أوضحت فى المقالة السابقة ملابسات قرار جمال عبد الناصر بالتصعيد ضد إسرائيل لدرء وردع هجوم شامل على سوريا ونظامها الذى تبنى خيار المناكفات العسكرية المحدودة، دون التنبه الكافى إلى قدرة إسرائيل على التصعيد، ولتمتعها بغطاء دولى كاسح، ونعلم جميعا كيف انتهت المواجهة، أهم هزيمة عسكرية لمصر وللأمة العربية فى القرن العشرين واحتلال إسرائيلى لأراض عزيزة، وقُتلت حرب 67 بحثًا، وتعرضت الدراسات المختلفة للجوانب العسكرية والسياسية والدبلوماسية والاستراتيجية والاقتصادية والإعلامية لمقدمات الحرب وأحداثها وآثارها. ويواجه الباحث المحب لناصر المؤمن بقيمه معضلة، إذا أثبت أن ناصر لم يرتكب خطأ يذكر قبل وفى أثناء الأزمة، وقال إن نتيجة حرب يونيو حتمية، لا مفر منها ولا يد لناصر فيها، لأن لا أحد فى المنطقة يستطيع مواجهة تحالف أمريكى إسرائيلى، فمعنى ذلك أن المشروع السياسى الناصرى فاشل، لأنه يؤدى حتما إلى كارثة، والاستسلام للقوى العظمى، وقبول شروطها أجدى من السير فى درب النضال من أجل التحرر الوطنى وتحقيق الوحدة العربية، وإذا أثبت أن ناصر ارتكب أخطاء جسيمة، عرضناه لسهام كل من هب ودب، وقللنا من شأن قدراته السياسية الفذة. وحاول المخلصون لناصر -وأعتقد أننى منهم- التخلص من المأزق بالجمع بين خطابين رئيسيين، أولهما يلقى المسؤولية كلها على المرحوم عبد الحكيم عامر ورجاله، ويعدد أخطاءه وأوهامه ويركز على ضعف مؤهلاته العسكرية، وعلى سوء اختياره لبعض أو كل معاونيه، وعلى انهياره النفسى بعد تدمير سلاح الطيران... إلخ، والثانى يتحدث عن مؤامرة أمريكية معقدة لاصطياد الديك الرومى، ولإطلاق يد إسرائيل، ونجد فى بعض الأدبيات خطابا ثالثا أقل شيوعا، يزعم وجود مؤامرة سوفييتية، للتخلص من عبد الحكيم عامر، ولإجبار مصر على الدخول الكامل فى الفلك السوفييتى. ولسنا بصدد مناقشة تفصيلية للاتهامات الموجهة إلى عامر، من الواضح أن بعضها يستند إلى وقائع ثابتة لا جدال فى صحتها، والبعض الآخر فيه تجنٍ وافتراء، لكننا نريد أن ننبه إلى بعض الأمور، أولها أنه يبدو أن الإجماع على التقييم السلبى جدا لأدائه له ما يبرره، وأن عامر لم يدرك قبل الحرب مدى تفوق الجيش الإسرائيلى، وثانيها أن سوء اختياره لمرؤوسيه لا يعود دائما إلى أغراض فى نفسه أو لقصور فى قدراته، وإنما يُفسّر فى أحوال كثيرة بغلبة اعتبارات موضوعية ذات صلة بضرورة تأمين النظام السياسى المستهدف من الأعداء، وفى نفس الصدد، من الممكن تبرير بعض خياراته (التأجيل الدائم لعملية بناء الدشم الضرورية لإخفاء وحماية الطيارات) باعتبارات الشح المالى، وثالثها أن عامر كان ركنا أساسيا للنظام، وصديق ومساعد ناصر الأول، وبالتالى إدانة عامر هى أيضا إدانة لمن عيّنه ولم ينجح فى كبح جماحه، ورابعها أننا لم نبحث بالقدر الكافى مدى تأثير سلبيات عامر وصفاته على الأداء العام فى أثناء المعارك، بمعنى آخر، أشك جدا فى قدرات أى قائد مهما عظمت موهبته على إدارة ناجحة لمعركة بعد التدمير الكامل للقوات الجوية. مشكلة تقييم أداء عامر بالغة الأهمية، ووثيقة الصلة بقضية أخرى، وهى مدى علم الرئيس عبد الناصر بأحوال الجيش وقدراته القتالية، فلقد أثبت باحثون إسرائيليون أن إدارة الرئيس المصرى للأزمة بالغة الحرفية والعقلانية، لو (والشرط مهم) كانت القوات المسلحة قادرة على الصمود، وبالتالى يتطلب الحكم النهائى على قرارات ناصر الرد على سؤالين، هل كانت قيادة الجيش قادرة على تفادى فقدان سيناء وتدمير القوات المسلحة فى ظل المعطيات المتعلقة بحالة القوات المسلحة؟ وهل كان عبد الناصر يعلم أن ظروف القوات المسلحة (الوجود فى اليمن والتقشف النسبى نظرا للأحوال الاقتصادية) لا تسمح لها بمواجهة ناجحة مع إسرائيل؟ ويبدو لى أن الإجابات الدقيقة عن السؤالين ترسم صورة بالغة التعقيد، نتناولها فى المقال القادم.