رئيس مدينة مرسى مطروح: تعامل فوري مع التعديات والبناء العشوائي بدون تراخيص    عضو اقتصادية الشيوخ: الإنتاج والصناعة الحل السحري للاقتصاد المصري    سوريا تعلن توقيف متزعم خلية داعش الإرهابي في ريف دمشق    كولر يجيب.. هل يتولى تدريب منتخب مصر في كأس العالم 2026؟    خديعة الصداع المزمن.. أخصائي يكشف الحل    وزير المالية: إجراءات استثنائية لخفض الدين مع الحفاظ على الانضباط المالي    العائلة المصرية في برلين: مشاركة إيجابية للجالية المصرية في انتخابات «النواب»    إسرائيل تتحدى العالم: لن ننسحب أبدًا وسنحمى مستوطناتنا    باجو المدير الفني لمنتخب الكاميرون : لن أحفز اللاعبين قبل مواجهة كوت ديفوار    الكرملين: موسكو قدمت عرضا لفرنسا بخصوص مواطن فرنسي مسجون في روسيا    "إسماعيل" يستقبل فريق الدعم الفني لمشروع تطوير نظم الاختبارات العملية والشفهية بالجامعة    تأييد حبس عبد الخالق فاروق 5 سنوات بتهمة نشر أخبار كاذبة    إصابة 6 أشخاص إثر مشاجرة بالشوم والعصي بقنا    جمارك السلوم تحبط محاولة لتهريب كمية من البذور الزراعية الموقوف تصديرها    مصطفى شوقي يطرح «اللي ما يتسمّوا» من كلماته وألحانه | فيديو    ختام مبهج ل «الأقصر للتحطيب»    خبير تشريعات: جولة الإعادة أكدت صعود المستقلين وبروز ملامح البرلمان الجديد    قائمة الإعفاءات الجديدة لدخول قاعات المتحف المصري الكبير    بعد عام من الانفصال.. طلاق شريف سلامة وداليا مصطفى    خبير: صناعة التعهيد خلقت فرص عمل كبيرة للشباب وجذبت استثمارات أجنبية لمصر    برلمانية: الاستحقاق البرلماني الأخير يعكس تطورًا في إدارة العملية الانتخابية    فيديو B-2 وتداعياته على التحرك الإسرائيلي المحتمل ضد إيران ( تحليل )    محافظ الدقهلية يتفقد سوق الخواجات في المنصورة ويقرر غلق جميع المحال المخالفة لاشتراطات السلامة المهنية    تراجع معظم أسواق الخليج وسط ‍تداولات محدودة بسبب العُطلات    نائب محافظ الجيزة يتفقد المراحل النهائية لتشغيل محطة رفع الصرف الصحى بدهشور    الجزائرى محمد بن خماسة آخر عقبات الإسماعيلى لفتح القيد في يناير    اتحاد الكرة يحذر من انتهاك حقوقه التجارية ويهدد باتخاذ إجراءات قانونية    وزير الخارجية: التزام مصر الراسخ بحماية حقوقها والحفاظ على استقرار الدول المجاورة    محافظة قنا تواصل تطوير طريق قنا–الأقصر الزراعي بإنارة حديثة وتهذيب الأشجار    الجيش السوداني يصدّ محاولة اختراق للدعم السريع قرب الحدود مع مصر وقصف جوي يحسم المعركة    كوروكوتشو: مصر واليابان تبنيان جسرًا علميًا لإحياء مركب خوفو| حوار    صندوق التنمية الحضرية يعد قائمة ب 170 فرصة استثمارية في المحافظات    إزالة مقبرة أحمد شوقي.. ماذا كُتب على شاهد قبر أمير الشعراء؟    هل للصيام في رجب فضل عن غيره؟.. الأزهر يُجيب    عاجل- المركز الإعلامي لمجلس الوزراء ينفي بيع مصانع الغزل والنسيج ويؤكد استمرار المشروع القومي للتطوير دون المساس بالملكية    محافظ الدقهلية: تقديم أكثر من 13 مليون خدمة صحية خلال 4 أشهر    بشير التابعي يشيد بدور إمام عاشور: عنصر حاسم في تشكيلة المنتخب    البابا تواضروس يهنئ بطريرك الكاثوليك بمناسبة عيد الميلاد    ادِّعاء خصومات وهمية على السلع بغرض سرعة بيعها.. الأزهر للفتوي يوضح    الوطنية للانتخابات: إبطال اللجنة 71 في بلبيس و26 و36 بالمنصورة و68 بميت غمر    جامعة بدر تستضيف النسخة 52 من المؤتمر الدولي لرابطة العلماء المصريين بأمريكا وكندا    محافظ الجيزة يفتتح قسم رعاية المخ والأعصاب بمستشفى الوراق المركزي    كرة طائرة - بمشاركة 4 فرق.. الكشف عن جدول نهائي دوري المرتبط للسيدات    مصادرة 1000 لتر سولار مجهول المصدر و18 محضرا بحملة تموينية بالشرقية    سيول وثلوج بدءاً من الغد.. منخفض جوى فى طريقه إلى لبنان    شوبير يكشف موقف "الشحات وعبد القادر" من التجديد مع الأهلي    الصحة تعلن اختتام البرنامج التدريبي لترصد العدوى المكتسبة    من هو الفلسطيني الذي تولي رئاسة هندوراس؟    فحص نحو مليون من ملفات جيفرى إبستين يثير أزمة بالعدل الأمريكية.. تفاصيل    عبد الحميد معالي ينضم لاتحاد طنجة بعد الرحيل عن الزمالك    نائب وزير الصحة تتفقد منشآت صحية بمحافظة الدقهلية    لليوم الثاني.. سفارة مصر بإيران تواصل فتح لجان التصويت بجولة الإعادة للدوائر ال19 الملغاة    أمن القليوبية يكشف تفاصيل تداول فيديو لسيدة باعتداء 3 شباب على نجلها ببنها    وزيرا «التضامن» و«العمل» يقرران مضاعفة المساعدات لأسر حادثتي الفيوم ووادي النطرون    حكم تعويض مريض بعد خطأ طبيب الأسنان في خلع ضرسين.. أمين الفتوى يجيب    هل يجب الاستنجاء قبل كل وضوء؟.. أمين الفتوى يجيب    أحمد سامي يقترب من قيادة «مودرن سبورت» خلفًا لمجدي عبد العاطي    ما حكم حشو الأسنان بالذهب؟.. الإفتاء توضح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوراق لمحمود درويش لم تنشر
قال إن كفافيس قضى على الأقل على ثلاثين شاعراً عربياً
نشر في اليوم السابع يوم 21 - 09 - 2008

رغم ما بيننا من محبَّةٍ لم أُجْرِ حوارًا واحدًا مع محمود درويش، لكنَّنى سألتُهُ مئاتِ الأسئلةِ، وتحدثنا فى موضوعاتٍ شتَّى، وليس لدى سببٌ لأذكَرَهُ عن لماذا لم أحاوره، رغم أنَّنى حاورتُ أحمد عبد المعطى حجازى، ومحمد الماغوط، وأدونيس، ونزار قبانى وغيرهم طبعًا.
هل لأنَّه الأقربُ لى شعريًّا، ربَّما، هل لأُحافظَ عَلَى المسافةِ بين حَرْفٍ وآخر ربَّما.
فَتَحتُ صفحات مجلة 'نصف الدنيا' – التى يصدرها الأهرام أسبوعيًّا - حيث أعملُ نائباً لرئيس التحرير، لنشر سلسلةٍ من الحواراتِ معه أَتَتْ من دولٍ عربيةٍ شَتَّى، كما كان أحد الكبار فى برنامجٍ تليفزيونى شاركتُ فيه، أنتجتْهُ قناةُ النِّيل الثقافية، وقد تحدَّثَ فيه درويش عن أشياء جديدةٍ ومختلفةٍ وزوايا مغايرةٍ لا يعرفُها عنه جمهورُهُ
أصدقاؤنا المشتركون حاوروه، ربَّما أكثر من مرَّةٍ، وجاءت حواراتهم وثائقَ مهمةً ستبقى طويلاً، ومن هذه الحوارات ما نُشِرَ فى كُتبٍ. لكنَّنى كُنْتُ أفعلُ أشياءً أُخْرى لمن أُحبُّ، ومحمود فى مقدمةِ هؤلاء من الشُّعراء، مِنْهَا دعوتى إياه إلى مكتبةِ الإسكندريةِ، إذْ أمضينا أَيّامًا مُهمةً: محمود وصبحى حديدى وأنا، كُنَّا فى ضيافةِ الإسكندريةِ برعايةِ وحبِّ صديقى د.يوسف زيدان مدير مركز المخطوطات بمكتبةِ الإسكندرية، وَدَعَوْنَا على الحجَّار ليغنِّى من شِعْرِ محمود، وجاء أصدقاؤنا الشُّعراء والصحفيون والنقَّاد والكتَّاب من القاهرةِ.
وكانت أيام محمود فى الإسكندرية فى مايو 2003 ثريةً وخاصَّةً ومحتشدةً بالذكرياتِ والشِّعرِ والفَيْضِ والتذكُّرِ والحنينِ إلى مصر، والسبعينيات من القرن الماضي، حيث عاش محمود فى القاهرةِ، التى كانت أوَّلَ مدينةٍ عربيةٍ يراها بعد خروجِهِ التاريخى من فلسطين.
قررتُ وكان معى المصوِّر الصَّحفى محمد حجازى، أن أُسَجِّلَ هذه الأيامَ بالقلمِ والكاميرا. وأعلمتُ محمود أنَّنى سأدوِّن كُلَّ ما يذكرُهُ، وأخرجتُ من جيبى قلمى الأَسْوَدَ، ومفكَرةً صغيرةً قرمزيةَ الَّلونِ، عثرتُ عليها بسهولةٍ يوم السبت التاسع من أغسطس 2008 (تاريخ رحيل محمود فى مدينة هيوستن الأمريكية).
ويوم السَّبت هذا حدَّده محمود من قبل فى كتابِهِ الأخيرِ 'أثر الفراشة' موعدًا لموتِهِ، إنه استشرافٌ مثيرٌ وشفيفٌ فى آنٍ:
'صدَّقتُ أنِّى مِتُّ يوم السَّبتِ،
قَلْتُ: على أن أُوصِى بشىء ما
فلم أَعْثُرْ على شىء
وقلتُ: على أن أدعو صديقًا ما
لأخبَرهُ بأنِّى مِتُّ
لكنْ لم أجدْ أحدًا.
وقلتُ: على أَنْ أمضى إلى قبرى
لأملأَهُ، فلم أجد الطَّريقَ
وظلَّ قبرى خاليًا منِّى
....'
إلى نهايةِ القصيدةِ التى عنوانها 'إجازةٌ قصيرةٌ' كأنَّ محمود كان يُشيِّعُ نَفْسَهُ يوم كَتَبَ هذه القصيدةَ بين صيف 2006 وصيف 2007 (هو لم يحدِّد. لأنَّه غالبًا لا يؤرِّخُ قصائَدُه ولا يحدِّد أمكنةَ كتابتها، خصوصًا فى سنواتِهِ الأخيرةِ).
'وأُشيِّعُ نفسى بحاشيةِ من كمنجاتِ إسبانيا
ثُمَّ
أمشى
إلى المقبرة'.
'لم أكتب السَّطْرَ الأخيرَ من الوصيِّةِ،
لم أُسَدِّد أى دَيْنٍ للحياة'.
'وَطَارَ الموتُ من لُغَتى إلى أشغالِهِ'.
كأنَّ محمود فى كتابهِ الأخيرِ 'أَثَرُ الفَرَاشَةِ'، كان يودِّعنا، يودِّع لُغته، مَاءَ قصيدتِهِ، صَوْتَهُ فى رنَّة الذَّهَبِ حينما يَنْزِلُ من نَارِهِ.
وَافَقَ محمود أن أدوِّنَ، دُونَ أَنْ أخدشَ صَمْتَهُ، أو استرسالَهُ، وكان يتحدَّثُ دون أَنْ أَعِدَ بالنَّشْرِ قريبًا. ومحمد حجازى يُصوِّرُ، ولم نَنْشُرْ صورةً أو كَلِمةً واحدةً قبل موتِهِ.
وظلَّت الذكرياتُ محفوظةً بتدوينها الأولى فى مفكِّرتى، وأنا أَسَاسًا لا أستخدمُ المفكِّراتِ فى التدوينِ، وهى المرَّةُ الأولى فى حياتى التى أدوِّنُ فيها لصديقٍ. فَأَنَا عادةً أدوِّنُ لنفسى فى رحلاتى فقط، أو فيما يتعلَّقُ بشعرى.
وما سأكتبُهُ الآَنَ ليس كُلّ ما دوَّنْتُهُ، لأنَّ بَعْضَ ما قال محمود، لا يجوزُ أَنْ يُنْشَرَ الآنَ، لكنَّه قَال، ويدركُ أَنّهُ سَيُنْشَرُ يومًا ما، كأنَّ عبئًا ما كان يحملُ، هى وجهاتُ نَظَرٍ أراد أن يقولَها حتَّى لو عَرفَها شَخْصٌ واحدٌ على هذه الأرض، هو أنا.
بدأتُ التدوينَ فى يوم الخميس الثانى والعشرين من مايو 2003 ميلادية. وسأكتفى بأجزاءٍ مما دوَّنتُ، كى يتعرّفَ قارئُ محمود جَوَانبَ من حياتِهِ الشخصيةِ.
وسأعلِّق أحيانًا لأضِئَ، أو أضيفَ؛ كى يكتملَ المشْهَدُ (مع أنَّ المَشَاهِدَ تظلُّ دوماً ناقصةً حتَّى بعد مَوْتِنَا).
أعشقُ صوتَ الشِّيخ عبد الباسط عبد الصَّمد (عادةً ما يقومُ محمود من نومه فى التاسعةِ صباحًا، ويتناولُ قهوته مضبوطةً و'من غير وش' على حدِّ تعبيره). ولا يتناولُ إفطارَهُ فى مطعم الفندق إذا كان على سَفَرٍ، إذْ يفضِّل الأكلَ فى الغرِفةِ، وهو عمومًا لا يأكلُ كثيرًا، ولا يأكلُ الأرزَ.
فى أوائل عام 1971 جاء محمود إلى مصر، حيث كان يسكنُ فى حى جاردن سيتى فى وسط المدينةِ، وقبل ذلك كان نزيلاً فى فندق شبرد، وعمل فى جريدة الأهرام وكان يتقاضى راتبًا قدره (مئة وخمسون جنيهًا مصريًّا)، وكان مكتبه فى الطابقِ السَّادسِ من برج الأهرام مع كُتَّابِ الأهرام نجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس ولويس عوض وزكى نجيب محمود وبنت الشاطئ وآخرين.
وفى تلكَ الفترةِ زار بورسعيد والإسماعيلية والسويس والأقصر وأسوان، (نزل فى فندق كتراكت)، والإسكندرية إذْ حَضَرَ حَفْلاً لعبد الحليم حافظ وكان يشدو وقتذاك أغنية 'مدَّاح القمر' – كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدى'7من أكتوبر1932-17من سبتمبر1993' – أى قبل ست سنوات من موت عبد الحليم (30 من مارس 1977 ميلادية).
وكانت رحلة محمود درويش هى الثالثة إلى الإسكندرية، أمَّا الرابعة فكان مُحَدَّدًا لها فى أكتوبر أو نوفمبر 2008، خمسة عشر يوماً، وسبع أمسيات شعرية، وتسجيل ما تيسَّر من شعره على سبع إسطوانات DVD فى استوديو مكتبة الإسكندرية، على أن تُهدى المكتبةُ هذه التسجيلات إلى مكتباتِ العالم والمراكزِ الثقافيةِ فى كلِّ مكان.
يقول د.يوسف زيدان: قلتُ له: سأرتِّب لك إقامةً فى قصر السلاملك، فهو أفضلُ مكانٍ بالإسكندرية يليقُ بالشُّعراء. فقال: ليس هذا هو المهم، المهم أن تدعوَ أحمد الشّهاوى ليكونَ معنا .. قلتُ: سوف أعتقلُهُ فى الإسكندرية طوال أيامِ بقائِكَ بها، ولن أسمحَ له بالخروج منها ما دمتَ موجودًا، ضحك محمود درويش، وقال ما نصّه: 'هذا جيِّدٌ، حتَّى نسترجعَ ذكرياتِ الزيارةِ السَّابقةِ'.
فى المرَّة السابقة مايو 2003، نزل محمود فى الغرفة رقم 308 بفندق سيسل (تأسَّسَ عام 1929) بجوار غرفة أم كلثوم'4من مايو 1889-3 من فبراير1975'، وهى الغرفة التى كانت تقيم فيها وقد أحبَّ محمود هذا الفندقَ، أو تلك الإقامةَ لأسبابٍ كثيرةٍ منها أنه قريبٌ من بيت الشَّاعر اليونانى السكندرى قسطنطين كفافيس (29 من أبريل 1863 – 29 من أبريل 1933) وأنه – أيضًا – شهد كتابةَ لورانس داريل'27من فبراير 1912-1990' ل 'رباعية الإسكندرية' كما أنَّ بعض غُرَفِهِ تحملُ أسماءً لفنانين وكُتَّابٍ ومبدعين نزلوا فيه، ويحبُّهم محمود أو شَاهَدَ أعمالهم وهو المُتيَّمُ بالسينما: عمر الشريف، طه حُسَيْن، أجاثا كريستى وغيرهم.
وبمناسبة كفافيس الذى زرنا بيته (متحفه)، وكلانا حصل على جائزة كفافيس فى الشِّعر، فقد طلبتُ منه كتابةَ كلمةٍ فى 'دفتر سجل الزيارات' كما جرت العادةُ مع كبار الزائرين، فكانت كلمته مدهشةً: 'زرتُ اليومَ غيابَ الشَّاعر قسطنطين كفافيس، فوجدته حاضرًا بأشيائِهِ الصُّغرى فى المكان، ولكنَّه حَاضِرٌ أكثر فى شِعْرِهِ العظيم، لأنَّ مَكَانَ الشَّاعر الحقيقى والطبيعى هو القصيدةُ فقط التى يضيقُ بها المكان'.
(وكانت زيارة محمود يوم الجمعة، الثالث والعشرون من مايو 2003). أما أجملُ الأسبابِ لفرحِ وابتهاجِ درويش بإقامتِهِ، فهو بسببِ تجاور غرفتِهِ غرفة أم كلثوم، وهى بالنسبة إليه 'إدمان الوحيد'.
قال لى: 'أم كلثوم معجزةٌ/وهى من الظَّواهرِ الكونيةِ/عبقريةٌ خَارِقَةٌ صوتُها فيه قوةٌ تعبيريةٌ'. حدَّثتُ محمود عن انزعاجى من كتاب 'الهَوى دونُ أَهْلِهِ' الذى كتبه حازم صاغية، وهو كتابٌ فى ذَمِّ أم كلثوم.
وبعد سنواتٍ فاجأنى محمود بنصِّه المدهشِ فى كتابِهِ الأخير 'أَثَرُ الفَراشَةِ'، عن أم كلثوم أسماه 'إدمان الوحيد':
'أستمعُ إلى أم كلثوم كلّ ليلةٍ، منذ كان الخميسُ جوهرتَها النادرةَ، وسائر الأيام كالعقدِ الفريدِ. هى إدمانُ الوحيدِ. وإيقاظُ البعيدِ على صهيلِ فرسٍ لا تُروَّض بسرجٍ ولجامٍ. نسمعها معًا فنطربُ واقفين وعلى حدة فنظلُّ واقفين .. إلى أن تُومئَ لنا الملكةُ بالجلوسِ فنجلسُ على مترٍ من ريحٍ.
تقطِّعنا مقطعًا مقطعًا بوترٍ سحرى لا يحتاجُ إلى عودٍ وكمانٍ .. ففى حنجرتها جوقةُ إنشادٍ وأوركسترا كاملة، وسرّ من أسرار الله. هى سماءٌ تزورنا فى غيرِ أوقاتِ الصلاةِ، فَنُصلِّى على طريقتها الخاصة فى التجلِّى. وهى أرضٌ خفيفةٌ كفراشةٍ لا نعرفُ إن كانت تَحْضِرُ أم تغيبُ فى قطرةِ ضوءٍ أو فى تلويحةِ يدِ الحبيب. لآهتها المتلألئةِ كماسةٍ مكسورةٍ أن تقودَ جيشًا إلى معركةٍ.
ولصرختها أن تعيدَنَا من التهلكةِ سالمين. ولهمستها أن تُمْهِلَ الَّليْلَ فلا يتعجَّلُ قبل أن تفتحَ هى أولاً بابَ الفَجْرِ...'
إلى آخرِ النصِّ الذى أدعو حازم صاغية إلى قراءته علَّه يعيدُ النَّظَرَ فى كتابه الذى لم يُكْتَبُ له 'النجاح' الذى أراده له.
هل قُلْتُ إنَّ درويش ونحن خارجان من بيتِ كفافيس الذى صار مُتْحَفًا، قال لى إن 'كفافيس قَضَى على الأقلِّ على ثلاثين شاعرًا عربيًّا'.
ومقولته واضحةٌ، وخطيرةٌ وَدَالَّةٌ وحقيقيةٌ، لكنَّه لم يُسْم أحدًا ممن قَضَوْا تحت 'سنابك' كفافيس فى معركةِ التأثُّرِ والتقليدِ والمحاكاةِ.
كان محمود يعرفُ أنَّنى أحبُّ صوت عفاف راضى، وأنَّها قريبةٌ منِّى روحًا وَشَخْصًا فقال لى: 'عفاف راضى صوتها خاصٌّ جدًّا'. بالمناسبةِ هو لم يحب صوت محمد فوزى'28 من أغسطس 1918-20 من أكتوبر 1966'، لكنَّه فاجأنى بحبِّه لموسيقى أغنية 'العتبة قزاز والسلم نايلو فى نايلو' التى غَنَّتها ليلى نَظْمى (وهى أغنيةٌ شهيرةٌ ذاعت بعد هزيمة 1967 وهى من ألحان الموسيقار الطليعى على إسماعيل (الخميس 28 من ديسمبر 1922- الأحد 16 من يونيو 1974).
كان مذياع السيارة التى تُقلُّنا محمود وأنا مفتوحًا على 'إذاعةِ الأغانى'، وأطلَّ على آذاننا كمال حُسنى'1929-أبريل2005' بأغنيته: 'لو سلمتك قلبى واديت لك مفتاحه' وحاول محمود أن يتذكَّرَ الأغنيةَ، باعتبارها من الأغنياتِ التى يحبُّها، والصَّادرةِ عن صوتِ كمال حسنى الذى يُحِبُّ، وهذه الأغنيةُ وُضعت بمناسبةِ الوحدةِ بين مصر وسوريا عام 1958 ميلادية.
قال لى: 'الشَّاعر ينضجُ فى الأربعين، أُفضِّلُ شِعْرَ أحمد شوقى فى المسرحياتِ والغزلياتِ، وهو من أمتن الشُّعراءِ فى القرنِ العشرينِ. لقد تحقَّقَ شعر صلاح عبد الصبور فى المسرحيات، فالصنعةُ عنده مُحْكَمةٌ. لم أحب شِعْرَ حافظ إبراهيم.
قال لى فى نَدَمٍ: 'نشرتُ شِعْرِى مُبَكِّرًا'. ، أَخْطَرُ شئٍ أَنْ يُقَرِّرَ الشَّاعرُ قصيدتَهُ سَلَفًا.
قال لى: سِياقُ المقطعِ الأوَّلِ هُوَ الذى يُقَرِّرُ القصيدةَ. وهذا هو الفَرْقُ بَيْنَ النَّظْمِ والكتابةِ. وأصعبُ قافيةٍ هى السَّهْلةُ، لأنَّها مُسْتَهْلَكَةٌ، ولابدَّ عِنْدَمَا تستخدمُها أن تجدِّدَهَا، لم أقرأْ العَرُوضَ، ولم أتعلَّمْهُ، وليس لدى كِتَابُ عَرُوضٍ وَاحِدٍ. فيما بعد اطَّلعتُ على كتابٍ بسيطٍ فى العَرُوض. لم أتعلِّمْ العَرُوضَ بتاتًا، كان ذلك بالسليقةِ، وقرأتُ – فقط – كتابًا لضبطِ القواعدِ. وَأُحسُّ أنَّ لدى سَيْطَرةً على العَرُوضِ.
قال لى: أَنَا من أَكْثرِ الشُّعراءِ نكدًا. فَأَنَا أكتبُ القصيدةَ أَرْبَع مرَّاتٍ، معدَّل مَا أَنْشُرُهُ هو ثلثا ما أكتبُ، والثلث الآَخَرُ للإبادةِ. ولا يوجدُ نصٌّ شعرى شِبْه مُنَزَّلٍ، فَلاَبُدَّ أَنْ تَعْمَلَ 'كولاج ومونتاج'، أؤمنُ بالصَّنْعَةِ بَعْدَمَا تقومُ السَّليقةُ بدورها، السُّلوك يُنْسَى (سُلُوكُ الشَّاعِرِ)، ولكنَّ النَّصَّ يَبْقَى، إِذَا فَقَدَ الشَّاعِرُ أسلوبَهُ فَقَدَ شخصيتَهُ.
قال لى: لدى نظامٌ للفوضى، كلُّ شىء فى حياتى مُنظَّمٌ إلاَّ مكتبى، فَإِذَا رُتِّبَ أَضِيعُ. أُكَدِّسُ الجرائدَ والمجلاتِ ثم بعد عامين أرميها. إنَّ ًأصعبَ شىء على ترتيب الأوراقِ والمكتبِ الخاصِّ بى. ولا أكتبُ حَرْفًا واحدًا بالَّليل. إنَّ ذروةَ العملِ عندى من العاشرةِ صباحًا وحتَّى الثانيةِ ظهرًا. فأنا لستُ صديقًا لليل، مع أنَّه صديقٌ للشُّعراء، وما لا أَرْضَى عَنْهُ من شِعْرٍ أَتَخلَّصُ مِنْهُ نهائيًّا، إلاَّ ما أرى فيهِ قد يَصْلُحُ فى عَمَلٍ آَخَر، وما لا نَرْصَى عنه هو 'عورات الشُّعراء' فلا ينبغى أن تظهرَ على النَّاس.
قال لى: نتأخَّرُ أَحْيَاءً، وَلاَ نَصِلُ مَوْتَى. (فى مَسْأَلَةِ قَلَقِ المُسَافِرِ. كان محمود يطلبُ من السَّائِقِ أن يقودَ السيَّارةَ بسرعةٍ تتراوحُ بين تسعين إلى مئة كيلو متر فى السَّاعة. ولم أر شاعرًا قَلِقًا مِثْل محمود درويش فى حياتى)، فى الرابع والعشرين من مايو 2003 ذهبنا إلى أحد أشهر مطاعم الأسماك فى الإسكندرية وهو 'سى جل' بمنطقة الماكس، وجلسنا على المنضدةِ رقم 131. وكان شعار المطعم 'من البحرِ إلى المائدة'، فقال محمود مُعَلِّقًا – وهو السَّاخر العظيم لمن لا يعرفُ – 'من البَحْرِ إلى المَعِدَة'.
قال لى: ما تزالُ مفكرتى القرمزية بلونِ دم شَفِقِ الأيامِ مَْلأَى بذكرياتٍ، وحِكَمٍ، وآراءٍ، وقفشاتٍ، ونكاتٍ، وعوالم محمود درويش لكنَّ بَعْضَ مَادَوَّنْتُ هَلْ أَنْشَرُهُ، أَمْ أَنْتَظِرُ، أم أَحْفَظُهُ فى روحى إلى أَنْ أرى محمود بَعْدَ أَنْ تموتَ أشيائى التى لن تُدْفَنَ معى يَوْمَ أَمُوتُ، لأنَّها لا تموتُ مِثْلى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.