يدور فى مصر الآن جدل لا يخلو من طرافة حول صفقات الحكومة مع أحزاب المعارضة. كانت بدايته تقرير نشرته «صحيفة المصرى اليوم» حول صفقة انتخابية تمت بين الحزب الوطنى وبين حزب الوفد بشأن المقاعد التى «سيفوز» بها الحزب فى الانتخابات المقبلة. ولأن الخبر نشر أثناء انعقاد مؤتمر لأربعة من أحزاب المعارضة، فقد اعتبر ذلك طعنة للوفد ومؤامرة لإفشال المؤتمر، فى حين نفى رئيس حزب الوفد وجود الصفقة، وتوعد كاتب التقرير بمقاضاته وتقديم بلاغ ضده إلى النيابة العامة. عدت إلى القاموس لكى أطمئن إلى دقة المصطلح. فوجدت فى «محيط المحيط» أن الصفقة هى ضرب اليد على اليد فى البيع والبيعة. وكانت صفقة البيع عند العرب تتم بأن يضرب المشترى بيده على يد البائع إعلانا عن رضاه وموافقته. وحين انتقل المصطلح إلى عالم السياسة فإنه بات يعنى الاتفاق بين طرفين مختلفين على أمر ما، فيه مصلحة لكل منهما. مع ذلك فقد اختلفت صفقات السياسة عن صفقات التجارة من أكثر من وجه، فهى فى السياسة قد تكون علنية أو سرية، وقد تكون هى صريحة أو ضمنية، ومؤقتة أو دائمة. وإذا كانت الصفقات فى التجارة تتم بالتراضى فإن صفقات السياسة تنعقد أحيانا بالإكراه والإذعان، وهى تتم فى الأولى بمقابل مالى إلا أن الأمر ليس كذلك بالضرورة فى الثانية، حيث قد يكون المقابل وجاهة ونفوذا، يترجمان فى الأغلب إلى عائد مالى فى المستقبل. إذا احتفظت بهذه الخلفية ورجعت إلى الوراء مدققا فى الأسلوب الذى تشكل به الأحزاب فى مصر، فسوف تكتشف أن كل الأحزاب التى تمت إجازتها رسميا فى مصر لم تكتسب هذه «الشرعية»، إلا فى ضوء «صفقة» تمت، وأن الذين لم يجازوا أو الذين جمدوا بعد اجازتهم لقوا ذلك المصير لأن الصفقة إما فشلت أو لم يرد لها أن تتم من الأساس. وهو تحليل يقودنا إلى وجه الطرافة فى الموضوع، الذى يتمثل فى أن الأحزاب التى قامت بناء على صفقة وكتبت لها شهادة الميلاد بناء على ذلك. هى ذاتها التى باتت تعبر عن الغضب والاستياء حين قيل إنها أبرمت صفقة مع الحكومة فى أمر ما. إن لجنة الأحزاب التى يرأسها الأمين العام للحزب الحاكم هى المنوط بها إجازة الأحزاب فى مصر، الأمر الذى يعنى أن الحزب الحاكم هو الذى يعطى شهادة الميلاد لمنافسيه أو معارضيه. وذلك وجه آخر للطرافة فى الموضوع. صحيح أن هناك عدة اشتراطات قانونية تتعلق بعدد المؤسسين وتميز البرنامج لا يكفى استيفاؤها فى تحقيق الإجازة. وإنما يحسم الأمر عاملان آخران لا ينص عليهما القانون، الأول هو الملاءمة السياسية والثانى هو التقييم الأمنى. وعادة ما يكون العنصر الأمنى هو الأساس الذى تنبنى عليه الملاءمة السياسية. بكلام آخر فإن أى حزب لا يستطيع أن يقوم فى مصر إلا إذا حاز «الرضى» من جانب السلطة، وهذا أمر مفهوم، ذلك أنه فى النظم الديمقراطية يكتفى فى إقامة الحزب بإخطار السلطة فقط بتلك الرغبة، ثم يترك الأمر بعد ذلك للمجتمع من خلال التصويت الحر أن يقرر مدى نجاح برنامج الحزب أو فشله. لكن الأمر يختلف فى النظم غير الديمقراطية، حيث لا قيمة فيها للمجتمع الذى لا شأن له بنتائج الانتخابات. ذلك أن السلطة الأمن تحديدا هى التى تحدد من يدخل إلى السباق، وهى التى تدير اللعبة وتقرر حظوظ كل حزب من النجاح أو الفشل، خصوصا ان الأحزاب التى تولد من رحم السلطة تعانى من الإعاقة الطبيعية، وتحتاج دائما إلى عون السلطة ورعايتها. رضى السلطة هو التعبير المهذب عن الصفقة، وذلك الرضى لا يتحقق إلا من خلال اطمئنان الأجهزة الأمنية واقتناعها بأن مؤسسى الحزب يتمتعون باللياقة و«المرونة» التى تسمح لهم بالانضمام إلى الفريق اللاعب. هذا الرضى لم يكتمل فى حالة حزب «الوسط» الذى طلب رخصة الإجازة منذ 14 عاما ولا فى حالة حزب «الكرامة» الذى طلبها منذ عشر سنوات، ولأن الرضى رفع عن حزب «العمل» حين أراد أن يلعب مستقلا، الأمر الذى اعتبر إخلالا بشروط الصفقة، فإنه جمد منذ 11 عاما. ولأن الإخوان لم يشملهم الرضى فقد اقتنعوا بأن اجازتهم لا تقل استعصاء عن أمل إبليس فى الجنة. إن السياسة فى مصر ليست سوى صفقة كبرى، لذلك أعتقد أن غضب قيادة الوفد ليس راجعا إلى مبدأ عقد صفقة الانتخابات، وإنما إلى إعلانها على الملأ.