كانت السيارة تنهب الطريق تحت حرارة الشمس اللافحة، ويحدونى الأمل إلى زيارة واحدة من حواضر مصر القديمة التى كان لها تاريخ عريق تشهد عليه أطلالها الباقية، فتهوّن علىّ مشقة السفر فى هذا الصيف الحار. إنها قرية تل الفراعين التابعة لمركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وتل الفراعين هو الاسم الحديث للقرية التى تغطيها ثلاثة تلال، كانت تمثل موقع مدينة بوتو القديمة عاصمة الإقليم السادس من أقاليم مصر السفلى فى مصر القديمة، ويعدّ تل الفراعين من المواقع الأثرية المهمة التى تعود آثارها إلى البدايات الأولى لتاريخ مصر القديمة حتى العصر الرومانى، حيث تشير النصوص والمناظر المسجّلة على معابد مصر القديمة إلى أن مدينة بوتو بحييّها الشهيرين «به» و«دب» كانت عاصمة لمصر السفلى ومقرًا لحكام الشمال ومملكتهم قبل توحيد مصر على يد نارمر فى عصر الأسرة الأولى نحو 3200 ق.م. واختصت المصادر المصرية القديمة مدينة بوتو بالطفل حورس وليد المعبود أوزوريس والمعبودة إيزيس اللذين دارت حولهما أكبر أسطورة فى مصر القديمة، والتى كانت أكبر ملحمة شعبية تؤكد دوام الحياة وانتصار الخير على الشر، حيث كان أوزيريس ملكا محبوبا بين البشر يحكم بين الناس بالعدل ويرشدهم إلى سُبل الحياة الكريمة، فحقد عليه أخوه الشرير «ست»، ودبَّر له مكيدة أدت إلى قتله ثم اغتصب العرش منه، لكن ظلت إيزيس وفيّة لزوجها بعد مماته، فقامت على رعاية وحيدها حورس الذى وضعته بين الأحراش فى جزيرة «آخبيت» بالقرب من بوتو، وأولت رعايته إلى الإلهة «واجيت» ربة مدينة بوتو، ليكون بعيدا عن بطش عمه ست، وعندما بلغ حورس مبلغ الرجال واشتدّ ساعده خرج ليثأر لأبيه أوزوريس فى معركة امتدت ثمانين عاما حتى استردّ حقه المغتصب، ثم أمرت الآلهة أن يكون أوزيريس ملكًا حيًّا فى عالم الأموات وسر الحياة الذى يبعث الأرض ويهبها الخصب ويدفع ماء الفيضان الذى كان يمثّل دموع إيزيس الوفيّة على زوجها أوزيريس فى موعده، كى يروى الحقول وينمى الحب فيها، وكان سكان بوتو أول مَن اعترفوا بحورس ملكًا وتوَّجوه عليهم إلى أن حكمت له الأرباب بأحقيته فى إرث أبيه، وأعلنته إلهًا للملكية فى عالم الأحياء، ولهذا أصبح ملوك مصر القديمة بمنزلة خلفائه وورثته على العرش، ونتيجة لهذا الدور الذى قامت به مدينة بوتو قبل توحيد مصر فقد ارتبطت على مرّ التاريخ بتاج الإلهة واجيت الأحمر كرمز للحرب والقتال، والذى كان يظهر على هيئة غطاء للرأس دائرى الشكل ويرتفع طرفه خلف الرأس إلى أعلى، وكان هذا التاج رمزًا لملكية الشمال، حيث ارتبطت طقوس التتويج به، فكان الملوك يتوّجون به كل عام فى عيد التتويج كملوك على الدلتا وورثة لحورس هناك، بل وظلت واجيت حامية لهذا التاج على هيئة حية الكوبرا التى تزيّن جبهة ملوك مصر القديمة طوال العصور التاريخية، ولا تزال أطلال معبد واجيت وأحجاره المتناثرة فى وسط تل الفراعين تشهد على ما كان يتمتّع به من ضخامة فى حجمه وثراء كبير فى عمارته، حيث كان يحتفل فيه بتتويج الملوك على الدلتا تحت رعاية واجيت كل عام.