قُلنا فى المقالة السابقة إن الحكم على أداء عبد الناصر فى أثناء الأسابيع التى سبقت حرب يونيو يتطلب أولًا الرد على سؤالين، هل كان الجيش يستطيع الصمود فى مواجهة مع إسرائيل فى ظل ظروفه آنذاك لو وُفقت قيادته؟ وهل كان عبد الناصر على دراية بحالة الجيش المتأثرة كثيرا بحرب اليمن الطويلة وبسياسات التقشف؟ وفى الواقع، لا يملك أحد ردًّا قاطعًا على السؤالين. ذلك أن الرد على السؤال الأول يتطلب الخوض فى سيناريوهات لم تحدث، لم ولن تُختبَر، وفى بدائل تم استبعادها، أى يتطلب تخمينا وخيالا وانضباطًا شديدا فى تناول المعطيات، مما يمكن قوله إن سلاح الطيران كان فى وضع لا يحسد عليه، عليه تحمل الضربة الأولى دون إمكانية إخفاء الطائرات والمعدات، ودون دفاع جوى وأجهزة رادار فعالة، لتقاعس الاتحاد السوفييتى عن إمداد مصر باللازم، وبالمناسبة، يرى البعض أن هذا التقاعس خير دليل على تآمر الاتحاد السوفييتى ضد ناصر ومصر، وهذا الكلام لا أساس له من الصحة، والحقيقة أبسط، احتمالات اندلاع حرب شاملة فى الشرق الأوسط كانت ضعيفة للغاية منذ دخول الجيش المصرى فى اليمن، وعلى النقيض، كانت فيتنام الشمالية تواجه الجيش الأمريكى وقواته الجوية فى حرب قاسية وطويلة، الجيش المصرى لم يكن بحاجة إلى منظومة قوية للدفاع الجوى فى حربه اليمنية، على عكس الجيش الفيتنامى، والمواجهة مع إسرائيل كانت مستبعدة. فى ظل وجود القوات الجوية، وبصفة عامة، كانت موسكو تثمن قيادة عبد الناصر وتحترمها، ولم تكن تثق بالقيادات السورية المتهورة، ويسوق أنصار نظرية تآمر الاتحاد السوفييتى دليلا ثانيا، سنقيّمه فى مقالة لاحقة. نعود إلى موضوعنا، من الواضح إذن أن الجيش كان سيضطر -إذا اندلعت الحرب- إلى مواجهة الجيش الإسرائيلى دون غطاء جوى كافٍ (على أحسن الفروض)، وبالتالى يكون السؤال هل كان يمكنه التمترس فى الممرات والصمود؟ لا أملك الخبرة العسكرية ولا المعلومات التى تسمح لى بالرد، ما يمكننى قوله إن رد الراحل زكريا محيى الدين على هذا كان بالسلب، وأعترف أننى لم أسأله السؤال التالى، هل كان من الممكن التمترس فى الممرات فترة تكفى لحل دبلوماسى للأزمة، ذلك أننى قدرت أن هذا حديث فى علم الغيب، لأن إسرائيل كانت ستقاوم بشدة أى حل لا يهين ناصر. كل هذا لا ينفى التأثير السلبى للكم الهائل من الأخطاء المرتكبة على النتيجة النهائية، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر، تغيير خطط الانتشار مرات عديدة وعدم الالتزام بالخطة الأصلية، محاولة الدفاع عن غزة رغم استحالة هذا، مما تسبب فى التضحية بقوات غالية، تغيير الشفرة دون إخطار البعثة الموجودة فى الأردن، القرارات المتعلقة بتحركات الفرقة الرابعة مدرعة، جوهرة الجيش، التى تسببت فى تدميرها بالكامل، ونوجز القصة لمن لا يعلمها من الشباب، طُلِب من الفرقة حراسة الممرات مدة قصيرة ثم الانسحاب إلى غرب القناة، ثم غيرت القيادة العليا رأيها وأصدرت أمرًا بالبقاء فترة أطول، إلا أن تلك التعليمات الجديدة لم تصل أبدا إلى قائد الفرقة اللواء صدقى الغول، الذى نجح فى سحب قواته فى التوقيت المحدد سلفا، دون خسائر، إلا أنه طُلب منه عبور القناة مرة أخرى والعودة إلى الممرات، دون أى غطاء جوى، مما تسبب فى تدمير الفرقة، رغم بطولات قياداتها وأفرادها. خلاصة القول إنه يبدو لى أن النتيجة الطبيعية لميزان القوى آنذاك هى خسارة مصر سلاحها الجوى «إلا أنه كان من الممكن إلحاق خسائر أكبر بالطيران الإسرائيلى»، وخسارة جزء كبير من أرض سيناء وربما كلها، إلا أنه كان من الممكن تفادى تدمير وانهيار القوات البرية لو أديرت المعركة بحنكة أكبر، ولا نريد التجنى على أحد، لأنه من الصعب جدا على قائد خسر قواته الجوية، وتعرضت طائراته للقصف، وانهالت عليه بغزارة ودون انقطاع الأخبار السيئة، أن يحافظ على تماسكه وعلى قدراته على الحكم السليم، وننتقل فى الحلقة التالية إلى السؤال الثانى، هل كان عبد الناصر يَعلَم؟