"اللهم صن لى قوتى وزدنى منها لأجعلها فى خدمة عبادك الصالحين".. بهذا الدعاء أنهى نجيب محفوظ سيرة عاشور الناجى بطل روايته الأكثر شهرة "ملحمة الحرافيش".. الرواية التى تناولت سيرة عشرة أجيال من فتوات القاهرة أبرزهم عاشور الناجى الجد والحفيد الذى كان الدعاء السابق شعاره الدائم، فقد كان فتوة على حق، فتوة من زمن الفتونة الجميل. .الفتونة التى كانت أدبا وأخلاقا وليست هز أكتاف خاوية أو رفع نبابيت هشة، أما الآن فدعونا نتأمل هل مازالت الفتونة موجودة على نفس شاكلتها أم تحولت إلى مسمى آخر؟! وهل ظل الفتوة على عهده مع الناس فى الشجاعة والجدعنة أم أنه انقرض مع الزمن كما ذكر محفوظ قبل وفاته بأيام؟! أسئلة مهمة تجيب عنها السطور القادمة، ولتبحث معى عزيزى القارئ فى كل حارات مصر.. أين ذهب بطل ملحمة الحرافيش؟! فى البداية نشير إلى أن نجيب محفوظ فى روايته أكد أن الفتوات كانوا البوليس الشعبى الذى يحمى القاهرة بعلم من البوليس الرسمى، نستطيع أن ندرك قيمة الفتوة ومنزلته عند الناس فى ذلك الوقت، خاصة أنه كان لكل حارة فتوتها الخاص بها، الذى كان يدافع عن حقوق أهلها، ويجمع المال من أغنيائها ليعطى فقراءها، وكل ذلك بمساعدة سلاحه الوفى "النبوت"، الذى كان يحمل فيه كرامته والذى إذا سقط سقطت معه كرامة الفتوة نفسه. ويقول محفوظ من خلال روايته إن صفات الفتوة الحقيقى "نظرة عينيه توحى بالثبات لا التخريب، وهاهو عاشور الناجى يساوى بين الوجهاء والحرافيش، ويسأل عن أحوال رعيته ويقسم الغنائم على الفقراء، ويحقق الأمن للسكان، وأيضا نجد سياسته تنقسم إلى أمرين: أن يتدرب أعوانه على الفتونة حتى لا تهن قوتهم يوما وينتصر عليهم أحد، وثانيا: على فتواته وأعوانه أن يجد كل منهم وظيفة ليتكسب منها، حتى عاشور نفسه عمل بالفاكهة، وأقام فى شقة صغيرة مع أمه، وكانوا يلقبونه بالولى المستبد العادل، فكان مقدسا بالنسبة إلى الناس كالولى، وكان مستبدا مع الظالم وعادلا مع المظلوم، وكل ذلك فى آن واحد، وبهذا قدم لنا محفوظ نموذجا للفتوة البطل الذى كان هدفه الأساسى الدفاع عن الحقوق. ولكن هل كل هذه الصفات والخصال مازالت موجودة أم أنها أصبحت مجرد ذكريات جميلة يعيش عليها الناس؟ فأين فتوات ملحمة الحرافيش فى وقتنا الحالى؟ وأين كل فتوات الأحياء الأخرى؟! أسئلة تأكدت من إجاباتها عندما نزلت إلى حى الغورية ومنطقة الكحكيين القديمة وقابلت أناسا فى مختلف الأعمار، وكان النفى هو ردهم، فلم يشاهدوا أى فتوة على الطبيعة، لكن السير والحكايات كانت هى مصدرهم فى التعرف على الفتوات الذين دافعوا عن أحيائهم فى مرحلة معينة من الزمن، وكانت المفاجأة عندما وجدت مقهى يحمل اسم محمود الحكيم فتوة حى الكحكيين فاقتربت منه فوجدته قديما آثار الزمان تبدو عليه، وبسؤال صاحب المقهى عرفت منه أن فتوات أحياء مصر دائما ما ذاع صيتهم، وأن هناك الكثير من النماذج على غرار عاشور الناجى، فهل تنسى السيدة زينب الفتوة عفيفى القرد الذى صان أهلها، وهل ينسى حى الدراسة المعلم حسن كسلة فتوتهم الهمام، وحى الكحكيين الذى مازالت سيرته متداولة حتى الآن، وكما عرفت من أهل المنطقة أثناء رحلة البحث، كما تأكدت أيضا من اختفاء الفتوة الهمام، مع نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات، وظهور البلطجى النمام النقيض التام لكل صفات وخصال الفتوة العادل. فحارات نجيب محفوظ لم تعد تتسع إلا للبلطجية المدمنين الذين يعيشون على النهب والسرقة والمنبوذين أيضا من جميع سكان، تلك الحارات أما عن مصطلح البلطجى، فكما يؤكد سامح فرج مؤلف معجم "العامية المصرية والتعبيرات الشعبية للصناع والحرفيين"، نشأ فى عصر الدول العثمانية ومعناه: حامل البلطة الذى يقطع الأشجار ويشق كل ما هو مفيد، وهو أيضا من يهدم الحصون والقلاع، ولم يكن مصطلح البلطجى معنى سيئا حتى الثلث الأول من القرن العشرين، وأصبح معناه الشخص المستهتر السيئ. وقد علمت أيضا من أهالى الأحياء أن البلطجية يمارسون الآن أعمال التهديد والترويع لأمنهم وأن الشرطة تطاردهم جميعا. وبالبحث فى القانون المصرى وجدت قانونا قد صدر فى السنوات القليلة الماضية لمكافحة "أعمال البلطجة وترويع الآمنين" لتصبح بذلك كلمة "بلطجى" فى نهاية الأمر مرادفا للمجرم. وهكذا تحول الفتوة إلى بلطجى فى عصرنا الحالى، كما تحول النبوت إلى بلطة وأشكالها المتعددة من مطواة قرن غزال إلى سنجة وسيف وخنجر، ثم أسلحة نارية، مرورا بأسلحة ماء النار الحارق، ثم البخاخات المخدرة، فضلا عن العض والردح، وهى أدوات البلطجة الحريمى، إلى جانب أننا إذا تتبعنا آخر أشكال البلطجة فى هذا العصر لوجدنا الانتخابات وهى خير شاهد، فبدءا من تمزيق لافتات الخصوم، وإفساد الاجتماعات الانتخابية ومصارعة بلطجية منافسين وصولا إلى الاعتداء على الناخبين ومقار اللجان الانتخابية، وانتهاء بقيادة سيارة مسرعة وصدم أنصار المرشحين أو المرشحين أنفسهم. وقد حذرت دراسة صادرة عن المركز القومى للبحوث الاجتماعية والجنائية من ارتفاع معدلات البلطجة فى انتخابات عام 0002. هكذا يتضح لنا أن أبطال ملحمة "الحرافيش" أبطال روايات نجيب محفوظ وفتواته لم يعد لهم أى تواجد أو ظهور، فقط ذكرى وسيرة يتحاكاها الناس ليعيدوا أمجاد عصر قد مضى ولم يعد، عصر انقرضت فتواته مع الزمن كما قال نجيب محفوظ.. وكان صدقا ما قال.