نشرت صحيفة الإندبندنت البريطانية أمس، الاثنين، مقالاً تحليلياً عن عملية السلام فى الشرق الأوسط بعد الانتخابات الإسرائيلية، التى شهدت تقدماً كبيراً للأحزاب اليمينية والدينية المتطرفة. ويقول كاتب التحليل بروس اندرسون إن الأوضاع التى آلت إليها إسرائيل تنبئ بوقوع مأساة تنتهى بنهاية الدولة العبرية. ويتحدث الكاتب عن الخيارات المطروحة أمام إسرائيل إذا أرادت أن تنعم بالأمن. وفيما يلى نص المقال.. شغلت تداعيات الأزمة المالية العالمية العالم الغربى، فى الوقت الذى بدأت فيه ملامح وقوع مأساة فى مكان آخر من العالم تنكشف. وعلى الرغم من ذلك، سينتعش النظام المالى العالمى، أما فيما يخص عملية السلام بين إسرائيل وفلسطين، فلا يمكن النظر لها بمثل هذا القدر من التفاؤل، فليس واضحاً إذا كانت هذه العملية المحتضرة مازالت قائمة. وبلا عملية، لا يكمن التوصل إلى إحلال السلام، والوصول إلى تسوية فى وقتنا الراهن يبدو أصعب من أى وقت مضى منذ عام 1967. وعلى ما يبدو اختارت إسرائيل مضماراً تسير عليه لن يقودها إلا إلى تدمير ذاتها فى نهاية المطاف. فمن ناحية، يسهل فهم رد فعل الإسرائيليين إزاء المشاكل التى تهدد بلادهم، فهم كانوا ضحايا المحرقة أو "الهولوكوست"، التى ارتكبها نفس الجنس الذى شهد مولد بيتهوفن وجوته وموتسارت. ومن الطبيعى أن يفقد الإسرائيليون الثقة فى أن يتحلى بنى البشر بالخير، وأن يفقدوا الإيمان بأى شىء ماعدا لغة القوة المتمثلة فى جنودهم وأسلحتهم المتقدمة. ولكن من ناحية أخرى، يسهل كذلك فهم رد فعل الفلسطينيين إزاء إسرائيل، فهؤلاء الذين يساقون إلى المنفى ويجبرون على العيش فى المخيمات والملاجئ لا يبدون حسن النية تجاه مضطهديهم. لم يشعر الفلسطينيون بأية موانع ، ولماذا يشعرون بها؟ فهم لم يرتكبوا ذنب إحراق اليهود والهولوكوست. ولكن فى فورة غضب الفلسطينيين العارمة، و"المفهومة"، تطور الخطاب الفلسطينى وحمل بين طياته لهجة نازية. وهنا وقع الخطأ. فقد أثارت هذه اللهجة نوعاً من الصدمة لدى الإسرائيليين، وشعروا بأنهم فى نفس الموقف للمرة الثانية، فقرروا ألا يساقون هذه المرة مثل القطيع إلى الموت، وأخذوا بثأرهم مقدماً. يعتقد معظم الإسرائيليين، بسبب الظروف التى عانت منها الدولة اليهودية عند نشأتها، أنهم يملكون ضروريتين وجوديتين وصلاحيات. فهم يريدون أن ينعموا بالأمن وفى نفس الوقت يصممون على ضرورة اعتراف جيرانهم بحقوقهم فى ذلك. هذا لا يبدو أمراً غير عقلانى، ولكنه كذلك. بل ويعد فشلاً فى أقوى اختبارات العقلانية السياسية، حيث إنه ليس واقعياً. هذا لا يعنى بالضرورة أن الإسرائيليين يجب أن يعيشوا فى مخابئ بعيداً عن القنابل والصواريخ، خوفاً من التعرض إلى هجمات متكررة. ولكن يجب عليهم ألا ينسوا أنهم اختاروا العيش فى حى يسكن الخطر جوانبه، لذا يجب الإذعان إلى حلول وسط بين الطرفين. فبدلا من إيهام الذات أن إحلال الأمن المطلق يمكن تحقيقه عن طريق فرض "سلام مذل" على المعارضين المسحوقين، يجب أن تفهم إسرائيل ضرورة التوصل إلى تسوية مؤقتة. الإسرائيليون فخورون بإنجازاتهم التى حققوها خلال ال60 عاما الماضية، ولهم الحق فى ذلك. ولكن معظمهم يشعر بالذنب نتيجة الإخفاق على الصعيد الأخلاقى الأمر الذى أدى بدوره إلى سوء تقدير استراتيجى فاشل بالمطلق. الإسرائيليون فشلوا فى إدراك أن أمنهم سيكون دائما عرضة للتهديد الذى تفرضه عليهم تعاسة وحزن جيرانهم. وفوق كل هذا، يفتقر قادتهم إلى الحكمة السياسية والجرأة الأخلاقية لكى يخبروا الإسرائيليين الحقيقة الذى يعرفها معظمهم ولكنهم يحتفظون بها سراً فى قلوبهم، وهى: حتى يصنع السلام، يجب أن تكون هناك مخاطر فى المقابل. ومن جهة أخرى، بدأ أول فصول المأساة الحالية عام 1967، بعد حرب يونيو. حينها سادت إسرائيل المقدامة ساحة المعركة واجتاحت مساحات واسعة من الأراضى العربية. وعلى الفور، ظهرت الفروق بين حدود ما قبل 67 وانتصارات 1967، حتى بين صفوف أقل المتحمسين إلى إقامة دولة إسرائيل. وحينها كانت لإسرائيل اليد العليا على جميع الأصعدة الاستراتيجية والأخلاقية، واستمتعت بلحظة غالية شعرت فيها "بالنصر والشهامة". كان يجب على إسرائيل آنذاك أن تعلن أنها، على عكس معظم الانتصارات العسكرية السابقة، لم تسعَ إلى تحقيق مكاسب إقليمية، بل كان هدفها الوحيد هو من الحرب هو إحلال العدل والسلام. ولتأمينهما، كانت إسرائيل على استعداد لأن تتنازل على مغانمها، فيما عدا بالطبع الأماكن المقدسة فى القدس القديمة. وعلى هذا الصعيد، ومع الدعم الدولى الضخم، كان التوصل إلى اتفاقية وارداً، ولكن نشبت العديد من المشكلات. ومنها أن مساحة حدود ما قبل 67، لا تتعدى ال12 ميلا، بحيث إن قامت دبابة من الضفة الغربية بضربها، تدمر البلد إلى نصفين. وعلى الرغم من أنه لا يمكن إلقاء اللوم على القادة لفشلهم فى التنبؤ بقدوم عهد يشهد فيه العالم حروبا غير متكافئة، تطلق خلالها الدبابات نيرانها بصورة مماثلة لأفلام الحروب السينمائية، إلا أن تصميمهم على أن تكون الضفة الغربية منزوعة السلاح، زاد من تعقيد الأمور. ثم برز إغواء جديد، مثلما برزت الأفعى فى جنة عدن. إسرائيل كانت تفتقر إلى الأراضى. وسكن الضفة الغربية مجموعة فقيرة من رعاة الغنم، على أراضى ذات طبيعة خلابة. بعد ذلك بقليل، سيطرت الزراعة الإسرائيلية على المكان، بينما قام المهندسون المعماريون ببناء المنازل الجديدة للكتلة السكنية التى زاد تعدادها بمرور الوقت. وهنا بدأت المستوطنات. ولم تستطيع إسرائيل مقاومة إغراء الأراضى المحتلة التى "حرضت التوراة على استعمارها". فوفقا لإعلان يهوه، فإن إسرائيل التاريخية ستضم الضفة الغربية. وأكلت إسرائيل تفاحة عدن. وجاءت انتخابات الأسبوع الماضى لتثبت أن الحكومة الإسرائيلية المقبلة لن تحقق أى تقدم بشأن قيام دولة فلسطينية. وبسبب نظام الانتخابات الإسرائيلية المتشدد، سيتم ابتزاز الحكومات الإسرائيلية وإضعافها من قبل الأحزاب المتطرفة. وقيام دولة فلسطينية مزدهرة لن يضمن إحلال الأمن فى إسرائيل. فبعض الشباب سيتملكه التعصب، وسيتسبب فى وقوع موجات عنف. ولكنها مشكلة يمكن حلها. وإذا استطاع الفلسطينيون أن يحلموا بمستقبل كريم، فستقل بلا شك الهجمات الإرهابية. على مر السنوات، أثبتت إسرائيل أنها تستطيع التعامل مع التهديدات التقليدية، وتكيفت مع الإرهاب والحروب غير المتكافئة. ومن المحتمل أن ترفض إسرائيل بغضب حلول التوصل إلى تهدئة. ولكن الدولة الفلسطينية عدل، وليس تهدئة. وهناك بدائل أخرى. إسرائيل تستطيع التخلى عن "التظاهر" بدعمها لحل الدولتين، وأن تمنح الفلسطينيين الجنسية الإسرائيلية: أى نهاية الدولة اليهودية. أو أن تحاول التطهير العرقى: أى طرد الفلسطينيين إلى الأردن. وهذا سيضع نهاية للدولة اليهودية باعتبارها "كيانا أخلاقيا". إسرائيل دولة نشأت نتيجة مأساة، وكم سيكون سيئا لو لاقت نهايتها مصير بدايتها، أى تنتهى رحلتها البطولية بمأساة. ومع ذلك، هذه هى النتيجة المتوقعة، وحينها سيكون الخطأ "خطأ إسرائيل".