ماذا يحدث داخل مراكب الصيد التي تسبح في البحيرة ليلا ونهارا؟ بدأت المغامرة من غير أن يأخذ التأخير حظه، مضت نحو أربع وعشرين ساعة حتي وصلنا إلي النقطة الفاصلة بين الحدود، تسللنا إلي البلد المجاور في وقت غشاوة الليل، وغياب الأضواء الكاشفة. ما كان لي في رحلتي عبر الحدود إلا رفيق وحيد، بدأ الرحلة معي منذ كنا في النقطة الأولي، اتفقنا أن نهاجر معا، ونعمل أيضا معا. زحفنا فوق الرمال تفاديًا للافتضاح، نقطع المسافة زحفا بدلا من المشي، إذا أطلق علينا الجنود النار فسوف نموت، ويجب أن نموت في صمت، كي لا نكشف أنفسنا أثناء التسلل.. هؤلاء الذين رأيتهم يتسللون إلي خارج مضارب الجمع، انتهزوا فرصة غياب القمر وغيمة الليل، غشاوة أحاطت بحقول الذرة الصفراء؛ يستترون في الكتلة الكبيرة المزروعة، نجوا ساعتها من بطش المتربصين.. كم مرة سافرت قبل الآن؟ (سألت الرفيق) كثيرا. هل تعودت هذا الهروب؟ طبعا. متي تدفع الأجر؟ ساعة الوصول. هل خشيت الموت؟ أخشي الجوع. متي تتوقف عن مثل هذه الأفعال؟ حين تأتي الرصاصة. هل أكلت قبل الرحلة؟ نعم ماذا؟ تمرا.. أنت جائع؟ نعم. عندما نعبر هذه النقطة المحظورة سوف أعطيك طعاما شهيًا. لا.. لن أستطيع الأكل إلا وقتما أعرف لنا مصيرا واضحًا. الأمر سهل ومُجرب. في الممر الصحراوي المرسوم بدقة من خطوات الكثيرين، الذين عبروا هذه المناطق الحديدية بحثًا عن العمل والمال وحياة غير الحياة. وقفنا نستمع لنصائح الدليل، الذي يقودنا خلال المناطق الخطرة، سوف يتركنا عندما نصل سرًا إلي كافتيريا معروفة لهؤلاء المهاجرين. قال الدليل عندما تأكد من انتباه الكل: سيروا في الطريق المخطوط تحت أرجلكم، بهدوء دون ضجيج، تحلوا بالصمت، ولا تسمعوا لنداءات الآخرين فإنها غواية الشيطان. خرقتْ كلماته حجاب الرهبة بداخلي حتي قطعت مسافة كبيرة، همست لرفيقي الذي يمشي خلفي: هل قطعت هذا الممر أيضا من قبل؟ مؤكد. ما هي نداءات الآخرين؟ تسمع وحدك دون غيرك شخصًا يناديك باسمك، وهذه أوهام الصحراء الواسعة، فلا تلتفت ولا تستجيب. أوهام؟ ربما هي أوهام الصحراء.. هل سمعت عن موسيقي الرمال؟ نعم سمعت. شيء مثل هذا.. كثير من الذين مروا قبلنا حكوا لنا الحكاوي عن هذا المكان ولا نعرف كيف عرفوها. كانت لديهم من الشجاعة ما يكفي لكشف المستور. قالوا إن النداءات هي أصوات المحبوسين في قاع البحر. البحر؟ نعم هو قريب من هنا. من حبسهم؟ لا أعرف... ربما هم الغارقون الذين لم يجدوا أحدًا ينقذهم، فظلوا يستغيثون، يطلبون النجدة فماتوا، وبقي صوتهم وحيدا وحيًا يقطع الحواجز المكانية والزمنية ليصل لهؤلاء القريبين منهم. وماذا حكوا ثانية؟ حكوا أنها أصوات الشاب المحبوس في أسفل القلعة. القلعة؟ ألا تعرفها؟ لا أعرفها. خلف التلال الرملية الواقفة هناك بالقرب منا، توجد بقايا قلعة قديمة، كان يحكمها ملك ظالم، ولكنه رُزِقَ بشاب مسكين لا يحب الجور، ظل يعارض أباه حتي خاف الملك منه؛ فحبسه في سجن أسفل القلعة، لا يعرفه أحد. مات الملك، وبقي الشاب محبوسًا كل هذه السنين ولم يعثر عليه أحد. هل بحثوا عنه؟ لا أعرف.. ربما سكان المنطقة بحثوا. وصلت المجموعة بسلام، تجدد الأمل، فكروا فيما سيفعلونه ساعة النهاية، اجتازت عقولهم واقعية ما بقي من طريق الرحلة. أكل الأفراد الطعام، طلبوا الشاي والقهوة، حاسبنا الصبي بعملتنا المحلية، همس صاحبي في أذني قائلا: إن فرصة الراحة التي نأخذها هنا وسط الطريق لا تعوض، علينا أن نُخرج البطة المشوية التي أعدتها لنا أمي نلتهمها. ساعتها رفضتُ الأكل، طلبت منه أن يأكل ولا ينتظرني: يجب أن تتركني إلي حالاتي المزاجية المتبدلة، سوف أشرب الشاي ووقتها أشعر بالراحة والشبع، يحلو لي أن أتذوق طعم الشواء برفقتك وقت الطمأنينة. امتنع الرجل عن الطعام، أصر ألا يبدأ الأكل إلا معي. كدسنا السائق في صندوق سيارته، ولم يتأخر، انطلقت السيارة تطوي المسافات تحت الكشافات، سيارات سريعة. توقف فجأة في الطريق، طلب منا بلهجته المستغلقة، أن نتخفف من حقائبنا كي لا نكون مكشوفين في الصندوق، يقل حجمنا. الزملاء مثل ممثلين يؤدون أدوارا، ألقوا حقائبهم بتلقائية وسلامة صدر، تخففوا من الحمولة الزائدة لعل سفينة يونس تنجو من العواصف المتكررة، احتفظ صاحبي بحقيبة الطعام وتخلص من الأخري، تمسكتُ بحاجاتي ورفضت التسليم، اقترب مني السائق في هدوء شديد، نزع الحقيبة بعد مقاومة مني، ألقاها وسط الرمال، توجه ناحيتي، بصق علي وجهي، تحركتُ في عنفوان لأسدد لكمة قوية إلي وجهه ويكون ما يكون، ثم استسلمت ليد صاحبي التي جذبتني. ماذا كنت سأفعل في الحقيقة لو لم يوقفني؟ لا أعرف.. ربما كانت ثورة لحفظ ماء الوجه بين الأصحاب. تابع السير، انكمشنا داخل صندوق السيارة المكشوف الذي سمح لتيارات الهواء الليلية أن تغرقنا في الصمت والانتظار. أثناء السير حادت عن الطريق مقتربة من بيت صغير أحجاره عارية، اندفعت نعجة صغيرة تجري ناحية السيارة، صحراء مقلقة قطعنا فيها المسافات هربًا، كان الصباح قد بدأ في البزوغ، ونسمة هواء لطيفة تسري، وقف رجل كبير بيننا، ثم قفز إلي الأرض متسائلا: لماذا توقفت هنا؟ لم آخذ حقي كاملا حتي الآن. (أجاب السائق) ليس لنا ذنب.. نحن نسافر باتفاق وأموالنا دفعناها لكم. شعر الجميع أنها حيلة من السائق ليأخذ منا المزيد، سلمنا، عرضنا عليه الدفع، عاد ورفض، ثم أدار سيارته ورحل. نزلنا جميعا، دخلنا البيت، وجدنا آخرين غرباء ينامون بالداخل، استيقظوا عندما أحسوا وجودنا، كانوا مهاجرين قطعوا عفارة الصحراء حتي وصلوا إلي نفس المكان قبلنا، الكثيرون منهم رفعوا رؤوسهم؛ ليستكشفوا الأحوال ثم غفوا مسرعين، وآخرين استندوا إلي الجدار وأشعلوا سجائرهم مرحبين بنا. غضبتُ، غادرت، توسدت ذراعي ونمت بجوار الجدار من الخارج لوقت الضحي، تبدو الأمور سهلة لدرجة مرضية، ولست في حاجة لمراجعة القديم، حينما تطفو الأسئلة؛ أغيب في دوامة عريضة تبتلع ذاتي، البحث فيها عن إجابات يثير بداخلنا كل السؤالات التي خبت في أوقات سابقة. الانتظار حقا قاتل، قضي علي المثيرات في أوج حاجتي إليها، الصحراء واسعة، الوقت فضفاض، الضجر فارس فتاك يصطاد فريسته بسهولة. وقتما جئت الصحراء اعتقدت أنني سأعبرها مثل الدراويش الطوافة الذين ينسجون عالما غريبا يلهيهم عن تلك الأمراض التي تغتال المسافرين، ماذا أفعل وقد شعرت بالفراغ؟! يجدر بي أن أنتظر وأتأمل الانتظار حتي يمر كغيره من الأشياء المؤسفة.. كانت نعجة صغيرة تتقدم ناحية الباب.. أحتمي في ظل الجدار من الخارج.. تُلقي النعجة نظرة خاطفة من فتحة الباب.. يلفح وجهي هواء ساخن قطع وسعاية الصحراء ليهاجم بلفحة حارقة.. عندما لمحتِ المهاجرين يملأون الداخل فرَّتْ مسرعة إلي بقية القطيع.. تنبأتُ بصورة مبكرة لضربة يسددها ثقل الرحلة، استجبت مسرعا لدعاء الأرض، فرشت جسدي عليها متوسدا ذراعي.. أسمع رغاء النعجة يشير إلي سيارات متخفية بسواد الليل، تتقدم ناحيتنا، تنقلنا إلي المدن التي جئناها، أفتح عيني فأجد الوقت لم يمر، أنام مرة أخري، هل نمت الكفاية؟ لم أنم الكفاية، قمت عندما سمعت أحدهم يصرخ، فهمت أنه مر بمثل هذه التجربة من قبل، المسكين جاء إلي هنا أيضا، في مرَّاته السابقة التي هاجر فيها،هم أحاطوا البيت ليلا، طلبوا من المسافرين أن يخلعوا ملابسهم سخرية، دام العمل حتي شبعوا، أخذوا الأموال وتركوهم عرايا، وفي اليوم الجديد جاء السائق لهم ببعض الملابس، ونقلهم إلي داخل البلد حتي المدن التي يرحلون إليها. لو اعترض أحدهم أمام السائق لنال بصاقا شديدا يغرق وجهه. خالطتُ المهاجرين، سمعت قصصهم عن هذا المكان، عرفت أن السائق ربما يتركنا هنا مدة أسبوع كامل؛ يجمع الكثير من أمثالنا في نفس البيت. كانت هذه المحطة الأخيرة التي ننتقل منها إلي الأماكن التي سوف نعمل بها داخل البلد. لا أعرف أحدا فيهم، تبادلنا النكات والكلام الطيب، الأمنيات، الأحلام، لكننا سوف ننسي مثل هذه الأشياء بمجرد الوصول إلي مكان العمل الجديد. تتقدم الشمس ببطء، جلست أستريح أمام البيت، تجمعت بداخلي أفكار كثيرة حول الذين فتنوا بالصحراء، كانت مصدر إلهام لكثيرين، الشاعر العربي القديم الذي قال المعلقات، ناصر الخمير المخرج التونسي الذي صنع ثلاثية الصحراء السينمائية، قدمها كأنها لوحة مليئة بالأسرار. تأملوا يا رفاق هذه الصحراء الواسعة، كم طريقٍ يسلكه الإنسان فيها! الثلاثية الغريبة التي اعتبرت البيداء مصدرا لإدهاش المتفرج، صدَّرتْ عرضها الثالث بمقولة كبيرة بحجم المآسي التي تحدق بنا، تري ماذا كتب تصديرا؟ »الطرق إلي الله بعدد نفوس الخلائق» يا لها من كلمة! من الإنسان الذي صاغها كي تخرج بمثل هذا البريق؟ خايلني، تجربة صوفية لا شك. كيف شقَّتْ طريقها بين الأمواج الهادرة متخطية العراقيل لتثبت لنفسها الوصول؟ الصحراء مساحة قابلة لتعدد الطرق، واختلاف المسالك، المراحيض التي نحشر نفوسنا داخلها ضيقة بحجم المؤخرة، المقعد لا يحتمل إلا جالسا وحيدا. المرآة التي تحطمت في الجزء الأول وحاول الطفل الرامح كالخيل الأصيل أن يسرقها مع بقية الزملاء؛ ليجمعها هناك فوق الرمال الذهبية، داخل صورة الفيلم، تخبرك بالضعف وقلة الحيلة. الرومي المتصوف القديم قال: »كانت الحقيقة مرآة بيد الله، سقطت فتحطمت، كل شخص أخذ قطعه ونظر إليها فظن أنها الحقيقة كاملة». المرآة في البداية - التي نرتد لها دوما كلما حاولنا فهم الظواهر من حولنا - كانت واحدة، حطمها أحد الأشرار، حاول طوال الوقت الدوران حولها والمشي أمامها أن يفهم لغزها، ماهية الأشياء فضول يطارد بني الإنسان. قذف المرآة بحجر فتساقطت قطعا، هبَّ الباقون يأخذون الأجزاء المتناثرة، وحاول الطفل المسكين أن يجمع ذلك الحطام القديم. يرقد خلف البيت قطيع من الخراف، لم ألمح نباتًا لهم بالقرب، لازال التفاؤل معقودا بداخلي. العمل والمال يغيران الحياة بالكامل، ويغيران الإنسان أيضا. أرصد حركة الكلاب دوما تعرف مدي الضرر الذي أصاب الإنسان من وراء اللهاث خلف المال، الكلاب هائمة طوال الليل، بيضاء وسوداء، يمشون في القري من أمام البيوت الموصدة متجهين ناحية العتمة، كلب يتمطي وآخر رابض بالقرب، ينتقلون من جذع نخلة إلي أسفل جدار ثم إلي كومة تراب، في ليال يتيمة تعوي الكلاب طوال الليل. يقولون: إن أشباحا تتراءي لها في الظلمة. عواء حزين ومتقطع وبحسب صاحب النشوء والارتقاء فإن الكلاب لديها قدرة مثل الإنسان علي التخيل وتذكر الأحداث القديمة المؤلمة. هل صوَّرَ لهم القمر في بعض ليالي اكتماله رؤي وخيالات باعثة علي العواء؟ الضياع والفقدان يجعلان الكائن الذي يمتلك الإحساس يخور طوال الأوقات التي يقضيها بمفرده.. تدور.. تتنقل.. تفرد أعضاءها، يبتعد كلب منقوط ببقع بيضاء، نبش بخفة في بعض الأكياس المتجمعة، رفع ساقه وبال عليها، هل هو جائع؟ في القديم وأثناء كمال النشأة لباقي المخلوقات قيل للكلب: هاه ما رأيك أن تزرع وتأكل من حصادك وعمل يدك؟ فأجاب ساخرا من سؤال الأسطورة: ما أحلي الجوع مع راحة البال!. قالوا: لقد كان الكلب الأكبر ماكرا وذكيًا في آن، لو أنه اختار الزرع والحصاد لسجل أحفاده في قائمة الشقاء الأبدي، وقتها ربما يستطيب الإنسان لحمه فيذبحه، جدهم اختار الجوع، وأن يكون طريدا في العراء. هل اختار الحرية؟ ولكن هل أسافر بحثا عن المال أم بحثا عن النجاة من السجون؟ كثرت حكاوي الذين مروا بهذا البيت، بيت وحيد في الصحراء، يجب أن أجاهد طويلا حتي لا أعود لنقطة البداية، يجدر بمحاولتي أن تتسم هذه المرة بالنجاح والمغامرة، ليست لدي رغبة في العودة إلي بلدي، هل تذكر حكاية الفأر الذي لقي مصرعه عقب تصويب دفقات قوية وقاتلة من أحجار الصبية. إنهم يوجهون ناحيتك التصويبات الموفقة لتتحطم رأسك ويندفع جسدك باتجاه الجدران ليصطدم بها ثم يهبط إلي الأماكن السفلي. عندما تسحبه تيارات الماء المسددة نحوه يحلو لهم جميعا أن يشاهدوا جسمك العاري، يرسمون عليه صحراء طويلة، آبار جافة، أشجار ذابلة، متي أتوقف عن قطع الأنفاس وراء كل هذه الأشياء؟ الناس محاطة بمزيد من القيود نحو جمع المال، بناء البيت، شراء الطعام، إنجاب الأطفال. متي أجلس وحيدا في شرفتي المعتمة أتأمل هذا الكون؟ أحسب الأيام الباقية في ذلك الزمن اللعين. العرافة التي قابلتها في حياتي قالت إنني سوف أعيش عمرا فوق الستين، قالت ستقضي أيامك بعد كل هذا العمر في بكاء وحزن. أنا حزين من وقتي هذا. سوف تفتقد الجميع، كل الأشياء البسيطة التي اختفت تدريجيا بفعل الزمن، ستعود إليها بذاكرتك، تفتقد وجودها، وتبكي بعض الأيام التي قضيتها في غفوة الزمن، وتبكي هؤلاء الذين قابلت وجوههم لمرة واحدة في طريق الحياة، واستأنست وجودهم. هل أنشغل بالحياة؟ هل أنشغل بالحزن؟ بماذا أنشغل؟ هذه تجربة لابد تصل للتمام علي أية حال.