سأرقد في كل شبر من الأرض أرقد كالماء في جسد النيل أرقد كالشمس فوق حقول بلادي مثلي أنا ليس يسكن قبراً تدهورت صحة الشاعر الكبير محمد الفيتوري، أصيب بجلطة مخية، توقفت يده اليُمني عن الحركة منذ سنوات ، ودخل أكثر من مرة في غيبوبة متقطعة، وتناقلت المواقع الإلكترونية الخبر مرات عديدة ، في الأسبوع الماضي كتب الشاعر الكبير فاروق شوشة منزعجاً، ينعي موت صديقه، وبؤس الحياة التي يموت فيها شاعر بحجم الفيتوري سراً.. ولأن الفيتوري ليس الشاعر الذي يموت سراً، ولأن مثله لا يسكن قبراً، ولأن ما يتبقي منه أكثر كثيراً من بضعة إشاعات تتناقل موته عبر المواقع الإلكترونية.. يتبقي الشعر نفسه.كان لابد أن يحيا ،وتتناقل المواقع أخبار حياته وشعره. ما زلت أذكر يوم ألقيتُ قصيدته (القادم عند الفجر) في الإذاعة المدرسية في الصف الثانوي، كانت الطالبات تصفقن في حماس، وكان البعض منهن يبكين.. لكأنك ملفوف بوشاح بلادك آت توّاً من حطين وكأنك قد أُرهقت فنمت لتصحو بعد سنين ما زلت أذكر القصيدة علي صفحات جريدة الأهرام بالبنط الكبير، قصصتها، وحفظت أبياتها عن ظهر قلب، لم تكن فقط مرثية عبد الناصر هي ما لفت انتباهي إلي القصيدة، ثمة قصائد أخري، وشعراء عديدون، لكن لقصيدة الفيتوري خصوصية موسيقية مميزة ، هي المره الأولي ربما التي ألتفتُ فيها إلي ذلك الحضور المبهر للموسيقي داخل القصيدة. ولد الفيتوري في (الجنينة) عاصمة دار مساليت علي الحدود الغربية السودانية 1936لأم سودانية، وأب من أصول ليبية، أحد خلفاء الطريقة العروسية الشاذلية الصوفية.. درس الفيتوري في المعهد الديني بالإسكندرية، وفي القاهرة تعلم في الأزهر.. المعلومات تكفي للإشارة إلي مكونات أساسية في شعره وتجربته.. (أفريقيا، العروبة، الصوفية) ولم يكن غريباً أن يرتبط بالجنسيات الثلاث (السودانية، الليبية، والمصرية) النميري سحب عنه الجنسية السودانية، فمنحه القذافي الجنسية الليبية، وعمل دبلوماسياً في سفاراتها في إيطاليا، وبيروت، والمغرب حيث يقيم حالياً. الحكم الانتقالي الليبي، سحب منه الجنسية الليبية، وسحب جواز سفره الدبلوماسي، ولم يمنحه جوازاً آخر، ثم قطع راتبه والمساعدات التي كان يتلقاها.. هل يمكن الحديث عن الفيتوري كشاعر نظام؟ ربما، هو في ذلك سليل تراث شعري وتراث ثقافي في العلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة، لكنه في كل الأحوال كان يمتلك شاعريته الكبيرة، وقضيته الأكبر من تأمين المعيشة، أفريقيا، والخوف من العبودية والقهر، ذلك الشعور العميق الذي انتقل إليه من جدته الجارية السمراء، التي تزوجها جده الشريف، فلم تنس يوماً، ولم ينس الفيتوري معها.. أفريقيا مشهد أساسي في نصه، هو أول شاعر غني بالعربية لأفريقيا.. أنا زنجي، وأبي زنجي الجد وأمي زنجية أنا أسود أسود، لكني حر أمتلك الحرية أرضي أفريقية ديوانه الأول الذي أصدره وهو لا يزال طالباً (أغاني أفريقيا) 1955 ثم تلاه بديوان (عاشق من أفريقيا)1964، ثم (اذكريني يا أفريقيا )1965 ثم (أحزان أفريقيا)1966 ثلاثة عشر ديوانا أو أكثر للفيتوري، ربما أجملها (معزوفة درويش متجول) 1971 و (ابتسمي حتي تمر الخيل) 1975 و(يأتي العشاق إليك) 1989 و(عريان يرقص في الشمس) 2005 .