت إلي ما سمّي لاحقا العولمة. هذه التحوّلات ألقت بظلالها علي الواقع العربي ،وانطلقت في هذا من أسئلة ثلاثة:
الأول: ما الحامل الاجتماعي لما أخذ يفصح عن نفسه مع تشكّل هذا النظام العالمي الجديد؟
الثاني: ما الحامل السياسي؟
الثالث: ما الحامل الثقافي؟
والإجابات قد تكون التالية:
إنّ المشروع النهضوي الذي اتسم ذهنيا بوصفه مشروعا في الثورة راح يخلي الساحة لمشروع في النهضة، لأن الحامل الاجتماعي لا يمكن أن يكون إلا كل الأطياف الاجتماعية في المجتمع العربي من أقصاها إلي أقصاها، وأعني هنا بالأقصيين: من أقصي اليمين الوطني والقومي إلي أقصي اليسار الوطني والقومي، ولاحظت أنّ هذين الأقصيين لا بدّ أن يكونا منطلقين من المرجعية الديمقراطية، اي بدون تهميش لطرف لحساب طرف اخر فالنهضة لابد وان تشمل الجميع،يقول تزيني"أدركت أنّ مشروع النهضة هو مشروع الأمّة برمتها، في حين أنّ مشروع الثورة هو مشروع طبقي، مشروع طبقة أو تحالفات طبقية.. الأمر هنا مختلف اختلافا بينا".
ويضيف"لقد وصلت إلي أنّ الحامل السياسي أسقط في صيغته النهضوية الجديدة كل المشاريع الانقلابية الحزبية، التي اعتقد أصحابها أنهم يملكون الحقيقة، ووجدت أن كل هذه الأحزاب التي تري أنها أحزاب شمولية لم تعد تملك حدّا أدني من الحقيقة. بطبيعة الحال لوحظ أنّ بعض هذه الأحزاب ظلّت حتي الآن تراوغ وتؤكّد أن التاريخ مازال موجودا كما هو، رغم أنها تلقي الضربات العسيرة، ولكنها بوعيها التاريخي الساذج المغلق مازالت تقاتل كما كان دون كيشوت يقاتل الطواحين. المهم أنّ الحامل السياسي بدأت أضع يدي عليه: إنّه كل القوي السياسية اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية، شرط أن يستظلوا بمظلة الوطن، ومفهوم الوطن هنا بوصفه مفهوما تاريخيا وسيسولوجيا وسياسيا، والقبول بالتعددية والديمقراطية ومفهوم التداول السلمي للسلطة.
تخلف اجتماعي
وننتقل الي المفكر البحريني محمد جابر الأنصاري وله باع طويل في رصد احوال وأوضاع الأمة العربية ، بدءاً بكتابه الأول " العالم والعرب سنة 2000" مروراً ب "تحولات الفكر والسياسة في الشرق العربي، وهل كانوا عمالقة؟، وتكوين العرب السياسي ومغزي الدولة القطرية، والفكر العربي وصراع الأضداد، وانتحار المثقفين العرب" وانتهاءً بكتاب "مساءلة الهزيمة" الذي يرصد سيرة العقل العربي في ثلث القرن الأخير في فترة من أشد الفترات تحدياً له وبها تكتمل ثلاثية التاريخ للفكر العربي. كما يتناول مساءلة العقل العربي لهزيمة 1967 بآثارها العميقة علي الكيان والوجدان العربي.
وبموسوعية المؤرخ ودقة الأكاديمي ورهافة حسّ عالم الاجتماع يقدّم الأنصاري نقداً تشريحياً لواقعنا العربي ، ويقوم بمراجعة ثقافية حادة في مواجهة الهزيمة من أجل اعادة التأسيس الفكري واستئناف البناء الحضاري في حياة العرب . كذلك يتطرق للحصار الذي يتعرض له الفكر العربي من قوي معادية للتطور والاستنارة والعقل ، مؤكداً بأن الفكر العربي الاسلامي لم يتحرر من حالات الحصار الخانقة إلا في القرون الأولي من تاريخ الحضارة الاسلامية ، عندما استطاع التعامل مع أصوله الذاتية ومعطيات التراث الانساني بقدر من الحرية والعقلانية المستقلة النادرة التي أعطته قيمته في تاريخ الفكر الانساني.
وهو يري أن العلل الرئيسية في الواقع العربي الراهن تتشكل من التخلف المجتمعي الذي يؤدي الي تخلف العمل السياسي وتقليص القدرة الانتاجية ، اضافة الي التخلف الذهني المؤدي الي تخلف الفكر والثقافة والابداع العلمي ، ثم التخلف الأخلاقي المؤدي الي تخلف المسلكيات في التعامل العام والقيم المدنية، ويعزو الأنصاري التخلف العقلي العلمي الي ترسب وتكلس بنية ذهنية جامدة في العقل الجمعي للمجتمعات العربية ولدي الكثير من نخبها المثقفة ، وهذه البنية هي نتاج تاريخي مرت عليه قرون طويلة من التجمد الثقافي والفكري سادت خلالها حرفية النص علي حركية العقل المجتهد.
مرحلة انتقالية صعبة
ويري الانصاري أن الوطن العربي يمر بمرحلة انتقالية صعبة" هي التحول من نظم شمولية الي تعددية حزبية ، فالأمم تمر بمراحل مختلفة، وصحيح أن هذه المراحل تكون قاسية وأبرياء كثيرون يدفعون الثمن،والصراعات تحتدم في فترة من التاريخ، ولكن الأمم تكتشف في النهاية بعد النضج أن هذه الصراعات وهذه الفتن وهذه الحروب الأهلية غير مجدية وتعود إلي الحل الأمثل إلي التعايش بين الجميع إلي الحل المتقدم، لكن بدون شك هذا الحل لا يمكن الوصول إليه جماعياً كأمة إلا بعد مرحلة طويلة من التجربة.
ويري الانصاري أن مقومات النهضة موجودة في الامة بدليل أنها حققت نوعا من النهضة في العصر العباسي قبل ان يحصل الهجوم التتاري، لكن المشكلة تكمن في أن رافعي شعارات النهضة يهملون التشخيص العلمي المطلوب للواقع المجتمعي، وهذا تكرر في التجارب الأيديولوجية السابقة رفعت شعارات ولم تراع في ذلك الواقع المجتمعي، وخصوصيات التي نقف عليها مجتمعياً لأن هذه التضاريس تعود فتفرز نفسها مرة أخري، وأنا في كتابي"تكوين العرب السياسي " أشرت إلي أن إسقاط الدولة أياً كانت مسألة خطيرة جداً، المؤسسات الضابطة للمجتمع إذا تم تجاوزها يحدث هذا الانفلات وتحدث هذه الحرب الأهلية،كما هو حاصل في العراق والسودان والصومال ، لا بد من لملمة هذه المكونات والجزئيات، وأنا لي رأي أن الدولة العربية القائمة التي تنال الكثير من النقد في الوقت الحاضر، وأنا أعترف أنه لا يمكن الدفاع عنها ولا بد من إصلاحها لكن وجودها ضروري، لجهة درء الفتنة ودرء الحرب الأهلية وعلي أساس أن تطور نفسها تدريجياً، نحو الإصلاح والعدالة والحرية.
ويواصل الانصاري نقده لمشاريع النهضة السابقة بالقول: لقد ارتكبت مختلف تيارات الحداثة العربية من ناصرية وبعثية وقومية ويسارية وربما ليبرالية أحياناً أخطاء أدت إلي النتيجة التي نعيشها اليوم، واهم خطأين اولا: أنها أهملت الإمكانات العظيمة الموجودة في التجديد في الإسلام، ،فقد ثبت أن أي تحديث لا يبني علي ضمائر الناس وعلي قناعاتهم ينتهي كشيء عابر.
واعتقد ان مشروع النهضة العربي الجديد لابد وان يرتكز علي قاعدة التجديد الاسلامي.
اما الخطأ الثاني فيكمن في ان دعوات الحداثة لم تدرك ماهية الحداثة، بل كانت متسرعة ومتعجلة في الدعوة إلي الحداثة،علما بأن الحداثة مشروع تاريخي له خصوصية ثقافية فالتحديث كما في اليابان تم بصيغة يابانية ، وفي الصين تم تحديث بصيغة صينية ، وفي الهند كذلك،ان العامل المشترك هنا ليس الدين ،ولكن الشخصية القومية، الثقافة القومية، البيئة التي ورثتها الأمة، وهذه مرتكزات أي مشروع نهضوي وإلا ظل معرضا لهبوب الرياح.
النهضة تبدأ بالافكار
ومن جهته يري المفكر القومي مطاع صفدي ان الافكار هي عماد النهضة: "عندما يسأل عن النهضة، عن ماهيتها، يتوجه القصد إلي الأفكار أولاً. إلي تلك الأفكار الصانعة للنهضة والمصنوعة بها. وقد يقال إن النهضة العربية لم تفكر بما فيه الكفاية،او تسرعت وهذا صحيح لكن جوهر المشكلة يرتكز فيما حدث من عمليات غدر بالنهضة ليس من قبل أعداء الخارج وظروفه المضادة فحسب، بل هو غدر الذات بالذات أولاً، وأولي (مؤامراته) أنه فاقد اللغة التي تتكلمه.. أليس الأخطر في الجهل أنه يجهل نصَّه؟ أليس الأخطر في الغدر أنه لا يزال عاجزاً عن التمييز بين الجلاد والضحية في كل كوارثه الصامتة المسكوت عنها؟
لماذا لا تنهض النهضة؟
لأنها لا تعرف كيف تنهض.. ذلك هو السؤال الوجودي، لكنه يظل سؤالاً تجريدياً، ليس له لغة تنطق به، إنه الفقر المدقع باللغات المتخصصة. فالسائد هو اللغو العام، بينما النهضة تبني علي العلم والثقافة والفنون والاداب،لان النهضة عدو الرتابة وعدو البطالة بالمعني الحضاري وليس الاقتصادي فحسب، فالمجتمع العاطل عن العمل النهضوي هو المجتمع المعطَّل بإرادته أو بدونها غالباً. ومن تراكم اليأس والإحباط يكاد يفقد ذاكرة التغيير،وتظهر فوبيا الخوف من المغامرة في المجهول.
فالتشبث بالماضي جري تفسيره كما لو كان استقالة ذهنية من أعباء الحاضر التي تنقلب إلي مجرد طلاسم وألغاز. هنالك ما يشبه الاضراب العقلي عن الفهم لما ليس اسمًا أو حروفًا في سجلات التراث، فكان أشد ما عانته قصة النهضة العربية المعاصرة هو التعامل مع التغيير بذات عقلية التصحير وأدواته، والنهضة الحقيقية هي القادرة علي توفير الظروف الذاتية أولاً، التي لشدة ذاتيتها تنبني الظروف الموضوعية الموازية لها والمعبرة عنها. وليس ثمة اسم لهذه المعادلة الصعبة سوي فرصة أن يكون باعثها سواء نسيته نهضتنا أو تجاهلته، أو تهربت منه بشتي أحابيل المواربة والتسويف العقيم، هو العربي كإنسان، قبل أن يكون خانة أو صنفاً تحت هذه اليافطة الشعارية أو تلك، ولأن قصة هذه النهضة ما بين عصري الثورة، ثم الدولار النفطوي، فإنها لم تحفل بالإنسان إلا كأداة لما يتجاوزه من الاعتبارات العارضة، الفوقية أو الهامشية، ومن هنا فإن تغييب الإنسان من الموقع المركزي في كل مشروع نهضوي، كان يتطلب تصحير تربة الأرض تحت كل بذرة ثقافية.
لانهضة بدون علمانية
ويري المفكر مراد وهبة ان العلمانية هي مفتاح الحضارة والتقدم ،بينما الاصولية فهي تعوق النهضة ، والاصولية رؤية في الدين وليست هي الدين ،بدليل ان الحضارة الاسلامية تقدمت عندما كان هناك تفسير تقدمي للدين وانتكست عندما دخلت أفكار الظلام والتكفير" ارجع للتاريخ تجد أن الحضارة الإسلامية ترجمت الفلسفة اليونانية في القرن الثامن ثم جاء الغزالي في القرن الحادي عشر وقال هذا كفر ثم جاء ابن رشد وطالب بقراءة الفلسفة اليونانية والبناء عليها ثم جاء بن تيمية وكفر ابن رشد والفلاسفة ونحن نعيش علي أفكار ابن تيمية , لذلك حدث التخلف والتراجع .
وأوروبا عاشت في بحر الظلمات في العصور الوسطي بسبب تخلف تفسير الدين المسيحي لكن أوروبا تجاوزتها بالتفكير العقلاني العلماني واستطاعت أن تدفع بالحضارة إلي الأمام إلي أن وصلت إلي الثورة العلمية والتكنولوجية بينما نحن مازلنا نعيش في عصور وسطي معتمة . .ولقد دفع المفكرون الأوروبيون ثمن مواقفهم بالشهداء .. فالتنويريون في أوروبا عانوا وكان منهم شهداء للعقل الناقد المبدع ، والفلاسفة عانوا كل صنوف الاتهامات بالكفر والإلحاد منذ بدأ الإنسان يتفلسف فبروتاجوراس حكم عليه بالإعدام لأنه تشكك في الحقيقة وهرب ويقال إنه غرق، ثم جاء بعده سقراط واتهم بإنكار الآلهة وإفساد عقول الشباب وحكم عليه بالإعدام ونفس الشيء لكوبرنيكوس عندما قال بنظرية دوران الأرض وعندما أيده جاليليو حوكم.. لماذا كل ذلك؟ لأنه توجد مطلقات معينة، وأي مساس بها يضعك تحت طائلة المحاكمة والإدانة، لكن الانحياز مع الوقت يكون لمن يعطي تفسيرات جديدة للواقع والحياة، ففي النهاية تغيير الواقع أهم من ثباته .
وينتقد مراد وهبة الافكار التي تعمل علية تثبيت الواقع "هناك مصطلحات تعمل علي ثبات الواقع مثل ' ثوابت الأمة ' بما يعني عدم وجود تطور هذا شيء ضد العلمانية . العلمانية تعني التطور ومن يرفضها يرفض نظرية دوران الأرض فالعلمانية بدأت من هذه اللحظة التي أعلن فيها فيثاغورث في القرن السادس قبل الميلاد عن دوران الأرض وقد حذره تلاميذه من نشر النظرية ولكنها أشيعت فأحرقت الجماهير الدار التي كان يجتمع فيها مع أتباعه .
ويشير وهبة الي قضية خطيرة هي موت الحضارات او مشاريع النهضة قائلا:عندما تصل الحضارة إلي مستوي الإيمان المطلق بشيء واحد تموت إذا لم توقظ نفسها والحضارة الغربية أيقظت نفسها عندما تخلصت من النازية والفاشية لأن لديها القدرة علي الخروج من قبضة المطلق والغرب هو الذي ترجم ابن رشد وأنشأ الرشدية اللاتينية وهي التي دفعت للخروج من العصور الوسطي . وقد قرأت للوثر عبارات لابن رشد، ونفس الشيء وجدته في دفاع جاليليو، ولكن حين دعوت لإحياء تراث ابن رشد هاجمني المثقفون وحين كتبت كتابا بعنوان مفارقة ابن رشد هوجمت في كل مكان وأفلست الدار التي نشرت الكتاب .
لماذا؟
لان التحدي الأكبر في إحياء ابن رشد أنه سيصبح بديلا لابن تيمية .. فابن رشد ضد مفهوم الإجماع لأنه قال بتأويل النص الديني والتأويل معناه أن الآية القرآنية لها معني ظاهر ومعني باطن: المعني الظاهر للجماهير والباطن للنخبة ' الراسخين في العلم ' وكان يقول لا تكفير لمن يخرج علي الإجماع بينما الحضارة العربية تتبني مفهوم الإجماع حتي الآن وقرارات الجامعة العربية تستلزم الإجماع وهذه كارثة تقضي علي إعمال العقل .
وعن جراثيم التخلف فهي المحرمات الثلاثة: الدين والسياسة والجنس. التي هي لب الاصولية والاصولية تحولت الي فكر متوحش يهدد بحروب ايديولوجية تهدم كل مشاريع النهضة في العالم والبديل هو تحرير العقل العربي من الاساطير والتمييز بين الدين والتفسير الديني..والاعتماد علي المعرفة العلمية التي اتجهت نحو الوحدة علي الرغم من تعدد مجالاتها، ومن هنا ورد إلي ذهني مصطلح «وحدة المعرفة» وهو مصطلح من وضع الفيلسوف الفرنسي ديدرو في عام 1755، إلا أنه كان يقصد به معني الأنسيكلوبيديا، أي «الموسوعة»، أي جملة معارف، أما وحدة المعرفة التي أنشد تأسيسها فقد أوجزتها فيما أطلقت عليه «ثلاثية العلم»، وهذه الثلاثية مكونة من الفيزياء والسياسة والفلسفة، العلوم الطبيعية ترد إلي الفيزياء، والعلوم الاجتماعية والإنسانية ترد إلي السياسة، والفلسفة توحد بين العلمين في رؤية كونية علمية،هي عماد النهضة في المجتمعات الحديثة او مجتمع المعرفة وهو مصطلح صكه بيتر دركر عميد أساتذة الإدارة في أمريكا ويقصد به «مجتمع ما بعد الصناعي» .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.