خلاصة ما قلته فى المقالات السابقة إن ناصر كان محقا فى قرار التصعيد فى منتصف مايو 1967، وإن اتخذ هذا القرار على ضوء معلومات سوفييتية خاطئة، وكان محقا أيضا فى قراره بعدم شن هجوم على إسرائيل فى أواخر مايو، وإن الصواب جانبه عندما أغلق خليج العقبة، وإن كان من المستحيل الادعاء أن عدم الإغلاق كان سيجنب حتما مصر ويلات الحرب. وبصفة عامة، كان على ناصر إدراك أن ضعف دفاعه الجوى كان من شأنه تعريض القوات المسلحة لمخاطر كبيرة، وكان عليه إرسال إشارات أكثر وضوحا تفيد رغبته فى حل دبلوماسى، ولا أظن -وقد أكون مخطئا- أن الانهيار العسكرى كان حتميا، أقولها رغم رفضى للحل السهل القائم على تحميل عبد الحكيم عامر كل المسؤولية، هذا الحل تعوزه الدقة رغم اعترافنا بسوء أداء المشير، لأنه من الصعب إدارة معركة فى صحراء دون غطاء جوى. ولم أتعرض فى مقالاتى السابقة لقضايا كثيرة، منها على سبيل المثال لا الحصر هل كان من الضرورى الدفاع عن قطاع غزة وإطالة خطوط الجبهة؟ هل كان التمترس فى مضايق سيناء ممكنا؟ هل كان تبادل المعلومات بين ناصر وعامر دون المستوى؟ هل وقع ناصر فى فخ الكاريزمية التقليدى، البطل القائد يعلم أن الجماهير تنتظر منه معجزات فى طريق العزة والكرامة وتحقيق آمال الأمة ويتخطى الخط الرفيع الذى يفصل بين المجازفة المحسوبة والمخاطرة غير المسؤولة؟ أعتقد أن الرد على النقطة الأخيرة هو لا ، رغم حجم الكارثة، تلك الهزيمة النكراء لها ألف أب، ولا يتحمل وزرها شخص بمفرده، ولا هيئة أو جهة سيادية دون غيرها. الجيش لم يخن القائد السياسى والقائد السياسى لم يخن الجيش، من الواضح أن لا ناصر ولا عامر ولا الاتحاد السوفييتى أدركوا مدى تدهور أحوال الجيش، ولم يتنبهوا إلى إمكانية ورود سيناريو تجد فيه مصر نفسها دون سلاح طيران ودون مطارات لاستقبال طائرات جسر جوى لإمدادها بالسلاح. ما يهمنى الآن هو دراسة قراءة القيادات السياسية المصرية التى خلفت ناصر للهزيمة ولدروسها، مضمون تلك القراءة يستخلص هنا من ممارسات القيادات لا من تصريحاتها، ونستطيع أن نجملها فى مقاربة أولية فى أربعة عناصر، الهزيمة نتيجة لجوء كل من سوريا ومنظمة التحرير إلى استراتيجية التصعيد للتوريط، الاتحاد السوفييتى حليف لا يعتمد عليه، التصعيد العسكرى مع إسرائيل هو تصعيد مع الولاياتالمتحدة ويجب تجنبه إن أمكن، على الدولة المصرية مراجعة خطابها وأساليب عملها وجمعها للمعلومات وتطويرها، دون تعديل حقيقى فى بنيتها وهيكلها وهرميتها (إذا استثنينا القضاء على ازدواجية الحكم بعد وفاة عبد الحكيم عامر، وتضخم وزارة الداخلية بعد رحيل ناصر)، وهذا المنهج فى الإصلاح مفهوم ومنطقى فى وقت الحرب، ولكن التمسك به فى وقت السلم خيار يمكن أن يناقَش وينتقد. النظام الإقليمى الشرق الأوسطى تميز دائما بسعى القوى العالمية والإقليمية الكبرى لبسط نفوذها عن طريق دعم وتمويل قوى محلية أصغر حجما، وبسعى القوى الصغرى إلى افتعال أزمات لإجبار حلفائها الأكبر على التدخل لحمايتها وعلى التفاوض نيابة عنها، أو لتوريطهم فى النزاع، وهذا ما حدث سنة 1967، وفى أثناء الحرب الأهلية اللبنانية، وسنة 1982، ومن الواضح أن مصر حرصت بعد سنة 1967 على عدم السماح لأى طرف بجرها إلى مغامرات غير محسوبة، سواء قبل اتفاقيات السلام مع إسرائيل أو بعدها. النقطة الثانية أكثر تعقيدا، علينا الإقرار أن المشكلة فى الستينيات والسبعينيات لم تكن مشكلة تسليح، السلاح السوفييتى كان قادرا على منافسة السلاح الأمريكى والفرنسى، وعلى التفوق عليهما أحيانا غير قليلة، التفوق الأمريكى الواضح ظهر فى أواخر السبعينيات وفى الثمانينيات. العرب كانوا يشكون فى رغبة وقدرة موسكو فى التصعيد مع الولاياتالمتحدة، وفى متانة الاقتصاد السوفييتى وقدرته على مجاراة الاقتصادات الغربية، وعلى حسم سباق التفوق التكنولوجى، وللحديث بقية.