رحم الله الشامخ ' نجيب محفوظ ' الذي منحنا في إبداعه الروائي والقصصي زاداً فكرياً ملهماً، محملاً بمعانٍ نفيسة إذا ما تأملناها هالنا ما نحن فيه الآن من عشوائيات وعنف يغشي العيون المبصرة، وكان يدعوننا إلي أن نفتح حدقات العيون علي اتساعها حتي نتدبر أمورنا بعدل ونقاومها بجسارة قبل أن تستفجل الأزمات لنجتث كل ما هو ضار وخبيث وهو يسري في شقوق الأرض قبل فروع الشجرة وأعمدتها السلطوية التي اكتشفنا فيها ما يفوق ما أفاضت به روايات محفوظ وملاحمه ! إن المخلوع وزمرته وأركان حكمه سنوا القوانين ليحموا بها فاسدهم ثم جعلوا للقبضة البوليسية المدعمة بالبلطجية الكلمة العليا وهي أداة بطش وترهيب لا يفر منها سوي من ألجم عقله قبل فمه ولعل ملحمة الحرافيش التي أقام صرحها محفوظ علي الفتوات والفتونة وتتابعهم علي حكم الحارة والبلاد لم يكن يقصد من ورائها تعلية شأن القبضة ' الباطشة ' أو تقديس القوة والعنف كما هو معهود في أساليب الفتوات أصحاب النبابيت لا العقول ! كان هدف محفوظ يتحدد في تعرية المجتمع وفي اطلاعنا علي الأوضاع المختلة سياسياً، اجتماعياً، اقتصادياً . وهو يبشر بسقوط تلك المجتمعات القائمة علي الاستغلال والقهر والبطش؛ ولهذا كان يلجأ إلي تعريفنا في كل حكاية من حكايات الملحمة المتعددة والمتنوعة إلي نوع من أنواع العسف الإنساني بشخصياته الضعيفة والمركبة التي تبدأ مهيضة الجناح لكنها سرعان ما تتحول بالضغط أو القهر إلي أفعي تلقم من حولها حينما تتصدر المشهد الاجتماعي العام ! وقد رأت السينما المصرية التجارية مأربها في هذه الملحمة الرائعة فأنشبت فيها أظافرها واستخرجت منها العديد من الأفلام بعد أن مزقتها إربا وأخرجت أحشاءها الفكرية واستبدلت بها أفكاراً هابطة مغلفة بالإثارة والعنف والثأر .. علي نسق أفلام الأكشن الأمريكية ' هوليوود '.. فرأينا الجنس والمخدرات والدماء الغزيرة أو العنف الدامي .. ثالوث يتحرك ليعلي من شأن البطل المغوار ' سوبرمان ' صاحب القبضة القاتلة والنبوت الذي لا يلين وصفوة الحرافيش والمنتفعين الذين يرينون له بطشه ويعينونه عليه لأنهم في حقيقة الأمر مرتزقة مثله تماماً . لكأن السينما التجارية مارست دور ' الفتونة ' والعنف المدوي علي الملحمة فأردتها أرضاً لتفرغها من مضمونها الذي كان ينشد العدل والحق والجمال وتشيع بدلاً منه قيم العنف والإثارة والثأر المجاني ! وقد يسأل سائل : ما العلاقة بين وجه الفتوة القديم ووجه البطلجي الحديث علي ضوء ما نكابد من هؤلاء البلطجية في وقتنا الراهن أو ما يعانيه إخواننا الشوام من ' الشبيحة ' في ربيعهم الثوري؟ قد يكون نمو دور الفتوة وطغيانه في الحارة القديمة نابعاً أساساً من غياب دور الدولة وبخاصة دور الدولة الوطنية ومؤسساتها المختلفة، وبخاصة جهاز الشرطة الذي يشتمل علي فروع متعددة لكن تتحدد وظيفته الأساسية في الحفاظ علي أمن المواطن أولاً وأخيراً .. ليتحول السؤال تلقائياً : ولماذا يظهر البلطجية الآن بهذا التبجح في ظل وجود الدولة وبعد ثورة يناير؟ ربما يرجع السبب إلي تواجدهم الخفي قبل الثورة؛ حيث دأب النظام الفاسد السابق علي الاستعانة بجيوش منهم لمزيد من البطش والترهيب ولهذا ينبغي للدولة الآن أن تنفض يدها من هؤلاء وتعطي الأوامر المشددة والقصوي بملاحقتهم ومحاكمتهم، لأن القضية صارت الآن : إما أن تكون الدولة أو لا تكون .. إنها إرادة سياسية دون أن تكون إطلاق أحكامًا عرفية !!