نجيب محفوظ : وذات يوم عجيب, والحارة تعاني حياتها اليومية المألوفة الكئيبة, والشتاء يولي مودعا, إنحدر من تحت القبور رجل عملاق الهيكل يرفل في جلباب أزرق وطاقية بنية وبيده نبوت, سار بهدو وثقة كأنه راجع من غيبة ساعة لا بضع سنين. رآه أول من رآه محمد العجل فمد إليه عينيه بذهول وتمتم: من ؟.. عاشور! فقال له عاشور بهدوء: سلام الله عليك يا عم محمد.. سرعان ما شخصت إليه الأبصار بدهشة, من الدكاكين والنوافذ وأرجاء الحارة شخصت إليه. لم يلق بالا إلي أحد وشق طريقه الي المقهي, وكان حسونة السبع متربعا فوق أريكته, وفي حاشيته جلس يونس السايس شيخ الحارة والشيخ جليل العالم شيخ الزاوية. دخل عاشور المقهي فاتجهت نحوه الأعين في ذهول. أما هو فمضي إلي ركن وهو يقول: السلام عليكم. لم يسمع ردا. وواضح أن الفتوة انتظر منه تحية خاصة مشفوعة باستعطاف, ولكنه مضي إلي مقعد بلا مبالاة وجلس سرعان ماتوقع الناس أحداثا ولم يطق السبع صبرا فسأله بخشونة: ماذا أرجعك يا ولد؟ فأجاب بهدوء: لابد يوما أن يعود الإنسان إلي حارته. فصاح به: ولكنك طردت منها منبوذا ملعونا. فقال عاشور بهدوئه المطمئن: كان ظلما ولابد للظلم من نهاية. فتدخل الشيخ جليل قائلا: تقدم إلي فتوتنا واسأله العفو. فقال عاشور ببرود: لم أجيء لطلب العفو. فهتف يونس السايس: ما عرفناك مغرورا ولا وقحا. فقال بسخرية: بالصدق نطقت. عند ذاك نتر حسونة السبع ساقيه المتشابكتين نحو الأرض وسأله منذرا: علام تعتمد في رجوعك إن لم يكن علي عفوي؟فقال بصوت جهوري: اعتمادي علي الله جل شأنه. فصاح السبع: اذهب علي قدميك وإلا ذهبت علي نقالة. فوقف عاشور وشد علي نبوته. اندفع صبي القهوة خارجا مناديا رجال العصابة هرع الآخرون إلي الحارة خوفا. انقض السبع بنبوته, وانقض عاشور بنبوته فارتطم النبوتان بعنف جدار متهدم. ونشبت معركة غاية في الشدة والقسوة. وجاء رجال العصابة من شتي الأنحاء فاختفي الناس من الحارة وأغلقت الدكاكين, وامتلأت النوافذ والمشربيات. وإذا بمفاجأة تدهم الحارة كزلزال. مفاجأة لم يتوقعها أحد. تدفق الحرافيش من الخرابات والأزقة, صائحين ملوحين بما صادفته أيديهم من طوب وأخشاب ومقاعد وعصي. تدفقوا كسيل فاجتاحوا رجال السبع الذين أخذوا, وبسرعة انقلبوا من الهجوم إلي الدفاع وأصاب عاشور ساعد السبع فأفلت منه النبوت, عند ذاك هجم عليه وطوقه بذراعين, عصره حتي طقطق عظامه ثم رفعه إلي مافوق رأسه ورمي به في الحارة فتهاوي فاقد الوعي والكرامة. أحاط الحرافيش بالعصابة, إنهالوا عليهم ضربا بالعصي والطوب فكان السعيد من هرب وفيما دون الساعة لم يبق في الحارة إلا جموع الحرافيش وعاشور. كانت معركة لم تسبق بمثيل من حيث عدد من اشترك فيها. فالحرافيش أكثرية ساحقة. وفجأة تجمعت الأكثرية واستولت علي النبايت فاندفعت في البيوت والدور والوكالات رجفة مزلزلة تمزق الخيط الذي ينتظم الأشياء وأصبح كل شيء ممكنا. غير أن الفتونة رجعت إلي آل الناجي, إلي عملاق خطير, تشكل عصابته لأول مرة أكثرية أهل الحارة. ولم تقع الفوضي المتوقعة, إلتف الحرافيش حول فتوتهم في تفان وامتثال, وانتصب بينهم مثل البناء الشامخ, توحي نظرة عينيه بالبناء لا بالهدم والتخريب. واجتمع بعاشور ليلا يونس السايس وجليل العالم. كانا واضحي القلق, وقال شيخ الحارة: المأمول ألا يقع مايقتضي تدخل الشرطة.. فقال عاشور في استياء: كم من جرائم ارتكبت تحت بصرك وكانت تقتضي تدخل الشرطة فقال الرجل بلهفة: معذرة, إنك أدري الناس بظروفنا, أود أن أذكرك أنك انتصرت بهم ولكنك غدا ستقع تحت رحمتهم! فقال عاشور بثقة: لن يقع أحد تحت رحمة أحد.. فقال الشيخ جليل العالم بإشفاق: لم يكبحهم في الماضي إلا التفرق والضعف: فقال عاشور بثقة أشد: أني أعرفهم خيرا منك, عاشرتهم في الخلاء طويلا, والعدل خير دواء. فتردد يونس السايس قليلا ثم تساءل: والسادة والأعيان ماذا يكون مصيرهم؟ فقال عاشور بقوة ووضوح: إني أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش وأكثر مما أكره الأعيان.. ولم يتوان عاشور ربيع الناجي ساعة واحدة عن تحقيق حلمه ذلك الحلم الذي جب به الحرافيش إلي ساحته, ولقنهم تأويله في الخلاء, وحولهم به من صعاليك ونشالين ومتسولين إلي اكبر عصابة عرفتها الحارة. سرعان ماساوي في المعاملة بين الوجهاء والحرافيش, وفرض علي الأعيان إتاوات ثقيلة حتي ضاق كثيرون بحياتهم فهجروا الحارة إلي أحياء بعيدة لا تعرف فتوة ولا فتونة. وحتم عاشور علي الحرافيش أمرين. أن يدربوا أبناءهم علي الفتونة حتي لاتهن قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغد أو مغامر, وأن يتعيش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات. وبدأ بنفسه فعمل في بيع الفاكهة وأقام في شقة صغيرة مع أمه, وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصي درجات القوة وأنقي درجات النقاء. ولم يجد الشيخ جليل العالم بدا من الثناء عليه, والجهر بالتنويه بعدالته, وكذلك يونس السايس فعل, ولكنه ارتاب في ضميرهما, ولم يشك في أنهما يتحسران علي الهبات التي كانت تتسرب إليهما من الأعيان, وعند توزيع الإتاوات بين افراد العصابة الهاربة. ومالبث الشيخ جليل العالم أن هجر الحارة فعين مكانه الشيخ أحمد بركات. ولما كان يونس السايس معينا من قبل السلطة فقد تعذر عليه هجرها, وكان يغمغم وهو منفرد بنفسه في دكانه: لم تبق في الحارة إلا الزبالة؟ وكان يفضي بذات نفسه إلي زين علباية الخمار فيتساءل الرجل في قلق: حتي متي تدوم هذه الحال؟ فيقول يونس السايس: لا أمل مع قباء الوحش علي قيد الحياة.. ثم يتنهد مواصلا: لاشك أن أناسا مثلنا تناجوا بما نتناجي به الآن علي جده, فاصبر وماصبرك إلا بالله. وجدد عاشور الزاوية والسبيل والحوض والكتاب, وانشأ كتابا جديدا ليتسع لأبناء الحرافيش, ثم أقدم علي مالم يقدم عليه أحد من قبل فاتفق مع مقاول علي هدم مئذنة جلال. وقد كان يصد السابقين عن ذلك خوفهم من إغضاب العفاريت التي تسكنها ولكن الفتوة الجديد لم يخف العفاريت وقام وهو في الحارة عملاقا كالمئذنة ولكنه في الوقت نفسه مستقر للعدل والنقاء والطمأنينة. ولم يبدأ بتحدي أحد من فتوات الحارات ولكنه كان يؤدب من يتحداه ويجعل منه عظة للآخرين فتهيأت له السيادة بلا معارك. واعتقدت حليمة البركة أنه آن له أن يفكر في ذاته. وجاءه ضياء أخوه سعيدا, وفي نيته أن يستعيد وكالة الفحم, وأن يصير كبير الأعيان في كنف أخيه الفتوة, ولكنه لم يلق منه تشجيعا, فاضطر إلي الاستقرار في فندقه, واقترحت حليمة عليه أن يتزوج قائلة: مازال في حارتنا تفر من الأعيان الطيبين الذين لم يفرطوا فيها.. فتذكر عاشور موقف أسرتي الخشاب والعطار بامتعاض شديد وقال لأمه.. أشعر يا أمي أنك تضحين إلي حياة افضل مما نحن فيه.. فقال المرأة بصدق: ليس العدل أن تظلم نفسك! فقال بقوة محتجا ورافضا: لا.. قالها بقوة. ليست قوة الرفض الحقيقي بل قوة يداري بها ضعفا يحس به أحيانا في أعماق خواطره. فكم يحن أحيانا إلي رغد العيش والجمال. كما يحلم بحياة الدور والمرأة الناعمة. لذلك قال لابعنف وقوة. وقال لها: لن أهدم بيدي أعظم ماشيدت من بناء شامخ.. وأصر أن يجيء الرفض من ذاته لا حذرا من الحرافيش. إنه يريد أن يتفوق علي جده نفسه لقد اعتمد جده علي نفسه علي حين خلق هو من الحرافيش قوة لاتقهر, ولقد مال مرة جده مع هواه وسوف يصمد هو مثل السور العتيق ومرة أخري قال بقوة: لا.. وتم له أعظم نصر, وهو نصره علي نفسه وتزوج من بهيج بنت عدلات الماشطة بعد مشاهدة واستقراء من جانبه. وعندما اقتلعت مئذنة جلال من جذورها أحيت الحارة ليلة رقص وطرب وعقب منتصف الليل ذهب إلي ساحة التكية لينفرد بنفسه في ضوء النجوم ورحاب الأناشيد. تربع فوق الأرض مستنيما إلي الرضي ولطافة الجو. لحظة من لحظات الحياة النادرة التي تسفر فيها عن نور صاف. لاشكوي من عضو أو خاطرة أو زمان أو مكان. كأن الأناشيد الغامضة تفصح عن أسرارها بألف لسان. وكأنما أدرك لم ترنموا طويلا بالأعجمية وأغلقوا الأبواب وسبح في الظلام صرير, فرنا إلي الباب الضخم بذهول. رأي هيكله وهو ينفتح بنعومة وثبات. ومنه قدم شبح درويش كقطعة متجسدة من أنفاس الليل مال نحوه وهمس: استعدوا بالمزامير والطبول, غدا سيخرج الشيخ من خلوته, ويشق الحارة بنوره, وسيهب كل فتي نبوتا من الخيزران وثمرة من التوت, استعدوا بالمزامير والطبول.. عاد إلي دنيا النجوم والأناشيد والليل والسور العتيق. قبض علي أهداب الرؤية فغاصت قضته في أمواج الظلام الجليل. وانتفض ناهضا ثملا بالإلهام والقدرة فقال له قلبه لا تجزع فقد ينفتح الباب ذات يوم تحية لمن يخوضون الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.. وهتفت الحناجر شادية: دوش وقت سحر إز غصه نجاتم دارند واندر آن ظلمت شب آب حياتهم دارند (الجزء الأخير من الحكاية العاشرة)