تقييم أداء عبد الناصر فى أثناء الأزمة التى أدت إلى حرب 1967 يتطلب تحديد مدى علمه بسوء أحوال جيشه، وهنا أيضًا نواجه مفارقة، جهله بأحوال جيشه يعفيه من المسؤولية المباشرة عن الهزيمة، إلا أنه يدين آليات عمل نظامه، التى تسببت فى هذا الجهل، الذى أدى إلى نتائج كارثية، وبالطبع، المصيبة أعظم إن كان الرئيس عالمًا بالحالة السيئة للقوات المسلحة. والحقيقة، مرة أخرى، بالغة التعقيد، ونجتهد هنا لفهم ما حصل دون رغبة فى توزيع الاتهامات يمينًا ويسارًا، آملين فى استخلاص عبر وفى إنصاف من ظلم. سألت الراحل زكريا محيى الدين، وكان رده أنه متأكد أن كل نواب رؤساء الجمهورية كانوا على علم دقيق بأحوال الجيش، لكنه لا يستطيع أن يحدد مدى علم عبد الناصر بذلك، لأن مفاتحته فى هذا الموضوع كانت تشكل هجومًا صريحًا على صديقه الصدوق عبد الحكيم عامر، يُفهَم منه أن المتحدث طامع فى كرسى المشير، ورغم توتر العلاقة بين ناصر وعامر، فقد ظل الرجلان يعتبران هجوم أحد النواب على أحدهما كأنه هجوم على الثنائى. وسألت مرتين عضوًا عسكريًّا فى لجنة كتابة التاريخ اطلع على مختلف الشهادات، ورد مرة قائلا: إن الغالب أن ناصر كان يعلم أن أحوال الجيش ليست على ما يرام، لكنه لم يتخيل أنها بمثل هذا السوء. وقال مرة أخرى إن ناصر لم يكن يعلم حقيقة أحوال الجيش، رغم توافر مؤشرات كثيرة ودالة، لأنه، لعوامل نفسية مفهومة، لم يكن يريد أن يعلم أن جهوده الجبارة لم تفلح فى إيجاد جيش قوى. ومن ناحيتى عثرت فى الوثائق الأمريكية على برقية أرسلت سنة 1965 تفيد أن ناصر أعرب صراحة أمام ساسة أمريكيين عن امتعاضه من تقاعس السوفييت عن تقوية دفاعه الجوى. وعلى النقيض من ذلك، يقال كثيرًا إن عامر نجح فى عزل عبد الناصر عن الجيش، وفى منع تدخله فى شؤونه، وفى حجب أخباره عن الرئيس. ويضاف أن ناصر حاول اختراق الستار الحديدى بتكلفة بعض الضباط الأحرار بتقصى غير رسمى للحقائق، وبعض المراسلين العسكريين بموافاته ببعض المعلومات، وهناك من يروى وقائع ومواقف يستشف منها أن معلومات عبد الناصر عن حالة القوات المسلحة اقتصرت على الكم «عدد القوات والمعدات والأسلحة» دون الكيف «نوعيتها وصلاحيتها». ولا أستطيع حسم قضية التنسيق بين ناصر وعامر ومدى اطلاع الأول على معلومات الثانى، فى غياب الوثائق، إلا أننى أجد بعض الصعوبة فى تصديق الرأى القائل بجهل عبد الناصر التام بحقيقة أحوال الجيش، لأنه كان يعلم على سبيل المثال أن الاتحاد السوفييتى كان عاجزا عن تلبية طلبات الجيش المصرى، أو غير راغب فى ذلك. خلاصة القول، إن عضو لجنة كتابة التاريخ اقترب كثيرًا من الحقيقة، من الواضح أن ناصر لم يكن على علم دقيق بأوضاع الجيش، وأن عامر لم يطلعه على تفاصيل الصورة، ولم يقم بتشخيص صادق لمدى استعداد القوات المسلحة، ولا أدرى إن كان ناصر عالمًا بتوصيات القيادات العسكرية الصادرة أواخر سنة 66، بتجنب أى مواجهة عسكرية مع إسرائيل فى الثلاث سنوات المقبلة. وسواء علم أم لا، فإنه من الواضح أنه لم يتخيل لحظة أن الأمور بمثل هذا السوء، وأظن أنه اعتقد أن القوات المسلحة تعانى من نقص حاد فى المعدات والأسلحة، لكنه لم يدرك تأثير هذا على قوات منهكة. وتثير إجابتنا قضيتين، أولاهما ضرورة الجمع فى كتابة التقارير بين غزارة المعلومات ودقة التحليل والتقييم، مد القيادة بكل المعلومات لا يكفى، وثانيتهما، إذا كان التصعيد ضروريا لإنقاذ سوريا ولردع إسرائيل «كما أعتقد»، هل كانت إدارة ناصر للأزمة فى الأسابيع السابقة للحرب موفقة؟ هل أجاد اللعب بأوراقه؟ للحديث بقية..