لم يعد هناك من يتهم الصين بإخفاء نواياها. فبعد سنوات من اتباع مقولة دين شياو بينج حول السياسة الخارجية المقيدة كأفضل سبل تعزيز صعودها السلمى، تبدو بكين الجريئة الآن أكثر قدرة على التلويح بعناصر قوتها وإنجازاتها. وسواء كانت تحيى زائريها الكبار بطائرات الشبح المقاتلة، أو تشجع التعامل بعملتها فى الخارج، أو تسمح لجنرالاتها المتقاعدين بتسمية بحر الصين الجنوبى منطقة «مصلحة جوهرية»، فقد مضى الزمن الذى كانت بكين تبدو فيه متوارية. والسؤال هو، ما هو نوع القوة الخارجية الذى ستمثله الصين، مع تنامى ثقتها فى نفسها، وبينما تجذبها مصالحها الاقتصادية الممتدة من جنوب شرق آسيا إلى أفريقيا وصولا إلى أمريكا اللاتينية، نحو الانغماس بصورة أعمق فى الشئون الدولية؟ فعلى العكس من اليابان، لن تبقى الصين ثانى أكبر اقتصادات العالم حتى العام الماضى تابعة لأمريكا. ووفقا لتعبير بول كيتنج، رئيس وزراء أستراليا السابق، فإن النظام الدولى بدأ يعود إلى حالة طبيعية أكثر، لن تكون فيها ثانى أهم قوة عالمية «دولة عميلة» لدى القوة الأولى. وحتى فى هذه المرحلة المبكرة من عملية قد تستغرق 30 عامًا على الأقل حتى تتكشف تمامًا، من الممكن أن يشكل ذلك معالم السياسة الخارجية للصين. ومن الاختلافات الصارخة بينها وبين الولاياتالمتحدة التى يزورها الرئيس الصينى هو جينتاو هذا الأسبوع أن الصين ليس من المحتمل أن تسعى لجذب الأتباع. فقد قامت أمريكا على الأفكار والتعاليم. وعندما يقترن ذلك مع جذورها المسيحية، ينتج نزعة بروتستانتية قوية، حيث يفترض جانب كبير من خطاب الولاياتالمتحدة أنها طرحت نظامًا متفوقًا؛ سواء فيما يتعلق بدستورها أو فضائل ديمقراطيتها الليبرالية، وأيديولوجية السوق الحرة. وغالبا ما تتولى أمريكا الزعامة عبر تقديم القدوة، وجاذبية النموذج الذى تمثله، لكنها لم تتورع عن استخدام القوة عبر الانقلابات فى أمريكا اللاتينية أو الحرب فى فيتنام والعراق فى محاولة لفرض رؤيتها على العالم. وعلى النقيض من ذلك، تفتقر الصين إلى مثل هذا النوع من الإكراه الأيديولوجى. لكن بكين ليست غافلة عن فائدة القوة الناعمة. حيث أخذت عشرات من المعاهد الكونفوشية تنشر اللغة الصينية فى أنحاء العالم، كما صعَّدت وسائل إعلامها الحكومية جهودها لنشر «رؤية صينية» للعالم. ولكن الأيديولوجية لا توجه النظام الصينى، واقتصاده المختلط البراجماتى. فهما وسيلتان لتحقيق غاية، تتمثل فى خلق دولة غنية وقوية. ويقول أورفيل شل، رئيس شئون العلاقات الأمريكية الصينية بمركز مجتمع آسيا: «الأمريكيون أمة الزعامة على النمط البروتستانتى. أما الصين فتريد الاحترام وقبول مكانتها». اختبار عدم التدخل ويمثل عدم التدخل، المبدأ الرسمى للسياسة الخارجية الصينية. حيث لا يكاد يختلف تعامل الصين مع العسكريين فى ميانمار عن تعاملها مع الساسة الغربيين المنتخبين. كما لم تبد اهتماما بالتأثير على أجندة السياسة الداخلية للبلدان الأخرى. بيد أن تفضيلها عدم التدخل، سوف يقيده تشابك مصالحها على نحو أعمق مع بقية أنحاء العالم. وربما يكون الاختبار الأول فى السودان، حيث سعت بكين نحو إبرام اتفاقات مع الخرطوم بسبب تعطش الصين إلى البترول، غير أنها سوف تضطر لمد جسور مع جنوب السودان الغنى بالخام. وفى منطقة أخرى، ماذا سيحدث إذا وقعت صدامات عنيفة ضد التجمعات العرقية الصينية فى إندونيسيا أو ماليزيا؟ إذ يصعب على نحو متزايد، تخيل وقوف الصين مكتوفة الأيدى، وكيف سيكون رد فعل بكين إذا أممت حكومة أفريقية احتياطات معدنية مملوكة للصين، أو إذا تراجعت حكومة ديمقراطية فى بورما عن اتفاقات أبرمها الجنرالات مع بكين؟ كما كسبت الصين الكثير أيضا من طبيعتها غير التوسعية المفترضة. ففى العام الماضى استشهد الجنرال ما تشاو تيان بقول ماو تسى تونج: «بعد خمسين عامًا من الآن ستظل مساحة الصين تسعة ملايين و600 ألف كيلو متر مربع.. وإذا استولينا على بوصة واحدة من الآخرين سوف نجعل من أنفسنا معتدين». غير أن كل الدول كانت توسعية فى ماضيها، بطبيعة الحال، ولولا ذلك لظلت حتى الآن مقصورة على القرى والوديان. فقد كانت مساحة الصين تحت حكم أسرة كينج أكبر منها فى ظل أسرة مينج. ولكن إذا قبلنا تعريف الصين للدولة الوسطى دمج التبت وشينجيانج وتايوان فلن يبدو التأكيد عليه سطحيًا تماما. وتاريخيا، فضلت الصين إقامة علاقات تبعية هرمية مع القوى «الأقل» منها بدلا من الغزو الصريح لأراضيها. وعلى سبيل المثال، فهى لم تحتل أبدًا مملكة ريو كيو التى ظلت تابعة لها عدة قرون. أما اليابان، التى تبنت فى القرن التاسع عشر المفاهيم الغربية للدولة السيادية، فقد ابتلعت ريو كيو (صارت الآن أوكيناوا) وواصلت ضم الكثير من المناطق الآسيوية قسرًا خلال العهد الإمبراطورى قصير الأمد. ويرى كريستوفر فورد، مؤلف كتاب «العقل الإمبراطورى» أن الصين «تفتقر إلى تصور واضح للمساواة بين الدول الشرعية ذات السيادة». ويتوقع أن تصبح الصين، مع تنامى قوتها «أكثر حزمًا فى الإصرار على نمط العلاقة الهرمية المتمركزة حول الصين، فقد تعلمت من تاريخها أن تتوقعها». ويتوقع مايكل ويسلى، رئيس معهد لوى الأسترالى، أن تحاول الصين، فى الوقت المناسب، إبعاد القوات الأمريكية عن حدودها البحرية، وهو السبيل الأفضل لممارسة سلطتها على جيرانها الأصغر. وربما يكون هناك بالفعل إشارة لذلك. كما أصبحت الصين أكثر إصرارا على تأكيد حقوقها على كامل بحر الصين الجنوبي، رغم أن دولا أخرى تشترك فى مياهه، منها فيتنام، وتايلاند، والفلبين، وماليزيا. ويقول السيد شل من مركز مجتمع آسيا إن الصين سوف تسعى بشكل متزايد إلى إعادة ابتكار نظام التبعية القديم. ولن تضطر البلدان الأخرى إلى تقليد أيديولوجية الصين. ولكن سيكون عليها إبداء الاحترام، من خلال تنازلات إذا لزم الأمر. ويقول شل: إن الصين تريد «أن يعرف الجميع أنها ليست بحاجة لتقديم تنازلات من أجل الحفاظ على العلاقات مع الآخرين. من الآن فصاعدا سيكون على الآخرين تقديم تنازلات».