جاءني التكليف محددا: وضع برنامج لاقتصاد الحرب, وذلك من المرحوم اللواء حسن فكري الحسيني رئيس التعبئة العامة بصفتي عضوا بمكتبه الفني حتي يحمل هذه الورقة المرحوم الفريق جمال عسكر الي اجتماع مجلس الوزراء برئاسة الزعيم الخالد جمال عبدالناصر, وقتها كنت تخرجت في كلية الاقتصاد منذ سنوات قليلة وصدمتنا هزيمة يونيو1967 وكواليسها ومحاذير ومخاطر الوضع الاقتصادي, وبحثت سريعا عن اقتصاد الحرب ووجدت مذكرة كاملة كتبها استاذنا القدير الدكتور محمد محمود الامام, وذلك بمعهد التخطيط القومي. كانت الأوضاع الاقتصادية في عقب هزيمة يونيو1967 متردية وغاية في السوء وتنذر بأزمات خانقة وكتبت ورقة العمل التي كلفت بها ووجدت طريقها الي مجلس الوزراء, واستمرت إدارة الاقتصاد في ظل ظروف الحرب. مايدعوني الي تذكر تلك الوقائع والتاريخ هو مايمر به الوطن الآن من ظروف وما هو متوقع خلال الشهور بل الأسابيع القادمة, وسوف نبدأ فقط بأحد المتغيرات المهمة وهو انخفاض رصيد النقد الأجنبي من36 مليار دولار الي نحو20 مليار دولار أو أكثر قليلا, والمعني هنا أن هذا الرصيد الذي كان يغطي تسعة شهور من الواردات أصبح يغطي أقل من ستة أشهر, والمعني أيضا أن البنك المركزي والسلطة الاقتصادية قد استخدمت هذا الرصيد من أجل السيطرة علي سعر الدولار في السوق حتي لا يفلت لأن انفلاته سوف يهز الاقتصاد المصري بل سوف يقلبه رأسا علي عقب, سوف ترتفع الأسعار وتتضاءل الأجور والدخول أمامها, وسوف تلتهب الأسواق, وترتفع فاتورة الواردات ويمتنع المستثمرون ويتوقف الانتاج. الخطر كل الخطر بدأت ملامحه ليس فقط في انهيار هذا الرصيد ولكن في نقص الانتاج من بعض السلع وما تواجهه المصانع من بلطجة وسطو, ومايحدث من نهب وسرقة للمخازن وفي نفس الوقت لم تبدأ أي جهة حكومية في بحث الوضع الاقتصادي ونحن لا نعرف الآن ما هي حقيقة أوضاع المخزون الاستراتيجي في مصر؟ وهذه هي النقطة البديهية الأولي التي ينبغي دراستها والوقوف علي حقيقتها في ظل دولة ومجتمع يواجه شبح أزمة قادمة, ماهو مدي توافر السلع الاستراتيجية وهي القمح والسكر والشاي والزيت والبوتاجاز والأدوية, والي أي مدي يمكن أن تغطي احتياجات المواطنين. الخطر أيضا في ظل ظروف أزمة سياسية وغياب الأمن وغليان المجتمع الا تصدر أي قرارات اقتصادية, وأن تختفي أي رؤية اقتصادية لمواجهة الموقف واحتمالاته وهو مايطرح أسئلة حول مدي تلبية الموردين والبنوك لواردات مصر, وما إذا كانت هناك شروط جديدة أو زيادة في التأمين باعتبار أن مصر أرضا ومواني لم تعد آمنة. الخطر هو تجاهل الأوضاع الاقتصادية واحتمالاتها القريبة وهو ماشاهدناه خلال الشهور التسعة الماضية التي خلت من أي قرارات اقتصادية سواء لمواجهة الأزمة أو التعامل مع الظروف الجديدة, وعلقت الحكومة كل آمالها علي البورصة وأدائها الوهمي الذي لا يقدم أي اضافة, بينما يجترف نقدا أجنبيا ويتم تحويله الي الخارج, وهو مايمثل ضغطا هائلا علي احتياطي النقد الأجنبي. إن ثمة اجراءات عاجلة ينبغي اتخاذها علي الفور, كإسعاف سريع لاقتصاد مصر بعدها يجب دراسة الملفات كاملة ابتداء من التعليم الي الصحة والصناعة والزراعة والاستثمار وهو مهمة لحكومة مابعد الاستقرار. في مقدمة القرارات مراجعة قائمة الواردات ووقف كل الواردات غير الضرورية والكمالية كالسيارات والسلع الهندسية وعشرات السلع الأخري, وكذلك تأمين واردات مصر من السلع الاستراتيجية وضمان تدفقها. وعلي المستوي المالي فقد قامت البنوك بزيادة سعر الفائدة علي شهادات الاستثمار والادخار المختلفة الي نحو115% وهي زيادة تمت علي استحياء شديد فهي ليست بالزيادة المغرية التي تدفع الناس الي وضع مزيد من المدخرات بالبنوك, كما انها أدت الي قيام المدخرين من أصحاب الشهادات الادخارية وشهادات الاستثمار بتحويلها الي الشهادات الجديدة ذات الفائدة الأعلي وكان المفروض أن تعلن البنوك عن نوع جديد من الشهادات بأسعار فائدة مجزية ومرتفعة للغاية لا تقل عن19% حتي يجذب حجم هائل من المدخرات يساعد في مواجهة أزمة السيولة والعجز التي تواجهها الحكومة. ومادامت مصر تواجه ظروفا استثنائية ونقصا حادا في الموارد فإن عليها أن تسعي للحصول علي موارد خارجية سواء من دول عربية أو منظمات اقليمية أو دولية غير مشروطة ومنح لا ترد, وعلينا أن ندعو الي مؤتمر للدول المانحة تحت مظلة البنك الدولي نتقدم فيه اليها بقائمة احتياجاتنا العاجلة من النقد الأجنبي نظرا للضرر من توقف موارد السياحة والصادرات. إن الاضطراب الآن يقترب من دائرة الخطر في الاقتصاد حين يبدأ الدولار رحلة الصعود وكسر حاجز الستة الجنيهات وهو مايعني بداية ظاهرة الدولرة, رغم كل الفرامل التي يديرها البنك المركزي وهنا عين الخطر حيث بدأ الناس تحسبا للمستقبل شراء الدولار بهدف الاكتناز ودافع الأمان ودافع المضاربة وتوقع زيادته في المستقبل القريب, الحل هنا هو زيادة عاجلة وسريعة وعالية في سعر الفائدة وهو ماسيدفع حائزي الدولار الي التخلي عنه وبيعه وتحويله الي جنيهات مصرية وايداعها في البنوك للاستفادة من سعر الفائدة العالي. إن هناك تجاهلا كاملا للأوضاع الاقتصادية التي تنزف في الشارع الاقتصادي, بينما شدت الاهتمام والتركيز الاحتجاجات الفئوية والاضطرابات والمظاهرات والاعتصامات والقضايا السياسية والانتخابات ومن المتوقع أن يؤدي هذا التجاهل الي أن نصحو يوما ونفاجئ بأزمات اقتصادية مروعة تصيب الاقتصاد في مقتل حين ينخفض عرض السلع والمنتجات والأدوية سواء المحلية أو المستوردة, وحينما نفاجأ بتوقف انتاج الكثير من المصانع وحين نفاجأ بشروط قاسية لاقراض مصر. إننا لاتزال أقدامنا علي أبواب مرحلة الخطر وعلينا الانتباه قبل الانزلاق.