وزير التعليم العالي يبحث مع نائب رئيس جامعة لندن تعزيز التعاون المشترك    نقيب أطباء الأسنان يدلي بصوته في انتخابات التجديد النصفي بلجان الإسكندرية    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من مسجد النصر بشمال سيناء    منها «ضمان حياة كريمة تليق بالمواطن».. 7 أهداف للحوار الوطني    موعد اجتماع البنك المركزي المقبل.. 23 مايو    الطماطم ب5 جنيهات .. أسعار الخضراوات والفاكهة اليوم الجمعة 26 إبريل    أستاذ تخطيط: تعمير سيناء شمل تطوير عشوائيات وتوفير خدمات    إنفوجراف| ارتفاع أسعار الذهب مع بداية تعاملات اليوم الجمعة 26 أبريل    بعد ساعات من تطبيقه.. لماذا لجأت الدولة لعودة العمل ب التوقيت الصيفي؟    دراسة مشروع واعد لتحويل قناة السويس إلى مركز إقليمي لتوزيع قطع الغيار    إزالة 30 حالة تعد ضمن المرحلة الثالثة للموجة ال22 بالبحيرة    كاتب صحفي: الدولة المصرية غيرت شكل الحياة في سيناء بالكامل    رئيس الصين لوزير الخارجية الأمريكي : يجب على البلدين الالتزام بكلمتهما    شهيد فلسطيني إثر إطلاق الاحتلال الإسرائيلي النار عليه جنوب قطاع غزة    احتجت على سياسة بايدن.. أسباب استقالة هالة غريط المتحدثة العربية باسم البيت الأبيض    أمريكا تعد حزمة مساعدات عسكرية جديدة إلى أوكرانيا    خبير: الاحتلال وغياب أفق التسوية وراء تصاعد المواجهات الدم وية في غزة    دوري أبطال أفريقيا.. أحمد حسن يكشف عن تشكيل الأهلي المتوقع لمباراة مازيمبي    حسام المندوه : الزمالك جاهز لموقعة العودة أمام دريمز .. وهناك تركيز شديد من الجميع    تواجد مصطفى محمد| تشكيل نانت المتوقع أمام مونبلييه في الدوري الفرنسي    تشافي يطالب لابورتا بضم نجم بايرن ميونخ    اتحاد جدة يكشف تفاصيل إصابة بنزيما وموقفه من مباراة الشباب    أرسنال يختبر قوته أمام توتنهام.. ومواجهة محفوفة بالمخاطر لمانشستر سيتي    خلال 24 ساعة.. تحرير 489 مخالفة لغير الملتزمين بارتداء الخوذة    بلطجية يقتحمون الشقق فى الإسكندرية .. الأمن يكشف حقيقة المنشور المثير    «الداخلية»: ضبط متهم بإدارة كيان تعليمي وهمي في الاسكندرية    مأساة في حريق شقة «التجمع الأول».. النيران تلتهم طفلين وتصيب الثالثة (تفاصيل)    أمن القاهرة يكشف غموض بلاغات سرقة ويضبط الجناة | صور    عرض افلام "ثالثهما" وباب البحر" و' البر المزيون" بنادي سينما اوبرا الاسكندرية    أفكر في الزواج للمرة الثانية، أبرز تصريحات صابرين بعد خلعها الحجاب    توقعات علم الفلك اليوم الجمعة 26 أبريل 2024    في ذكرى ميلادها.. أبرز أعمال هالة فؤاد على شاشة السينما    بث مباشر.. شعائر صلاة الجمعة من الحرمين الشريفين    دعاء صباح يوم الجمعة.. أدعية مستحبة لفك الكرب وتفريج الهموم    الصحة: إجراء فحص طبي ل 1.688 مليون شاب وفتاة مقبلين على الزواج    تنظيم قافلة طبية مجانية ضمن «حياة كريمة» في بسيون بالغربية    طريقة عمل هريسة الشطة بمكونات بسيطة.. مش هتشتريها تاني    نائب وزير خارجية اليونان يزور تركيا اليوم    طرق بسيطة للاحتفال بيوم شم النسيم 2024.. «استمتعي مع أسرتك»    كارثة كبيرة.. نجم الزمالك السابق يعلق على قضية خالد بو طيب    حزب الله ينشر ملخص عملياته ضد الجيش الإسرائيلي يوم الخميس    رمضان صبحي: نفتقد عبد الله السعيد في بيراميدز..وأتمنى له التوفيق مع الزمالك    الشركة المالكة ل«تيك توك» ترغب في إغلاق التطبيق بأمريكا.. ما القصة؟    منها «عدم الإفراط في الكافيين».. 3 نصائح لتقليل تأثير التوقيت الصيفي على صحتك    اكتشاف فيروس إنفلونزا الطيور في 20% من عينات الألبان في الولايات المتحدة    واعظ بالأزهر: الإسلام دعا إلى صلة الأرحام والتواصل مع الآخرين بالحسنى    جامعة الأقصر تحصل على المركز الأول في التميز العلمي بمهرجان الأنشطة الطلابية    لماذا تحتفظ قطر بمكتب حماس على أراضيها؟    أدعية السفر: مفتاح الراحة والسلامة في رحلتك    فضل أدعية الرزق: رحلة الاعتماد على الله وتحقيق السعادة المادية والروحية    حكاية الإنتربول مع القضية 1820.. مأساة طفل شبرا وجريمة سرقة الأعضاء بتخطيط من مراهق    أبناء أشرف عبدالغفور الثلاثة يوجهون رسالة لوالدهم في تكريمه    بعد سد النهضة.. أستاذ موارد مائية يكشف حجم الأمطار المتدفقة على منابع النيل    سلمى أبوضيف: «أعلى نسبة مشاهدة» نقطة تحول بالنسبة لي (فيديو)    أحمد كشك: اشتغلت 12 سنة في المسرح قبل شهرتي دراميًّا    مواقيت الصلاة بعد تطبيق التوقيت الصيفي رسميًّا    تامر حسني باحتفالية مجلس القبائل: شرف عظيم لي إحياء حفل عيد تحرير سيناء    مخرج «السرب»: «أحمد السقا قعد مع ضباط علشان يتعلم مسكة السلاح»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحرافيش..تأملات في الظاهر والباطن
نشر في الأهرام اليومي يوم 04 - 11 - 2011

أي فروغ ماء حسن إز روي رخشان شما إبروي خوبي ازجاه ونخسدان شما استوقفتني الكلمات المرصوصة إلي جوار بعضها علي هيئة الشعر.. وسألت نفسي: تري بأي لغة هذه الأناشيد؟!.. ربما كانت بالفارسية أو بالتركية فكلاهما تكتب في الظاهر بحروف عربية وإن كان الباطن( المعني) يشير إلي غير ما يظهر في الحروف والكلمات .. ولكن إذا كانت هذه الأبيات غير مفهومة لي فهي بالضرورة غير مفهومة لغيري من قراء العربية الذين كتب لهم نجيب محفوظ هذه الرواية.. فلماذا وضعها الرجل بهذه اللغة ولماذا لم يقدمها مترجمة إذا كان يريد أن يوصل إلينا معني محددا؟!.. وكيف يمكن لرجل بسيط مثل( عاشور) أن يفهم هذه اللغة ومن أين له بكل هذا الوجد والسلام الروحي الذي يشعر به حين يستمع لأناشيد التكية الأعجمية؟!.. تري ماذا في الباطن؟!.. ما المراد؟!.. وما هو المعني؟!..
أسئلة كثيرة راودتني بشأن هذه الأبيات ولكني أفلحت في الفرار من أسرها ومضيت في قراءة الرواية مأخوذا بأحداثها وأبطالها إلي أن حانت لحظة جعلتني أقفز إلي الفصل الأخير لأتأكد من خاطر داهمني بأن هذه الرواية شديدة الصلة بنا, وأن لها باطنا مفعما بالأسرار, وأن هؤلاء الفتوات تموج بداخلهم أرواح أعرفها.. في النص إشارات وتلميحات, ولو صدق ظني سيختتم كاتبنا العبقري روايته بفتوة أخير من سلالة الناجي وسيسميه عاشور أيضا, وسيجعل مهنته الأولي هي رعي الأغنام.. ووقعت عيني مباشرة علي السطر الأول من المقطع الرابع في الحكاية العاشرة من حكايات الحرافيش.. وانتفضت وقد اشتغلت روحي بالكشف.. واشتغل عاشور الابن الأصغر صبيا لغنام يدعي أمين الراعي تعهد إليه الأسر بما تملك من ماعز يسرح بها في الخلاء لتمرح وتتمتع بالشمس والهواء والأعشاب.. وذلك لقاء أجر معلوم..
إذن هذا هو.. وها هي الرواية تكاد تبوح لي بسر من أسرارها فلماذا لا أتجاسر وأدخل من جديد..
ملحمة الحرافيش
في المعجم الوجيز الملحمة هي الحرب الشديدة, وهي القصيدة الطويلة التي تقص حوادث جليلة وبطولات خارقة في أسلوب فخم.. تري ما هو نصيب( ملحمة الحرافيش) من هذا المعني.. رأيت في الحرافيش حكاية أمة من البشر العادة( الحرافيش) وقصة صراعهم الطويل والدائم من أجل العدالة.. تلك التي تحتاج إلي من يحققها ويمسك بزمام ميزانها فلا يختل, هؤلاء الذين يمسكون بالميزان هم القادة والحكام.. أو بلغة محفوظ هم( الفتوات)..
الصراع الطويل هنا هو صراع هؤلاء الفتوات( المتجسدة فيهم آمال وأحلام الحرافيش) ضد قوي الطبيعة والواقع وأهواء النفس من أجل الاقتراب من المعني الحقيقي للعدالة.. في هذا الصراع الطويل تسيل الدماء وتتقطع أوصال ولحوم, وتقترب الآمال حتي تكاد تتحقق وتبتعد حتي تكاد تختفي..
والقصة مكتوبة بلغة فخمة وكأنها الشعر.. وتأمل معي المقطع الأول من الحكاية الأولي من ملحمة الحرافيش في ظلمة الفجر العاشقة, في الممر العابر بين الموت والحياة, علي مرأي من النجوم الساهرة, علي مسمع من الأناشيد البهيجة الغامضة, صدحت مناجاة متجسدة للمعاناة والمسرات الموعودة لحارتنا.. مثل هذا المقطع ستجد الكثير في ملحمة الحرافيش..
{ عاشور الناجي
هو الأب الذي انحدرت منه سلالة الفتوات أبطال الملحة, وهو أولهم.. ولا أظن أني سأفلح في تلخيص قصته وأري في محاولة ذلك عدوانا وضررا بالغا بالنص البديع.. وكل ما أريد الإشارة إليه هو سمات في الشخصية, وروح قوية, شديدة الحضور تذكرني بشخصية وروح عمر.. نعم عمر بن الخطاب.
تعال معي لنتأمل الاسم فقد اعتدنا مع نجيب محفوظ أن نلتفت إلي أسماء الشخصيات وما توحي به الاسم( عاشور) ولعلنا نلحظ التشابه بين منطوق اسمه ومنطوق اسم( عمر).. ولعلنا نلحظ أيضا معني( العشرة) أي( الحياة) ومعني( العمر) في الاسمين.
أما عن الصفات الشخصية فتعال معي لنتأمل وصف نجيب محفوظ لعاشور الناجي طوله فارع وعرضه منبسط, ساعده حجر من أحجار سور التكية, ساقة جذع شجرة التوت, رأسه ضخم نبيل, قسماته وافية التقاطيع, غليظة, مترعة بماء الحياة.. ألا يذكرك هذا الوصف بصفات عمر المذكورة في كتب التاريخ.. تلك الصفات التي جعلته مرهوب الجانب قبل إسلامه ومن بعده.. وألا يذكرك هذا الوصف برسول الله صلي الله عليه وسلم وقد شاهد العمرين( عمر بن الخطاب وعمرو بن هشام) ودعائه صلي الله عليه وسلم بأن يعز الله الإسلام بأحد العمرين..
تأمل معي ما يقوله نجيب محفوظ عن عاشور قبل النجاة وقبل أن يصبح الفتوة العادل وسيد الحارة رغم ما عرف عن عاشور من دماثة الخلق فان واحدا من رجال قنصوة الفتوة لم يتحرش به وكان يشاهد ما يصيب بعض جيرانه من عنت الفتوة ورجاله فيكظم غيظه ويطيب خاطر المظلومين بكلمات لا تغني ويدعو للجميع بالهداية حتي قال له جار ذات يوم: إنك لقوي يا عاشور ولكن ماذا أفدنا من قوتك..ذكرني قول الحرفوش بقول قلته لنفسي وأنا صغير اقرأ واستمع لقصص المعذبين الأوائل في الإسلام فقد كنت اسأل نفسي نفس السؤال.. وأين عمر؟!.. لماذا لم يتدخل بقوته الاسطورية ليدافع عن بلال وياسر وعمار وسمية؟!..
لم يتمكن( عاشور) من حفظ القرآن إلا ما يكفي لأداء الصلاة, وكذلك كان( عمر) فمما يروي عنه أنه كان يجد مشقه في حفظ السور الطويلة من القرآن..
كلاهما( عمر) و(عاشور).. كان يحاكم نفسه محاكمة قاسية كلما تورط في خطأ..
عاشور ضرب أبناءه حين اكتشف شربهم للخمر( البوظة) وكذلك فعل عمر فقد حد ابنه عبد الرحمن في شرب الخمر ويقال إنه توفي متأثرا بالجلد..
ألا يذكرنا( الوباء) الذي حل بالحارة بالمجاعة و(عام الرمادة) في عهد عمر.. وألا يذكرنا لجوء عاشور إلي الجبل كملاذ له ولأهله من التهلكة بعد رؤية رأي فيها شيخه وهو يقوده إلي الجبل كملاذ.. ألا تذكرنا الرؤية واللجوء إلي الجبل بموقف مشابه حين قطع عمر خطبته علي نحو مفاجئ ونادي: يا سارية الجبل.. فسمعه وهو علي بعد آلاف الأميال منه قائد جيش المسلمين وكان اسمه( سارية) فلجأ إلي الجبل فكانت نجاته ونجاة جيش المسلمين من دمار محقق..
في حوار بين( عاشور) وزوجته( فلة) في ملاذهم بحضن الجبل تقول لماذا ترك الله الموت يفتك بالناس؟.. فيجيبها بعنف: من يدري.. لعلهم في حاجة إلي التأديب ألا يذكرنا هذا الحوار برؤية عمر بن الخطاب للعقاب الإلهي بأنه جزاء عادل وردع للظالمين والكافرين.. ودعونا نتذكر تشبيه رسول الله صلي الله عليه وسلم لعمر بنوح الذي قال ربي لا تدع علي الأرض من الكافرين ديارا.. كلاهما( عمر) و(عاشور) يؤمن بالعقاب الإلهي الرادع..
تأمل معي وصف نجيب محفوظ لدار البنان وقد دخلها عاشور بعد النجاة والعودة إلي الحارة سقفه عال لا تبلغه رؤوس الجان, في وسطه نجفة مثل قبة الغوري ومن أركانه تتدلي القناديل, علي جوانبه أرائك مغطاة بالسجاجيد المزركشة كما تغطي جدرانه بالحصر الفاخرة.. تأمل الوصف وتذكر معي وصف قصور كسري وقد دخلها المسلمون في عهد عمر.. تذكر معي هذه الحالة من الدهشة التي انتابت المسلمين حين شاهدوا مظاهر العز في هذه القصور..
يقول عاشور بعد أن دخل دار البنان ودور الأعيان الخاوية علي عروشها اسأل الله أن يكون المال قد وقع في يد من يستحقونه.. أعني الفقراء.. ويقول لم استأثر بالمال لنفسي.. اعتبرته مال الله واعتبرت نفسي خادما مخلصا له.. أنفقه علي عباده, فلم يعد يوجد جائع ولا متعطل.... ألا تذكرنا هذه الأقوال بالرؤية العمرية للعدالة القائمة علي الأخذ من مال الغني لصالح الفقير وأن المال مال الله وأن الحاكم مستخلف فيه وعليه أن يديره بما يرضي الله ويحقق العدالة بين الناس..
عرف عاشور بوجيه الحارة الوحيد.. يشار إليه بإكبار ويقال له بإخلاص( سيد الحارة).. ألا يذكرنا لقب( سيد الحارة) بلقب( أمير المؤمنين).. عاشور أول من لقب ب( سيد الحارة) وعمر أول من لقب ب( أمير المؤمنين).
تأمل معي فترة فتونة عاشور( سيد الحارة) واستحضر معي فترة خلافة عمر( أمير المؤمنين) ولاحظ معي التشابه بينهما.. يقول نجيب محفوظ عن عهد عاشور كان راعي الفقراء يتصدق عليهم, ولم يقنع بذلك فكان يشتري الحمير ويسرح بها العاطلين أو يبتاع لمن يريد عملا السلال والمقاطف وعربات اليد حتي لم يعد عاطل واحد في الحارة عدا العجزة والمجاذيب ويقول كان يمضي بهيكله الضخم يكبح المتجبرين ويرعي الكادحين وينشر التقوي والإيمان.. ويقول أقام فتونته علي أصول لم تعرف من قبل.. رجع إلي عمله الأول ولزم مسكنه تحت الأرض كما ألزم كل تابع من أتباعه بعمل يرتزق منه, وبذلك محق البلطجة محقا, ولم يفرض إتاوة إلا علي الأعيان والقادرين لينفقها علي الفقراء والعاجزين.. وانتصر علي فتوات الحارات المجاورة فأضفي علي حارتنا مهابة لم تحظ بها من قبل, يحف بها الإجلال خارج الميدان, كما سعدت في داخله بالعدل والكرامة والطمأنينة.
ألا يذكرنا هذا بعمر فقد كان أيضا منحازا لقيمة العمل, مشجعا عليه, دافعا له.. قال لأحد المسلمين المنقطعين للعبادة.. من ينفق عليك.. قال أخي.. قال أخوك خير منك.. كان عمر أيضا يمشي في الأسواق بهيكله الضخم يكبح المتجبرين والبلطجية ويرعي الكادحين. لزم عمر أيضا مسكنه وألزم نفسه وأتباعه العمل ورضي لنفسه وأهله عيشة التقشف وألزم الأغنياء بالزكاة ينفقها علي الفقراء وانتصر علي الفرس والروم وفتح البلاد وأضفي علي أمة المسلمين مهابة في الخارج كما سعدت في عهده الأمة بالعدل والكرامة والطمأنينة في الداخل..
ثم ألا يذكرنا في النهاية موت عمر باختفاء عاشور الناجي.. يقول نجيب محفوظ عن وقع خبر اختفاء عاشور نما الخبر إلي الأعيان والتجار فدهمهم الذهول وتفشي في جوهم سحر كالمعجزة.. ولولا الإشفاق من خيبة عاجلة لأسدلوا الستائر وجهروا بالشماتة والفرح.. فليدم الغياب.. ولتطو الأسطورة وليقلب الوضع إلي الأبد.. ألا تذكرنا هذه الحالة بحالة عتاة قريش وأغنيائها حين عرفوا بموت عمر وأنهم قد تخلصوا أخيرا من قوة كابحة كانت تمنعهم من العتو والتجبر والتمتع علي حساب خلق الله..
الاستلهام
وبعد.. هل يمكننا رغم كل هذه الإشارات أن نقول إن( عاشور) هو( عمر)؟.. لو فعلنا ذلك لكنا أجهل خلق الله بالفن.. فعاشور الناجي ليس هو( عمر بن الخطاب), ولا هو( عمر بن عبد العزيز) وتجدر الإشارة هنا إلي أن عمر بن عبد العزيز هو حفيد عمر بن الخطاب فهو ابن ابنته, ولا يخفي ما بين سيرة العمرين من تشابه في التقوي والورع والتقشف وإدارة شئون البلاد والعباد بأمانة وحزم وعدل لصالح الفقراء( الحرافيش).. كما تجدر الإشارة أيضا إلي تشابه بين( عاشور) و(عمر بن عبد العزيز) في النجاة من الوباء.. فقد نجا عمر بن عبد العزيز من وباء ألم بمصر وكان فيها وهو طفل بينما مات والده مصابا بالوباء في حلوان.
رغم كل هذه الإشارات لأوجه الشبه فإن أحدا لا يمكنه أن يقول إن عاشور هو أحد العمرين.. ولكننا نستطيع أن نقول إنه شخصية روائية مستلهمة من أيهما أو منهما معا.. عاشور شخصية روائية متقنة الصنع, عامرة بالأضداد, تأثرت بمحيطها وأثرت فيه, شخصية قادرة علي إثارة المشاعر وتحريك الأفكار وتبني وجهات النظر, عاشور شخصية روائية مثله مثل سعيد مهران وصابر الرحيمي وعيسي الدباغ و.. و.. كلهم وغيرهم شخصيات روائية مستلهمة من شخصيات عاشت في الواقع أو في التاريخ.. شخصيات تموج بأرواح قوية قادرة علي إلهام الأديب وإمداده بالمادة الخام التي يتعامل معها فيضيف إليها ويحذف منها ويقدم ويؤخر ويخفي ويظهر دون أن تفقد الشخصية روحها الأساسية الكامنة فيها فنري المنتج في النهاية( وكأنه هو).. ولمزيد من إيضاح وجهه نظري دعونا نتذكر ما حدث بين النبي سليمان وخدمه من الإنس والجان حين أمرهم بإحضار عرش بلقيس فلما أحضروه قال لهم نكروا لها عرشها فلما رأته قالت( كأنه) هو.. ففي كلمة( كأنه) هذه يكمن الفن وتكمن القدرة علي التحوير والتبديل والإخفاء والتورية, تلك العمليات الفنية التي تبلغ أقصاها حين يري المتلقي المنتج النهائي فتستولي عليه الدهشة ويراوغه اليقين وتتشابه عليه الأمور فيقول( كأنه) هو.. ولعل السر في انبهاري بحرافيش محفوظ هو هذه الحالة من الدهشة التي وجدت نفسي فيها, هو هذه الحالة من الحيرة بين أرواح أشعر بها, ومواد تتحرك علي نحو مراوغ وفاتن يكاد يصرفني عن روحها إن لم أتمسك بها واقبض عليها بقوة.. لعل السر في انبهاري بحرافيش محفوظ هو هذه القدرة الفنية علي التورية والهمس والإشارة والتبديل والتنكير التي جعلتني أصيح( كأنهم) هم. ولعل السر في عدم انبهاري ب( أولاد حارتنا) هو هذا الوضوح الشديد الذي جعلني وجعل الكثيرين غيري يتعرفون مباشرة علي الشخصيات ويشيرون إليهم قائلين إنهم( هم)..
{ المفتاح
ظل السؤال عن جدوي أبيات الشعر الفارسية يشغلني رغم قراءاتي المتعددة للرواية, وفكرت في أن أتجاسر وألجأ إليه هو نفسه وأصارحه بخاطر راودني وهو أن كتابته لهذه الأبيات بلغتها كان عن قصد وتعمد, ولم يكن محض تزيين ولا هو تعليق علي الأحداث, ولكنها موضوعة بلغتها بقصد الإشارة إلي قناعة لديه بأن الحاكم العادل( الفتوة) ليس بالضرورة هو ذلك المتفقه في الدين( الذي يفهم النصوص), ولكنه ذلك المنشغل وجدانيا بالدين, المسلم به, القانع بهذه الحالة من الصفاء الروحي التي يشعر بها حين الاستماع للتراتيل والأناشيد..
وقابلت الأستاذ أكثر من مرة في( الأهرام), ولكني في كل مرة كنت أراه في هالة من الإكبار تجعلني أحجم عن اقتحامه أو تعكير صفوه, وفي كل مرة كنت اكتفي بالتحية من بعيد وأسعد بردها وابتسامته الودود.. وكان من حسن حظي أن ربطت بيني وبين الفنان الكبير بهجت عثمان صداقة, وكان رحمة الله عليه عضوا بارزا في حرافيش محفوظ.. حدثني كثيرا عنه فحدثته عن خواطري بشأن أبيات الشعر الفارسية, فقال لي: ولماذا لا تسأله.. فقلت له ليتك تقوم عني بهذه المهمة.. وكانت سعادتي غامرة حين طلبني العم بهجت تليفونيا وقال لي بالحرف الواحد: سألته.. يقول لك هذا بالضبط ما قصدته..
والآن وأنا أستعيد قراءة الرواية تمهيدا لكتابة هذه التأملات عن حرافيش محفوظ اكتشفت مدي غفلتي.. فالرجل لم يكن في حاجة للسؤال فقد ضمن الرواية نفسها الإجابة.. رمي لنا بالمفتاح لمن يريد أن يفتح الباب ويفهم..
في المقطع الأول من الحكاية الثانية من الملحمة يقول محفوظ في ظل العدالة الحنون تطوي آلام كثيرة في زوايا النسيان.. تزدهر القلوب بالثقة وتمتلئ برحيق التوت.. ويسعد بالألحان من لا يفقه لها معني, ولكن هل يتواري الضياء والسماء صافية.
هكذا وبقدرة فائقة علي التورية يلقي نجيب محفوظ بمفتاح أساسي لفهم الرواية.. يلقي به في لحظة لا يمكن لأحد أن يتوقعها أو ينتبه إليها.. في اللحظة التي ينشغل فيها القارئ تماما بالسؤال عن اختفاء عاشور وعما يمكن أن يحدث من بعده.. في هذه اللحظة يلقي بالمفتاح لمن يريد أن يعرف لماذا كتب أبيات الشعر بلغتها الأعجمية غير المفهومة بالنسبة للقارئ العربي.. ففي ظل العدالة الحنون تطوي آلام كثيرة في زوايا النسيان وتزدهر القلوب بالثقة( الإيمان والتسليم) وتمتلئ برحيق التوت ويسعد بالألحان من لا يفقه لها معني.. إذا تحققت العدالة تحقق سلام الروح فتحقق حسن التلقي للتراتيل والأناشيد.. في ظل العدالة تنتشي الروح وتصبح جاهزة للفرح بالآيات والإيمان بها بغض النظر عن الفهم الدقيق للمعني من وراء الكلمات.. في هذه اللحظة أدركت لماذا تخشع القلوب وتنتشي أرواح العامة عند سماع القرآن الكريم دون أن يفقهوا كثيرا من المعاني.. في هذه اللحظة أدركت لماذا يصرخون من الأعماق( الله) رغم أن الغالبية العظمي منهم لا يفقهون معني الآيات التي تتلي عليهم.. إنها نشوة الإيمان تلك التي تنطلق معها روح المتلقي الي آفاق رحبة ولانهائية من الثقة والفرح فيعبر المعني المحدد للكلمة ويتجاوزه إلي بحار من المعان بلا شطئان..انها وبدقة هذه الحالة التي يتلقي بها الوجدان المؤمن الآيات الافتتاحية لعدد كبير من سور القرآن الكريم( كهيعص) و(ألم) و(ألر) يقرأها ويسمعها المؤمن فينتشي, ولا يقف طويلا بل لا يكاد يكترث باجتهادات المفسرين في محاولاتهم المستميتة للوصول إلي معني بعينه, فالمعني الحقيقي لهذه الآيات بالنسبة للمؤمن كامن في باطنها, وهو علي يقين من ان علمها عند قائلها الحكيم الخبير الذي يعلم السر وأخفي.. في هذه اللحظة تذكرت عاشور وهو ينصت منتشيا لأناشيد التكية الأعجمية.. هو لا يفهمها ولكنه يشعر بها.. هو لا يفقه المعاني ولكنه ممتلئ بروح العدل, وفي رحاب العدالة المنسابة في وجدانه يزدهر قلبه بالإيمان ويسعد بالألحان وإن لم يفقه لها معني..
{ درويش
قبل أن أنتقل إلي الفتوة الثاني في سلالة فتوات الحرافيش( شمس الدين).. أتوقف قليلا أمام الشخصية الضد في الحكاية الأولي.. أعني شخصية( درويش).. درويش هو شقيق الشيخ عفرة زيدان والشيخ عفرة هو والد عاشور بالتبني.. في درويش تتجسد كل معاني الشر, وهو يذكرني علي نحو ما بشخصية( إدريس) في( أولاد حارتنا).. ودعونا نسترجع خبراتنا مع استخدامات نجيب محفوظ للأسماء وايحاءاتها.. تأمل معي اسم( إدريس) واسم( إبليس) ثم تأمل معي اسم( درويش) و(الشيطان).. هل يمكننا أن نغفل عن الإيقاع الصوتي لهذه الاسماء ؟.. وهل يمكننا أن نغفل عن إشارات مثل قيام كلاهما( ادريس)و(درويش) ببناء أوكار الشر في الحارة( البوظة) و(بيت الدعارة).. ومن قبلهما ممارسة قطع الطريق.. هل يمكننا أن نغفل عن مشاعر العداء التي عبر عنها درويش تجاه عاشور وهم يقول( انه ليس بأخي وألا يذكرنا قوله المتعالي بمقولة ابليس انا خير منه؟ وألا تذكرنا غواية( ابليس) لآدم بالعصيان نظير(الخلد والملك الذي لا يفني) بغواية( درويش) لعاشوربالعمل معه قاطعا للطريق لضمان البقاء ستهلك جوعا إذا لم تعتمد علي قوتك ثم ألا يذكرنا خروج آدم من الجنة بخروج عاشور من بيت الشيخ عفرة وقد كان بالنسبة له( الفردوس) علي حد الوصف المحفوظي.. ومن بعد الخروج توالت محاولات الغواية البوظة كما انها تضاعف من شر الشرير فانها تضاعف من طيبة الطيب.. شرف وجرب..
هذا البعد الواحد لشخصية( درويش) في الحرافيش و(ادريس) في أولاد حارتنا يستدعي بالضرورة مثال الشر المطلق( إبليس) أو( الشيطان) فهو في تراثنا الديني والوجداني نموذج للشخصية ذات البعد الواحد.. هو رمز للشرالمطلق... ولأن الرمز لا يموت فقد كان من المنطقي ألا يموت( درويش) في الحرافيش فقد اختفي من الحارة فجأة وكأن لم يكن..
{ شمس الدين
هو الفتوة الثاني من سلالة الناجي, وقد خايلتني فيه روح علي بن أبي طالب.. وأظنه الشخصية الموحية.. وأكرر وأقول الشخصية الموحية.. فليس( شمس الدين) هو( علي) كما لم يكن( عاشور) هو( عمر).. ولن تكون الشخصيات التالية هي نفس الشخصيات التاريخية ذات الملامح المتشابهة, ولكنها هذه الحالة الرائعة من الاستيحاء لشخصيات في بعض الأحيان, ولفترات كاملة من التاريخ ولاتجاهات فكرية أيضا في أحيان أخر.. هذه الحالة الرائعة من الاستيحاء التي منحت كاتبنا قدرا من الحرية في التنقل دون التزام بالتسلسل التاريخي, فقدم وأخر بما تمليه عليه الضرورة الفنية وبما يحقق صفاء التعبير عن الفكرة الأساسية للعمل وهي( العدالة).. وعن شمس الدين أرجو الالتفات إلي هذه الإشارات:
هو الفتي الوسيم الذي تدرب علي ركوب الخيل واللعب بالعصا والمصارعة.. وهو الفتي الذي تربي عليأن لا قيمة لبريق في هذه الدنيا بالقياس إلي طهارة الضمير وحب الناس وسماع الأناشيد هو ابن عاشور وهو أيضا تلميذه ونجيه وصديقه.. ألا يذكرنا شمس الدين علي نحو ما بأبي الفتيان( علي).. وهو أيضا قد تربي في بيت النبوة علي ألا بريق لهذه الحياة بالقياس إلي طهارة الضمير وحب الناس والاستماع إلي القرآن الكريم.. وألم يكن علي هو التلميذ الأول لمحمد رسول الله صلي الله عليه وسلم.. وألم يكن هو نجيه وصديقه..
إن روح الفتي هي المسيطرة علي الشخصية من البداية وحتي النهاية, وما القلق الذي ساور شمس الدين حين اعتراه الكبر إلا قلق علي الروح الفتية التي هي أساس وصلب الشخصية.. وما( علي) في وجدان الناس إلا هذه الروح الفتية التي لم يمسها الكبر.. روح الفتي المغامر غير الآبه بالمخاطر.. بداية من نومه في فراش النبي ليلة الهجرة معرضا نفسه للخطر ومرورا بمواقفه الشجاعة( الفتية) فيما يلي ذلك من مواقف ومعارك خاضها إلي جوار الرسول( ص).
ألا تذكرنا مبارزة صحراء المماليك بين الفتوات المرشحين لخلافة عاشور بمبارزة يوم بدر حين برز( علي بن أبي طالب) وهو فتي صغير السن لطغاة وصناديد قريش وتحديه لهم في المبارزة, وقولهم له تنح فأنت صغير وابن لأخينا ولا نريد أن نؤذيك.. ألا يذكرنا هذا ببروز( شمس الدين) للمبارزة وقول( غسان) له وهو يقف أمامه يعز علي أن أسئ إليك.. أنت غلام يا شمس الدين ثم صياحه وهو يهجم عليه عفوك يا عاشور ومعذرة..
يقول عاشور وهو ينظر بحنان إلي ابنه لن يصلح لها هذا الولد يعني الفتونة.. ألا يذكرنا هذا القول بقول مماثل قيل في حق علي.. ولست علي يقين من أن قائله هو عمر بن الخطاب ولكني أظنه طلحة بن عبيد الله حين مر مع رسول الله صلي الله عليه وسلم بشباب المسلمين وهم يلعبون ويتسامرون فأشار نحو( علي) وقال: ان فيه دعابة.. فعاتبه الرسول بشدة وقال له لتقاتلنه وأنت ظالم له.. وهذا ما حدث فيما بعد في واقعة الجمل التي دارت بين علي وطلحة.. ثم هل يمكننا أن نغفل هذه الحالة من التردد التي كان عليها عمر إزاء اختيار أو ترشيح خليفة له.. وهل يمكننا أن نغفل عن هذه المشاعر التي تسربت إلينا جميعا ونحن نقرأ التاريخ بان تردد( عمر) في اختيار( علي) لم يكن تردد الكاره أو الرافض له بقدر ما كان تردد المحب له والمشفق عليه من تبعات القيادة ومسئولية الخلافة.. وهي نفس الشفقة التي عبر عنها عمر حين اقترح عليه بعضهم أن يستخلف من بعده ولده عبد الله بن عمر..
ثم انظر إلي استقبال الأعيان والبلطجية لفوز شمس الدين بالفتونة واستمع شيخ الحارة إلي القصة كما رواها شعلان الأعور بكآبة يتساءل: تري هل يمتد عهد التجهم والفقر.. ألا يذكرنا هذا باستقبال الأغنياء والمترفين لعهد علي بن أبي طالب.. فقد قالوا إنه عودة لعهد عمر وامتداد لعهد التجهم وكبح الجماح والسيطرة علي نوازع الشره وحب المال وبسط النفوذ والتجبر علي خلق الله. وربما كان هذا هو السبب الرئيسي وراء الخروج عليه ومناوأته من قبل بني أمية وأغنياء قريش الذين انضموا إليهم طمعا في المزيد من الثراء بعد ان اتسعت رقعة الدولة الإسلامية.
ثم انظر إلي المساومة.. يقول شيخ الحارة محمود قطايف نيابة عن الأعيان انهم يرون أنهم مظلومون كما يرون أنك ورجالك مظلومون أيضا, ويقولون إن منزلة الفتوة الحقيقة بين الأعيان, وأن الأعيان فضلهم الله درجات علي الناس, ولن ينقص ذلك من حق الفقير في العدل.. ثم انظر إلي رد شمس الدين الحاسم عاشور الناجي لم يمت.. وتذكر معي مواقف المساومة الكثيرة التي جرت مع علي بن أبي طالب من قبل وجهاء قريش والولاة من بني أمية ومن غيرهم ومن بعض رجال الدين أيضا الذين تمسحوا كثيرا وعبر تاريخنا كله في مسألة الدرجات المفضلة عند الله.. تذكر هذا كله وتذكر معي صلابة( علي) في الدفاع عن الصفاء الإسلامي المتمثل في احقاق الحق وإعلاء قيمة العدل وحق الفقراء في العيش الكريم وكبح جماح الأغنياء لصالح الفقراء والتأكيد علي قيمة العمل..
وإذا كانت للأسماء عند نجيب محفوظ دلالة ومغزي في معظم أعماله.. فقد يكون في اختياره اسم( عجمية) لزوجة شمس الدين دلالته أيضا.. فعلي( الشخصية الموحية) ارتبط علي نحو ما ببلاد( العجم) أعني العراق وفارس, وفيها جل شيعته وفيها مات ودفن رضوان الله عليه..
علي نحو غامض أيضا تذكرت الصراع بين علي بن أبي طالب ومعاوية وأنا اقرأ المقطع رقم(46) من حكاية شمس الدين.. إن هذا الصراع راسخ في وجداني كما أظنه في وجدان الآخرين وكأنه اختبار قوة.. لم يقع في وجداني أبدا أن هذه الحرب بينهما كانت لمحو الآخر أو لإنزال الهزيمة الكاملة به.. لم يكن فيها هذا الغل والإحساس المدمر بالعداء ولكنها وقعت في نفسي موقع المشاجرة بين الأهل.. خناقة قد تسفر عن جرحي وجراح ولكنها وبالقطع لن تسفر عن ذلك النوع الغليظ من العداء المدمر.. كانت مباراة المصارعة بين شمس الدين وولده سليمان اختبار قوة وكذلك فيما أظن كانت حرب( علي) ضد( معاوية).. أو هكذا علي الأقل هي مستقرة في وجداني..
حضرتني روح( علي) كرم الله وجهه وأنا اقرأ تأملات شمس الدين في آخر أيامه يفكر فيما فات وما هو آت, ويتذكر الأموات, ويتذكر الأولياء الذين عمروا ألف عام, والخراب الذي يعبث بالأقوياء, وأن الغدر ليس وقفا علي ضعف النفس والرجال, وأن هدم زفة مسلحة أيسر ألف مرة من صد ثانية بما لا يقال, وأن البيت يجدد, والزاوية تعمر لا الإنسان, وأن الطرب طلاء قصير الأجل فوق موال الفراق.. ألا تذكرك هذه الحالة من التأمل بتأملات الإمام علي وأقواله الحكيمة التي جمعها الشريف الرضي فيما بعد في كتاب نهج البلاغة..
وأخيرا انظر معي إلي هذه الحالة من الاندفاع أو فلنقل التهور التي يصف بها ابن عباس عليا رضوان الله عليهما.. يقول ابن عباس والله ما رأيت رجلا أطرح لنفسه في متلفة مثل علي رضي الله عنه, ولقد كنت أراه يخرج حاسرا عن رأسه, بيده السيف إلي رجل مدرع فيقتله.. ثم انظر إلي وصف نجيب محفوظ للمعركة الأخيرة في حياة شمس الدين اندفع شمس الدين بلهفة إلي قلب المعركة, وثب برشاقة أمام ابنه سليمان فصار وجها لوجه مع فتوة العطوف, تفادي من ضربة شديدة ثم وجه ضرباته السريعة في خفة وحذر.. امتلأ بقوة عجيبة لا يدري من أين جاءته فقاتل كخير ما قاتل من قبل.. تجلي مندفعا فياضا ملهما شديد البأس. تضاعف حماس رجاله وتصاعدت جعجعة النبابيت, وثمل بنشوة القتال فخلق المعجزات. أصابته ضربات لم تعجزه ولم توقفه, ونال من خصمه ضربة أخرجته من النضال. وسرعان ما تفشي الخور في رجال العطوف وأخذوا يتقهقرون....
إنها روح أبا الفتيان( علي)...
{الحب والقضبان..
سألت نفسي عن مغزي اختيار نجيب محفوظ لعنوان( الحب والقضبان) للحكاية الثالثة من حكايات الحرافيش.. أتراه يشير به إلي قصة الحب المستحيل بين الأخ وزوجة أخيه وقضبان الحريم.. وهي القصة التي سيطرت علي معظم مقاطع الحكاية الثالثة.. أم تراه يشير بالعنوان إلي القصة الأهم وهي قصة حب الدنيا والانكباب علي ملذاتها, هذا الحب الذي حول( الفتونة) من فعل عادل فيه أمن وحرية للجميع إلي فعل أناني يحجب الفتوة عن الناس ويحجبهم عنه فيصبح وهو المأمول في عدله أكثر الناس ظلما لنفسه وأهله.. يظلم نفسه حين يرتضي لها العزلة خلف قضبان المطامع الأهواء وأتباع وحراس أشداء يحيطونه من كل جانب ليمنعوا عنه الناس بحجة حمايته وهم في حقيقة الأمر لا يحمون إلا مصالحهم التي تتعاظم كلما نجحوا في حجب( الفتوة) أو الحاكم عن شعبه, وكلما نجحوا في إيهامه بأنهم سبب أمنه وسلامته وأن القوة هي أساس الملك وليست العدالة..
ظاهر الحكاية الثالثة من حكاية الحرافيش هو قصة الحب المستحيل بين خضر ورضوانه زوجة أخيه بكر.. أما باطنها فهو قصة انزلاق الفتوة( سليمان شمس الدين الناجي) إلي حب الذات.. هذا الحب الذي حجبه عن الناس وحاد به عن طريق العدالة وأدي به في النهاية إلي حطام يقول وهو يموت اني أودع الدنيا مثل سجين..
حاز سليمان الفتونة خلفا لوالده العظيم أبو الفتيان شمس الدين عاشور الناجي.. والمتأمل لروح هذه الشخصية قد تخايله كما خايلتني روح( معاوية ابن أبي سفيان).. وإليك هذه الإشارات..
سنية السمري.. بنت الأكابر.. الثرية ابنة الأثرياء كانت هي بداية التحول في مسيرة سليمان الناجي.. كانت هي الإغراء بحياة الترف والمتعة وبها بدأ سليمان مسيرة الانحدار نحو أصحاب المصالح المترفين بعيدا عن الحرافيش والناس الغلابة المتعطشين دوما للعدالة.. ألا يذكرنا اسم( سنية السمري) علي نحو ما( بسورية) و(السامريين).. وفي سوريا كان مقام معاوية, وفيها عرف رغد العيش ونسي خشونة الصحراء.. يقول نجيب محفوظ بإقامته في دار السمري عرف نعومة المجلس ودفء المرقد وسلاسة الملبس وأبهة الماء الساخن في الحمام الفسيح, والستائر والوسائد والنمارق والتحف والسجاجيد والأبسطة والحلي والجواهر والأهم من ذلك كله الأطعمة الفاخرة واللحوم المتنوعة والحلوي الساحرة. وذهل الفتوة وعجب كيف تسكن هذه الجنة الخلابة في طوايا الحارة المتقشفة.. في هذا النعيم( السمري) تمرغ سليمان الناجي كما تمرغ في نعيم( سورية) معاوية ابن أبي سفيان.. ومن هذا النعيم بدأت مسيرة الفتونة في عهدها الجديد والممتد.. فتونة علي الحارة وليس من أجلها..
تذكر معي ما نجحت كتب التاريخ في تصويره لنا من مشاعر المسلمين الحانقة علي معاوية وتمتعه بالترف إبان فترة ولايته علي الشام ثم ما بعدها حين استقرت له الأمور وصار الخليفة.. واقرأ معي هذا المقطع عن سليمان. يقول نجيب محفوظ ثمة نظرات نافذة تهتك ما يستقر في معدته من أطايب الأطعمة والأشربة, وهمسات تدور حول الجنة الخفية بخاصة من رجاله وأتباعه, وأضطر لأول مرة أن يوزع عليهم في المواسم والأعياد, وفي سرية بالغة نقودا من الإتاوات دون غبن يذكر للفقراء والحرافيش. شعر وهو يفعل ذلك بأنه يخطو الخطوة الأولي في طريق كريه شديد الانحدار وأنه يحيد, نوعا ما عن سبيل الناجي. ثم هاله أن ينعم بما ينعم به في دار السمري علي حين تعاني فتحية( زوجته الأولي) وبناتها حياتهن الجافة الشاحبة فامتدت يده مرة أخري إلي الإتاوات وخصهن بنفحات محدودة منحدرا درجة جديدة في الطريق الكريهة.. ألا تذكرنا هذه الخطوات المنحدرة بعيدا عن العدالة بخطوات مماثلة لمعاوية حين أغدق علي الأتباع وخص بني أمية بالمزيد من أسباب العز.. ألم تكن هذه هي البداية نحو ملك قائم علي القوة والمنفعة لفئة دون باقي الفئات..
استحضر معي حالة المساومة والإغراء بالوجاهة والجاه التي تعرض لها شمس الدين وتذكر معي رفضه القاطع عاشور لم يمت.. وانظر معي إلي حالة الاسترخاء اللذيذ التي يشعر بها سليمان وهو يطمئن إلي ما يقوله أحد الوجهاء وهو يدفعه دفعا إلي الطريق الذي يريده ويحقق به ماتصبو إليه نفسه من عز في حماية القوة الفتوة ورجاله من الوجهاء أو هكذا ينبغي أن يكون وخلق الفتوة ليكون وجيها وليلعنني الله ان كنت كاذبا أو مغرضا فيما أقول.. تذكر معي موقف( علي) من هذه المساومات وتذكر معي مواقف( معاوية) منها..
زاد من الهبات لنفسه ولأعوانه فمضت ترتفع نحو منازل الوجهاء حتي هجروا في النهاية حرفهم البسيطة أو أهملوها. وتناقصت أنصبة الفقراء والحرافيش وإن لم يحرموا من الهبات. تغير وجه الحارة المشرق وأخذ الناس يتساءلون أين عهد عاشور.. أين إخلاص شمس الدين.. وتحفز الأتباع للمتسائلين وأرهبوا الساخطين.. استحضر معي حال المسلمين في عهد معاوية ومن جاء من بعده من بني أمية وتذكر معي ما تعرضوا له من إرهاب وقمع من قبل ولاة بني أمية.. تذكر معي الحجاج بن يوسف الثقفي ومن هم علي شاكلته من الولاة أتباع خلفاء بني أمية, وما لاقاه المسلمون الحالمون بعدل( عمر) وإخلاص( علي) من إرهاب, وعنف شديد علي يد هذه العصابة التي جعلت من أنظمة الحكم أنظمة للتسلط بعد أن كانت ملاذا للمتعطشين إلي العدل..
ثم انظر معي إلي هذا الوصف لسليمان واستحضر معي إن شئت وصفا مشابها له لمعاوية في أخريات أيامه تغيرت صورة العملاق ومنظره, ارتدي العمامة والعباءة واستقل الكارتة في مشاويره, نسي نفسه, ثمل حتي اصابه خمار الانحراف ومضي يمتلئ بالدهن حتي صار وجهه مثل قبة المئذنة وتدلي منه لغد مثل جراب الحاوي.. و.. انتفخت كرشه وتدلت عجيزته ومن افراطه في الطعام كان يغالبه النوم وهو متربع علي أريكته في القهوة..
ألم يكن معاوية هو أول من اتخذ المقاصير وأقام الحرس والحجاب وأول من مشي بين يديه صاحب الشرطة بالحربة وأول من تنعم في مأكله ومشربه وملبسه.. هكذا تصفه كتب التاريخ.. وهكذا تصفه أيضا في أخريات أيامه وقد صار ضخما عظيم الجثة يعلوه الدهن..
ثم انظر إلي هذه الحالة من الندم عند مقابلة الموت يقول سليمان الناجي لأهله وقد تجمعوا حوله الدنيا لا تساوي شيئا حتي يهبها الإنسان روحه ويقول وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة اني أودع الدنيا مثل سجين.. موقف مشابه تماما لما حدث مع معاوية حين حضره الموت فقد جمع أهله من حوله وهو يقول هذه نفسي قد خرجت من قدمي فردوها علي ان استطعتم ثم يقول من تغره الدنيا بعدي..
وأخيرا.. يصف نجيب محفوظ عهد سليمان بأنه كان بداية تحول الفتونة إلي سابق عهدها قبل عاشور فتونه علي الحارة لا لها, ولا خدمة تؤديها إلا خدمة الدفاع ضد الفتوات الآخرين.. وأظن أن الأمر ذاته مستقر في وجدان الغالبية العظمي من حرافيش المسلمين.. مستقر في وجداننا أن عهد معاوية كان بداية تحول السلطة إلي تسلط علي الناس وليس لهم.. وغدت خدمتها الوحيدة هي الدفاع عن تخوم العالم الإسلامي وقتذاك ضد الأعداء الخارجيين.. ومن المؤسف حقا أن هذه المهمة الوحيدة الباقية من مهام الفتونة راحت تتضاءل مع مرور الزمن.. فالقهر الداخلي كان لابد أن يتولد عنه ضعف خارجي.. والحارة غير الآمنة بالعدالة في الداخل لن تأمن عدوان الطامعين من الخارج.. وهكذا عشنا نحن الحرافيش قرونا تتناوشنا أنياب الفتوات الظالمين في الداخل والفتوات الطامعين من الخارج.. لنا الله..
{ المطارد
بداية من الحكاية الرابعة من حكايات الحرافيش نحن أمام حالة رائعة من الاستلهام وعلي نطاق واسع.. استلهام لشخصيات, ومذاهب دينية, وأزمنة تاريخية, والرابط بين الجميع هو البحث عن حلم الحارة حلمنا في عدالة تشمل الجميع وعن فتوة تتحقق به الآمال..
في الحكاية الرابعة يقص علينا نجيب محفوظ حكاية سماحة الناجي( المطارد) هو ابن بكر بن سليمان بن شمس الدين بن عاشور.. ولد في أسرة ميسورة يدير تجارتها عمه خضر, وينشغل بأمورها شقيقه رضوان.. أما سماحة فقد بدا أنه مشكلة؟!.
في المقطع الثاني من الحكاية الرابعة يقول محفوظ كان سماحة متوسط الطول, فائض الحيوية, قوي العضلات, في وجهه ملامح شعبية من وجه جده سليمان, تنبسط تحت رأس نبيل وبشرة صافية تذكران بأمه رضوانة.. أتم تعليمه بالكتاب, واكتسب من عالم الفضيلة شهامة وكرما وبعض الورع, ولكنه ولع بمغامرة الشباب, والجسارة, وعبادة البطولة.
نحن إذن أمام مشروع لفتوة جديدة من آل الناجي بعد جيل كامل خلا منهم.. يلحظ العم خضر ملامح الفتونة في سماحة فينتابه القلق, ويحاول استمالة ابن أخيه إلي التجارة اتقاء للمخاطر فيجد الرد الحاسم من الفتي لم اخلق للتجارة يا عمي.. ويقول رأسي ملئ بالآمال.. وهاهي روح الفتونة تعلن عن نفسها سوف يرجع عهد الناجي ذات يوم إلي أصله.. انها الروح الطموح المتشبثة بالجذور, الحالمة بالعودة إلي نقاء الأيام الأول..
سماحة( المطارد) ذكرني علي نحو غريب بالمذهب( المطارد) عبر تاريخنا كله.. وأظن أن المذهب الشيعي هو الملهم لشخصية سماحة ففيه تتجسد معالمه, وهذه إشارات:
يصف نجيب محفوظ بطل الحكاية الرابعة( سماحة) بالشهامة والكرم والولع بمغامرة الشباب, والجسارة وعبادة البطولة.. وهي صفات لا يمكن لأحد أن ينكرها علي غير أتباع المذهب الشيعي كما لا يمكن لأحد أيضا أن ينكر تعظيم الشيعة لهذه الصفات أكثر من غيرهم.. ودعنا نتذكر الروح الجسورة وعبادة البطولة التي جعلت حفنة صغيرة من اتباع( الحسين) قادرة علي مواجهة جيش( يزيد) الجرار.. ودعنا نتذكر أيضا( الروح الجسورة وعبادة البطولة) التي تبدت في شخصية معاصرة أعادت إلي الخواطر ذكريات الأمس.. أعني بذلك بالطبع شخصية حسن نصر الله زعيم حزب الله( الشيعي) في لبنان أثناء مواجهته الأخيرة لفتوات العصر( إسرائيل وامريكا)..
انظر معي إلي المزاج الحزين لسماحة الناجي يتقطع قلبه علي الشهداء واستحضر معي مشاهد الأحزان في احتفالات الشيعة بالشهداء من آل البيت.. ولا أظن أن عبارات مثل يا حسين يا سيد الشهداء ونذر خروف لآل البيت قد جاءت في هذا الفصل من الرواية عفو الخاطر.. فكلها عبارات ذات صلة بالشيعة.. كما لا أظن أن اختيار محفوظ لاسم( سماحة) إلا عن قصد وإشارة إلي الحالة الموحية( الشيعة).. فكلمة سماحة لها لديهم دلالة وهي عندهم لقب ديني محترم..
يصفه نجيب محفوظ ب( الحالم الكبير).. الحالم بالفتونة والحكم والعدالة للجميع علي نهج الناجي العظيم.. هكذا هو سماحة ومن أجل حلمه عاني ولاحقته المطاردة.. وهكذا هو المذهب الشيعي الحالم بالعودة إلي العدل في صورته الباهرة الأولي.. وهكذا أيضا عاني الشيعة طوال تاريخنا من المطاردة علي يد الدولة الأموية ثم العباسية وما تلا ذلك من دول ولم يهنأ الشيعة بالاستقرار إلا بضع سنوات إبان حكم الفاطميين لمصر.. ظل الشيعة هم المطاردين عبر تاريخنا كله وكانوا دوما هم الحالمين الكبار.
%%....()..(),,.., ذ ذ().. ا.., ب.. ا ب.......() ا....,, ب..
%%()..()() ا,,..,,,,.,, ب.. ا.... ب..
..,....()..()()...
%%()! ذ.. ا ب..()()()!..()()..()()..
%%()()....,().. ا.., ب..
....................
....................
..,,....()()()()()......
{ قرة عيني:
يفتتح نجيب محفوظ الحكاية الخامسة من حكايات الحرافيش بالاختفاء الجديد للمطارد( سماحة الناجي), ويختتمها بعودته وقد تحقق حلمه باعتلاء ابنه( وحيد) كرسي الفتونة.. وبين الاختفاء والعودة تدور فصول الصراع داخل البيت الحاكم.. بيت آل الناجي.. ذلك البيت الذي أصبح ثريا يملك تجارة مربحة موروثة عن خضر الناجي, ويقوم علي إدارتها الشقيقان( قرة عيني) و(رمانة) بينما عرف الشقيق الثالث( وحيد) طريقه نحو الفتونة فانتزعها من يد( الفسخاني) بعد حلم عجيب رأي فيه طيف جده العظيم عاشور.. وهكذا عادت الفتونة إلي آل الناجي.. بعد جيلين( جيل بكر وخضر ثم جيل سماحة)..
يقول محفوظ عصفت الدهشة بالحارة.. خفقت قلوب الحرافيش بالأمل. اضطربت خواطر الوجهاء بالخوف حلمت أسرة الناجي بالعرش المضيء ومضي وحيد ينوه بالحلم الذي رآه, والمعجزة التي أحدثتها يده المسحورة, والثقة الخارقة في النصر التي هونت عليه مجابهة الموت, وسرعان ما أحس حرارة الأمل المتطلعة إليه وبرودة الخوف المتوجسة منه, ولكنه آثر التمهل والتدبر, فترك الأمور تسير في طريقها المعهود عدا نفحات جاد بها علي المعسرين والحرافيش نحن إذن أمام جيل جديد من آل الناجي.. جيل مختلف.. يسأله عم رضوان: متي تحقق حلم أبيك الغائب؟ فيرد عليه بحذر: خطوة.. خطوة وإلا أفلت زمام العصابة من يدي.. رحم الله امرأ عرف قدر نفسه.. بوادر خيبة الأمل التي سرعان ما تتحول إلي واقع بغيض.. كلما مضي يوم تذوق جلال الفتونة ونعمة الثروة ومداهنة الوجهاء وأخذ يستسلم لتيار الإغراء, فتقوي في نفسه نوازع الأنانية, وتضعف أحلام البطولة والعهد وإذا به يشرع في إنشاء دار خاصة به, ويتمتع بكل جميل وطيب في الحياة, ويولع أكثر بالبوظة والمخدرات, ويتمادي في ممارسة شذوذه حتي خرج به من السر إلي العلانية حتي قال رضوان الناجي( عمه) لزوجته أنيسة: أليس الأفضل أن يكون الوغد من غيرنا..
علي نحو ما ذكرتني شخصية( وحيد) بشخصيات مشابهة في تاريخنا, فما أكثر حكايات المتجبرين والمنحرفين الذين اعتلوا كراسي الحكم عبر تاريخنا المجيد وما أقل العادلين.. ولعل الشخصية الأقرب لشخصية( وحيد) هي شخصية( الوليد بن يزيد بن عبد الملك) وهو الخليفة السادس من خلفاء بني أمية.. لاحظ التشابه في الإيقاع الصوتي لاسم( وحيد) و(الوليد).. ثم لاحظ الاستخفاف بقيمة العدل والمجاهرة بالفسق والولع بالمتع الحسية في الشخصيتين..( وحيد) أشتهر بفسقه وجاهر به, و(الوليد) تلقبه كتب التاريخ ب( الفاسق) وتنسب إليه ما يشبه الأساطير.. فيقال أنه واقع جارية له وهو سكران وحين حل ميقات الصلاة حلف ألا يصلي بالمسلمين إلا هي, فلبست ثيابه وصلت بالناس وهي سكري جنب, ويقال أيضا أن خليفة المسلمين( الوليد) اصطنع في قصره بركة من الخمر وكان إذا طرب ألقي بنفسه فيها وظل يشرب منها حتي يبين النقص في أطرافها..
لا أمل إذن في( وحيد) علي الرغم من انتمائه الأصيل لآل الناجي وسرعان ما ينفض نجيب محفوظ يديه من هذا الفتوة الكريه ليخصص بقية الحكاية الخامسة لما هو أشد خطرا علي بيت الناجي وعلي الحرافيش الآملين فيه..
تدور معظم المقاطع الثمانية والخمسين من الحكاية الخامسة حول الصراع داخل بيت الناجي بين الأخوين( قرة عيني) و(رمانة) ومن خلفهما زوجتان وشقيقتان أيضا( عزيزة ورئيفة) وكلتاهما قامت بدور المسعر للصراع بين الأخوين حتي قتل( رمانة) أخاه( قرة عيني) ليستأثر بالمال والجاه الموروث عن آل الناجي..
وفي الحكاية الخامسة ملامح من الصراع الذي دار بين( محمد الأمين) و(عبد الله المأمون) إبني الخليفة العباسي الأشهر هارون الرشيد.. صراع لم تشفع فيه الأخوة ولم تردع الأخ عن قتل أخيه في سبيل السلطة والجاه والمال.. وكما قتل( رمانة) أخاه( قرة) قتل( المأمون) أخاه( الأمين).. كلاهما افتتح مائدة الدم العائلي فتنوعت صوره وأشكاله في( آل العباس) وفي( آل الناجي).. كلاهما بدأ الملحمة العائلية التي انتهت بأبناء يقتلون آباءهم في العائلتين علي نحو ما سنري..
وإذا كنا قد اعتدنا الانتباه لأسماء الشخصيات عند نجيب محفوظ وما تحمله من دلالة فدعني أضع أمامك هذا النص للكسائي وكان هو القائم علي تعليم الأخوين( الأمين والمأمون).. يقول الكسائي: أتتني ذات يوم جارية زبيدة( أم الأمين) وقالت يا كسائي إن السيدة تقرأ عليك السلام وتقول لك حاجتي إليك أن ترفق بابني محمد فإنه( قرة عيني) وثمرة فؤادي وأنا أرق عليه رقة شديدة.
تري هل أوحي هذا النص لأديبنا الكبير باسم( قرة عيني).. تري هل في( الأمين) ملامح من( قرة عيني).. ربما.. تري هل في الحكاية الخامسة روح وملامح من هذه الفترة التاريخية التي عشناها نحن الحرافيش.. أظن ذلك..
{ شهد الملكة:
فتوة الحكاية السادسة امرأة ولكنها ليست ككل النساء.. هي من آل الناجي, فتوة من بيت فتونة, وإذا كان سلاح فتوات آل الناجي هو النبوت فسلاحها ليس أقل خطرا.. سلاحها الجمال الذي يطيح بالرؤوس كما تطيح بها النبابيت.. جمال مسيطر لا سبيل لمقاومته.. جمال انحنت له رؤوس كل الفتوات.. يوجز نجيب محفوظ وصفها في عبارة ملهمة انها روح الجمال الفتاك.. الأعين تلتهمها, الألسنة تتفنن بالثناء عليها, منظرها يبعث السحر ويوجد الحركة.. إنها قوية مدللة بالطبيعة والناس وهي تقابل الغزل بالترفع والكبرياء وتزداد تيها وثقة بالنفس.. ها هي تكتشف ذاتها وها هي تنتقل لطور آخر عاشت في دوامة من التمرد والتحفز.. علي الحياة أن تغير وجهها.. القوة كفيلة بأن تغير أبعاد الكون.. كل دقيقة تمر بلا تغيير انتصار للذل والتعاسة.. وها هي روح الثورة والفتونة تطل.. تحيل حياة زوجها( عبد ربه الفران) إلي جحيم وتتطلع إلي الدنيا المليئة بمن هم أجدر بها منه.. ولم لا وهم كثر.. التاجر الثري محمد أنور والفتوة نوح الغراب ومأمور القسم فؤاد عبد التواب ومعهم جميعا كبير عائلة الناجي نفسه عزيز..تهاوي من حولها الكبار, واشتعلت الأحداث بحرارة جمالها, وروحها الوثابة وآمنت بأنها الفتوة الحقيقي وراء كل الأحداث.. وعاشت زهيرة الطور الثالث من أطوار حياة الملكة.. شهدها عزيز صعب المنال, وقوتها تطيح بالرجال.. في سبيلها يراق المال والدم وتتهاوي أمامها حصون العز والجاه والقوة.. عاشت زهيرة الحياة كما كانت تبغيها وماتت ليس كما تموت حسناء في خدرها, ولكن كما يموت الفتوات من الرجال... بالنبوت وعلي الملأ في مشهد يليق بمصرع بزعيم تاريخي..
الآن أتذكر هذه اللحظة التي كانت سببا في عشقي لهذه الرواية.. اللحظة التي أهاجت روحي وأيقظت كل حواسي وجعلتني أقفز إلي الفصل الأخير ثم أعود لقراءة الرواية من أولها.. انها لحظة مصرع زهيرة.. قبلها كنت أتابع الفصول واقرأ حكايات لفتوات في حارة مصرية حتي أتاني مصرع زهيرة ليهزني من الأعماق ويثير بداخلي الأسئلة.. من هذه السيدة؟.. ما كل هذا الفن والجمال؟!.. ما هذه الومضات التي تخايلني في الأعماق؟! هل انت امرأة ككل النساء أم أنت مصر؟! مصر الفاطمية علي وجه التحديد.. هذا الجمال وهذه الدندشة تذكرني بمصر الفاطمية.. وهذا التحفز للاستقلال والتحرر يذكرني بها.. وهذا التكالب عليك يا زهيرة من الجميع يذكرني علي نحو غامض بتكالب كل القوي عليك يا مصر من قبل وأثناء ومن بعد فترة الحكم الفاطمي.. خمسة من الكبار تصارعوا عليك يا زهيرة( عبد ربه الفران) و(محمد أنور) و(نوح الغراب) و(فؤاد عبد التواب) و(عزيز).. وخمسة من الكبار تصارعوا عليك يا مصر في ذلك الوقت:( الأخشيد) و(العباسيين) و(الصليبيين) و(الفاطميين) ثم( الايوبيين).. انظر إلي صفات( عبد ربه الفران) الأسود أفطس الأنف وقارن بينه وبين( كافور الأخشيد).. و(نوح الغراب) وقارن بينه وبين( الدولة العباسية) فتوة ذلك الوقت فقد كان شعارها ولون رايتها أسود بلون الغراب النوحي.. وانظر إلي( فؤاد عبد التواب) مأمور القسم ودخوله الحارة وسط مظاهرة عسكرية ضخمة ومرفوضة من قبل الحرافيش وتذكر( الصليبيين) وانتبه إلي اسم( فؤاد) وتذكر معي اسم( قلب الأسد).. ثم انظر أخيرا إلي( عزيز) ثري آل الناجي تذكر معي( المعز لدين الله الفاطمي).. تذكر ذهب المعز وسيفه..ثم انظر الي نهاية( زهيرة) بنبوت( محمد انور) وتذكر نهاية( الدولة الفاطمية) بسيف( صلاح الدين مؤسس الدولة الأيوبية).. ثم ان اسمك يا( زهيرة) لا يمكن أن يكون قد جاء لأديبنا الكبير هكذا عفو الخاطر.. ألا يمكن أن يشير الاسم إلي مصر الفاطمية نسبة إلي فاطمة( الزهراء)؟!..
وهكذا انفجرت في رأسي الأسئلة التي قادتني إلي إعادة قراءة الرواية.. وتأمل ما فيها من فن وجمال ومن قدرة فذة علي استلهام روح وتاريخ الأمة..
{ جلال صاحب الجلالة:
%..()..............
تلقي جلال الضربة الأولي من عدوه في أعز الناس لديه.. في أمه( زهيرة) التي هي مبدعته ومهده وحبه, إنها روحه ودمه.. صورتها مطبوعة علي وجهه.. صوتها يشدو في أذنه.. رأي جلال طيف عدوه بين عظام رأس أمه المهشمة, ولمح وهو لا يزال طفلا ملامح مرعبة لفتوة هائل القوة وقد انعكس وجهه علي سطح بركة الدم.. ضربة مهولة في صميم روح الطفل جعلته يقضي بقية طفولته وشطرا من شبابه في بحث دائم عن هذا الفتوة المرعب.. يسأل ما الموت؟!.. لماذا الموت؟!.. أسئلة لم يعثر علي إجابة شافية لها من أحد.. فكظم غيظه وواصل حياته حتي فاجأه نفس الفتوة بضربة أخري أشد وفي الصميم أيضا.. في أعز الناس وأمله في حياة مستقرة هادئة.. كانت الضربة في الحبيبة( قمر) وقبل أيام قليلة من إتمام الزواج.. شعر جلال بأن كائنا خرافيا يحل في جسده.. انه يملك حاسة جديدة ويري عالما غريبا.. عقله يفكر بقوانين غير مألوفة وها هي الحقيقة تكشف عن وجهها.. رنا إلي الجثة المسجاة طويلا.. طوي الغطاء عن الوجه.. إنه ذكري لا حقيقة.. موجود وغير موجود.. ساكن.. بعيد منفصل عنه لا يمكن أن يقطع.. غريب كل الغرابة, ينكر ببرود أي معرفة له.. متعال متعلق بالغيب.. غائص في المجهول.. مستحيل غامض مندفع في السفر.. خائن, سافر, قاس, معذب, محير, مخيف, لا نهائي, وحيد.. وغمغم بذهول وتحد: كلا.... لحظة فارقة أعلن فيها جلال الرفض لهيمنة الفتوة الرهيب واستهتاره بالآمال.. وسرعان ما تطور الرفض إلي مواجهة حاسمة في سبيلها فلتتهاو كل حصون التعقل ولتفتح كل آفاق الجنون..
يمشي في الشوارع ذاهلا وكأنه يبحث عنه ويسأله سائل لا تري يا معلم جلال إلا ذاهبا أو آيبا عم تبحث؟.. فيجيبه بازدراء أجد ما لا أبحث عنه وابحث عما لا أجد.. إجابة فلسفية من شاب من البشر قرر المواجهة ضد الفتوة الذي أضناه وأضني عقول كل البشر.. واندفع جلال في المواجهة لا يبغي سواه, ولا يرتضي بغير قهره.. يخوض المعركة ضد( سمكة العلاج) لا طمعا في الفتونة علي الحارة والبشر, ولكن تحديا للفتوة الأكبر الموت ولأحد أعوانه المنفذين لأوامره.. وحين يعتلي جلال عرش الفتونة علي الحارة لا يولي اهتماما لآمال وأحلام الحرافيش في العدالة فليس من أجلهم ولا من أجل العدالة يخوض المعارك.. ولكنه يخوضها لغرض شخصي بحت.. لثأر شخصي ضد الفتوة الرهيب وقد صمم علي قهره والتفوق عليه ولو بمؤاخاة الجن والسجن الانفرادي لمدة عام كامل.. سيتفوق عليه بكل ما يقدر عليه من جنون..
وينفذ جلال مطالب الجان بالكامل, ويخرج إلي الدنيا مزهوا بنصره علي عدوه ليعتلي عرش الخلود الذي لم يعتليه أحد من قبله.. ولكن أني له النصر علي عدو لا يعرف الهزيمة؟!.. عدو ماكر يجيد التخفي وإخفاء نبوته حتي تحين اللحظة التي يستله فيها من بين طيات الغيب ويوجه به الضربة التي لا تخيب.. ويتلقي جلال الضربة فيترنح ويظنها مجرد وعكة شراب, وحين تصارحه العشيقة الخئون بأنها سقته من السم ما يكفي لقتل فيل, وبأن حبيب القلب يموت.. يصرخ رافضا الهزيمة جلال لا يموت.. الموت مات يا جاهلة.. انه يرفض أن يصدق.. يقاوم حتي الرمق الأخير.. وعثر في تخبطه بجسم بارد.. انه حوض الدواب اجتاحته فرحة النجاة.. انحني فوق حافة الحوض فتهاوي إلي أسفل.. مد ذراعيه فغرق في الماء.. لامست شفتاه الماء المشبع بالعلف.. شرب بنهم.. شرب بجنون.. صرخ صرخة مدوية ممزقة بوحشية الألم.. غاص نصفه الأعلي في الماء العكر.. تقوض نصفه الأسفل فوق أرض مغطاة بالروث.. كفنته الظلمة الحالكة في تلك الليلة المثيرة المفزعة من ليالي الربيع..
تنكيل مذل بالفتوة المهزوم, وانتصار كاسح للفتوة الرهيب الذي لا يقهر.
في الحكاية السابعة تفاصيل كثيرة وتأملات في غاية الإبداع للحياة والموت, رسم شديد الروعة لشخصية مفعمة بالمشاعر والأفكار والشطط والجنون.. ولقد ذكرني( جلال) علي نحو ما بشخصية( الحاكم بأمر الله) وأظنه الشخصية الموحية وهذه إشارات.
جلال ابن( زهيرة) والحاكم ابن( مصر الفاطمية) وقد بينا من قبل وجهات الشبه بينها وبين زهيرة.
جنون( جلال) و(الحاكم) لم يكن جنونا بمعني الهلوسة وذهاب العقل, ولكنه نوع من الشطط في الفكر والفعل..
%%()(),..
%%()()....().
%%()()........
%%.. ا ب....407,,,,,(),..(),..,,,..
%%()..()()..
%%()()..()(),,.
%%()()..()(),,.
%%()()....
{ الأشباح:
إسحاق المعتصم, ثم هارون الواثق بالله, ثم جعفر المتوكل, ثم محمد المنتصر بالله, ثم المستعين بالله, ثم المعتز بالله, ثم المهتدي بالله, ثم المعتمد علي الله, ثم المعتضد بالله, ثم المكتفي بالله, ثم المقتدر بالله, ثم المرتضي بالله, ثم القاهر بالله, ثم الراضي بالله, ثم المتقي بالله, ثم المستكفي بالله, ثم المطيع الله, ثم القادر بالله, ثم القائم بأمر الله, ثم المقتفي لأمر الله, ثم المستنجد بالله, ثم المستضيء بنور الله, ثم الناصر لدين الله, ثم الظاهر بأمر الله, ثم المستعصم بالله..
من منا نحن الحرافيش يحتفظ في وجدانه بأي أثر لأي من أصحاب هذه الأسماء؟!.. من منا يذكر أحدا منهم؟!.. كلهم بالنسبة إلينا أشباح هامت في ظلمة عصر شبحي مظلم هو العصر العباسي الثاني.. عصر انحطاط وتفسخ الدول العظيمة التي قامت علي يد عظماء وآل مصيرها في النهاية إلي أشباح.. وأظن أن نجيب محفوظ قد استوحي هذا العصر وهو ينسج الحكاية الثامنة من حكايات ملحمة الحرافيش وتكفي إشارة واحدة أراها جديرة بالتأمل.
%%()()..()()..(),,,,,()....()(), ذ ذ()()....
علي كل حال( شمس الدين) الابن القاتل.. و(جلال) الأب القتيل.. و(سماحة) الحفيد الذي اعتلي عرش الفتونة بالصدفة.. ثلاثتهم يحملون أسماء لثلاثة من الفتوات العظام من آل الناجي.. مجرد أسماء خالية من روح الفتونة والحلم بالعهد والعدل.. أسماء خالية حتي من الجنون وجسارة من يصارعون المستحيل.. ثلاثة أشباح ذكروني بعصر شبحي اعتلت فيه كراسي الحكم الإسلامي أشباح حملت أسماء عظيمة ولم تحمل من جوهر العظمة أي شيء..
{ سارق النعمة:
الحكاية التاسعة من حكايات ملحمة الحرافيش هي الأقصر.. ثمانية وثلاثون مقطعا فقط.. بدت لي كنسمة خفيفة بعد هجير الحكايات السابقة عليها.. بدت لي كبشارة.. كومضة ضوء تسبق الإشراق والنور الذي ستسطع به الحكاية العاشرة والأخيرة من حكايات الحرافيش..
بطل الحكاية التاسع هو( فتح الباب) وقد ذكرتني قصته القصيرة بواحدة من أقصر القصص, ومن أكثرها تأثيرا في وجداننا نحن الحرافيش.. ذكرتني قصة( فتح الباب) بقصة( سيدنا يوسف) وأظنها مصدر الإلهام وهذه إشارات:
الصفات المشتركة بين الشخصيتين الأساسيتين.. الجمال والرقة والعذوبة والأمانة والجدية في العمل, وهي الصفات التي أهلت( فتح الباب) للعمل خازنا للغلال عند الفتوة( سماحة).. وهي نفسها الصفات التي أهلت( سيدنا يوسف) للعمل خازنا للغلال عند عزيز مصر.
%%()()().
%%(),(),()..
%%()()()().. ا ب..() ا ب.....
%%()()().
%%..()(.. ا ب.
%%....!..!.. ا.. ب..
{ التوت والنبوت:
بطل الحكاية العاشرة والأخيرة من حكايات الحرافيش هو الكمال والاكتمال.. اسمه( عاشور) وفيه يتجسد حلم( آل الناجي) وحلم الحرافيش.. فتوة ولكنه ليس كأي فتوة.. به تكتمل الدائرة وتختتم الملحمة بخير ختام..
عرف عاشور( اليتم) وهو طفل في السادسة.. تربي في بيت فقير من بيوت آل الناجي( لم يعرف رفاهة الثراء ولكنه عرف شرف النسب وفضيلة النضال في سبيل الحياة)..( عمل صبيا برعي الأغنام) فعرف في المراعي روعة السكون, وهدأة السماوات والأرض, وتشبعت روحه بجمال الخلق, وجلال الخالق.. كان( متأملا عظيما).. وكان إذا ضاق صدره مضي إلي ساحة التكية يؤاخي الظلمة ويذوب في الأناشيد.
لم يعرف عاشور في طفولته وشبابه سوي البراءة والعمل ومتعة التأمل.. لم يخالط أقرانه في اللهو واللعب.. لم يظهر قط في البوظة أو الغرزة أو القهوة.. وكان قويا مهذبا, غطي تهذيبه علي قوته فواراها عن الأعين وكان نبيل الرأس, غليظ القسمات, غامق السمرة.. في وجنتيه بروز وفي فكيه صلابة.
عاني كما يعاني كل الحرافيش من بطش وتجبر الفتوة( حسونة السبع) فاضطر إلي الخروج من الحارة وأوي بأمه إلي مكان بعيد, ولكن خروجه لم يكن بطعم الهرب أو الفرار بقدر ما كان بطعم( الانسحاب التكتيكي) أو( الهجرة المؤقتة) حتي تأتي اللحظة المناسبة للعودة الظافرة..
في ملجئه أو( مهجره) داوم علي ما تربي عليه من تأمل.. تأمل الحاضر والماضي.. فكر فيما آل إليه حال الحرافيش وتساءل عن السبب وراء انتكاس عهد الناجي العظيم.. كان علي يقين أن الذنب لم يكن ذنب جده( الفتوة) الكبير ولكنه تساءل في سره عما كان ينقصه, عما أفشل سعيه النبيل عقب وفاته أو عقب وفاة شمس الدين.. مادام يوجد خطأ فلابد أن يوجد صواب, وإذا وجد الصواب مرة فمن الممكن أن يوجد مرة أخري, وإذا كان قد انتكس بعد وجوده فيمكن أن نضمن له حياة لا تعرف الانتكاسة..
انه لا يكف عن التفكير ويجلس طويلا مع أمه( حليمة البركة) يحدثها وكأنه يخاطب نفسه ويقول وهو يضع يده علي مكمن الداء في روح الأمة الشيطان ينتصر بالتسلل إلينا من نقاط الضعف فينا ويقول حبان يشكلان أضعف ما فينا: حب المال وحب السيطرة علي العباد.
عقل مستنير يعيد التفكير فيما كان ليتأكد من مواطن القوة والضعف.. روح واثقة. قوية, فعالة, تسعي إلي تحقيق العدالة علي قوائم لا تهتز ولا تتغير بتغير الزمن وتبدل الفتوات..
يلتقي( عاشور) مع الحرافيش من أهل الحارة في سوق الدراسة وسرعان ما ينال حبهم وثقتهم حين ينجح في ملء أرواحهم بالثقة.. يقول لهم ان العدل قد يتحقق ساعة في ظل فتوة عادل لكن ماذا بعده؟.. ويقول لهم بجدية المؤمن بكل كلمة يقولها لقد حلمت حلما عجيبا.. رأيتكم تحملون النبابيت.
ها هو يؤسس عهدا جديدا, الفتونة فيه لفكرة العدل, والفتوة فيه هو كل إنسان يدافع عن العدل.. الكل فتوات في خدمة الفكرة.. وإذا كان جده قد اعتمد علي نفسه لتحقيق العدالة فها هو يجعل من كل حرفوش فتوة..
وها هو يعود إلي الحارة قويا بأهلها المؤمنين بأفكاره.. ها هو يدخلها دخول( الفاتحين) فتتهاوي كل قلاع الظلم والقهر, وتنهد كل( أصنام) الجهالة والخرافة.. ولم يتوان عاشور ربيع الناجي ساعة واحدة عن تحقيق حلمه, ذلك الحلم الذي جذب به الحرافيش إلي ساحته ولقنهم تأويله في الخلاء.. وسرعان ما ساوي في المعاملة بين الوجهاء والحرافيش, وحتم علي الحرافيش أمرين: أن يدربوا أبناءهم علي الفتونة حتي لا تهن قوتهم يوما فيتسلط عليهم وغد أو مغامر, وأن يتعيش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم.. وهكذا بعث عهد الفتوة البالغ أقصي درجات القوة وأنقي درجات النقاء.
الحكاية الأخيرة من حكايات ملحمة الحرافيش فيها الرؤية المحمدية للعدل القائم علي( الحق)..( حق الله) في أن يطاع في أمر جوهري من أوامره ان الله يأمر بالعدل.. و(حق الناس) في العيش في ظل العدل.. وحق الناس( كل الناس) في الدفاع عن العدل ضد أي فتوة وبالقوة.. وبالنبوت عند الضرورة.
في الحكاية الأخيرة روح عظيمة مهيمنة وملهمة.. وفيها وبها مسك الختام
نجيب محفوظ مائة عام من الأدب
v
عامنا هذا هو المتمم لمئوية الراحل العظيم نجيب محفوظ. وكان المخطط له أن يكون كرنفالا متنوع الفعاليات بطول السنة, يبدأ يوم2010/12/11 وينتهي في2011/12/11, بواقع احتفالية كل شهر في المجلس الأعلي للثقافة, وأنشطة موازية بمكتبة الإسكندرية في الوقت نفسه, مع إتاحة المجال للمؤسسات الخاصة, والأفراد, لإقامة الندوات, والاحتفاء بأديب نوبل كما يشاءون, لتكون السنة كلها لمحفوظ رسميا وشعبيا.
لكن الأقدار شاءت أن تهيمن ثورة يناير البهية علي الشأنين العام, والخاص منذ مطلع العام, لتشغلنا جميعا بأحداثها العظيمة. وعزاؤنا أن تكون هتافاتها وصلت إلي نجيب محفوظ في مرقده, وسعد بتحقق حلم الحرية المتكرر في جل أعماله, وأحاديثه, في ملحمة تشبه ثورة1919 المجيدة, الأثيرة لقلبه, والتي عدها في ثلاثيته الشهيرة, مثالا ساطعا لإرادة الأمة المصرية ووحدتها الوطنية.
والآن. بعد هدوء الهتافات, واستحالة الحماس الشعبي إلي تأمل وبحث عن سبل الخلاص الديمقراطي, تجدد الأهرام الاحتفاء بمئوية محفوظ علي ضوء الثورة, كأحد المبشرين بها, وكونه أحد أبناء وكتاب المؤسسة, للتذكير به وبأعماله, في الجمعة الأولي من كل شهر, في ملحق الأهرام الذي نشر العديد من أعماله, استلهاما لروحه التي ما زالت تحوم في وجداننا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.