تحت عنوان " شارع المتنبي يبدأ هنا"، يقام حاليا بمكتبة الكتب النادرة بمقر الجامعة الأمريكية معرض تخليدا لذكري تعرض الشارع للدمار إثر انفجار سيارة مفخخة، تمثال جبسي بالحجم الطبيعي للمتنبي يتوسط القاعة وعلي جانبيه مجسمات لكتب معلقة في الهواء وفاترينات عرض زجاجية لأنيقة، مجسمات أخري تتخذ أشكالا مبتكرة من تصميم فنانين وأدباء ومتخصصين في كل ما يتعلق بالكتابة، كتب متفجرة تكاد تنزف دما، تأخذ أشكالا مأساوية كأنها ضحايا لمذبحة ما، عناوينها تحمل رسائل واضحة للعالم أن الكتاب ليس مجرد حبر علي ورق، بل يحمل رسالة من لحم ودم، يخيل اليك أنها تصرخ مستغيثة من تكرار مأساة مروعة تعرضت لها، وتبين للعالم بشاعة إقحام المكتبات في حروب تسبب فيها البشر، وتلفت النظر لفداحة الدمار الذي تعرض له الشارع منذ سنوات، بالتحديد في 5 مايو 2007 وأسفر عن وفاة ثلاثين شخصا وإصابة ما يقرب من مائة، بالإضافة إلي تدمير العديد من المكتبات والمباني ، وأهمها وأقدمها المكتبة العصرية التي تأسست سنة 1908، ومقهي »الشابندر« المدرج ضمن المعالم العريقة لبغداد. يهدف القائمون علي المعرض من خلال تلك الأعمال الفنية، الاحتفاء بالعلاقة الرائعة بين الكتاب والقارئ، والثقافة والكتابة والحياة والحب، وتكريما لشارع تحول إلي رمز كبير، وكاستعارة مكانية للكتاب ككل. وكما توضح ياسمين عبدالله المشرفة علي المعرض فإن هذا الحدث الفريد نظمه لأول مرة الشاعر بو بوسولي والذي يمتلك أيضا متجرا للكتب المستعملة، وهو يؤمن أن أي اعتداء علي باعة الكتب أوالأدباء في أي مكان في العالم بمثابة اعتداء عليه شخصيا، ومن هذا المنطلق بدأ مشروع للكتابة والفن يجوب أنحاء العالم، سرعان ما تبنته الجامعات الأوروبية والأمريكية وخصصت قاعاتها لعرضه في تزامن متصل مع الجامعة الأمريكية بالقاهرة تحت عنوان واحد مشترك هو"شارع المتنبي يبدأ هنا" للتضامن مع باعة الكتب العراقيين والأدباء والقراء، وابتكار أشكال من الكتب ليس فقط إحياء للذكري بل من أجل الأمل في المستقبل، طالبا من الفنانين والشعراء والأدباء التعبير عن انطباعاتهم تجاه تدمير ربع الشارع، ولم يكتف بهذا، ودعا إلي تكوين جماعة يتحدث أعضاؤها بحرية ويتنفسون الإبداع، ويحولون كل ذلك إلي مواد مطبوعة وملموسة تترك بصمة لدي القارئ وتبرهن علي قدرة الكتابة علي التجديد، وعدم الانحسار. واستلهاما من رسالة بوبو سولي أقامت مكتبة الكتب النادرة التابعة للجامعة الأمريكية بالقاهرة هذا المعرض الذي يعقد كل عام، تقدم من خلاله أربعة وخمسون كتابا فنيا، بالإضافة إلي عقد ندوات ثقافية، كما تقام معارض مماثلة في العديد من دول العالم، في أوقات مختلفة كل عام، كما انشئت مؤسسة لتنظيم هذه المعارض قامت بإهداء مجموعة من الأعمال الفنية والكتب للمكتبة الوطنية العراقية في بغداد،علاوة علي تخصيص هيئة عراقية أهلية تهتم بالشأن الثقافي، مبلغ مائة ألف دولار لإعادة بناء شارع المتنبي الذي أعيد افتتاحه سنة 2008. يقع شارع المتنبي بمنطقة"القشلة" في قلب بغداد، ويعود تاريخه إلي أواخر العصر العباسي، وكان يعرف أولا باسم"درب زخا"، ثم أطلق عليه اسم المتنبي سنة 1932 في عهد الملك فيصل، وتحول منذ أوائل التسعينيات إلي ملتقي للمثقفين كل يوم جمعة، حيث تعرض آلاف الكتب علي أرصفته، وتتناثر علي جانبيه أبنية تراثية كانت تشكل مقر الحكم العباسي، ويتصدره تمثال للمتنبي مطلا علي نهر دجلة، منتهيا بقوس نصر منقوش عليه بيت الشعر الأشهر للمتنبي: "الخيل والليل والبيداء تعرفني...والسيف والرمح والقرطاس والقلم". بالرغم من أعمال العنف التي يتعرض لها العراق حاليا إلا أن ذلك لم يضعف إقبال الزوار علي الشارع الذي تجاوز عمره تسعة قرون، فهو أشبه بمتحف يكاد يكون معزولا عن الواقع العراقي، عراق آخر.. عراق الحلم. ويكافح الشارع الظروف الاقتصادية السيئة أيضا، الغزو العراقي للكويت والعقوبات الاقتصادية التي فرضتها الأممالمتحدة علي العراق سنة 1991، كان لها أكبر الأثر علي الشارع، حيث اختفت المجلدات والمطبوعات الفاخرة، وتحول معظمه إلي سوق للكتب المستعملة، وأثناء حكم صدام كان الشارع يخضع لرقابة الأمن لضمان حظر كتب تتناول التاريخ الحديث للعراق، ومعظمها مذكرات كتبها منفيون، وبالرغم من ذلك كان يتم تهريبها عبر الأردن وسوريا وتركيا، ويتميز الشارع بتنظيم مزاد لبيع الكتب القديمة والجديدة كل أسبوع.